تجري تحت أعين الناس اليوم عمليات توظيف الدين في السياسة. أي أن ما يحدث هو رفض تنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، والحرص على إقحام الدين في مجال معروف بكونه فضاء يطبعه تحقيق الممكن من الآمال التي تشكل تطلعات فئات متعارضة من الناس. وقد لا تتحقق هذه الآمال لأسباب متعددة. وفي السياسة تُقدم الوعود وقد رأينا ونرى كيف يبقى الكثير منها مجرد وعود لا يتردد البعض في وصفها بالأقوال الكاذبة.
لقد استقر في وعي الناس أن الدين هو مجال الحقيقة المطلقة، وأن كل توظيف له إنما ينطلق من سلوك ورع ومستوى متقدم وعميق من التقوى والعتق. ولعل هذا هو السبب الأقوى الذي يجعل سياسيين من الصنف الذي عهده الناس في الحياة السياسية منذ اقتران الدولة وتقدمها بعمليات تشكيل الأحزاب، ينفرون من استعمال الدين في ميدان السياسة، وذلك في مقابل سياسيين آخرين لا يجدون أي حرج في أن يربطوا الأغراض الحزبية بالممارسة الدينية، أي أنهم يمارسون التظاهر بالورع وفي ذات الوقت لا يجدون أي حرج في تبادل السباب واللعنات مع النساء والرجال والشباب، وكل من قادته مقتضيات الفعل السياسي إلى مواجهة المسؤولين السياسيين. إن الحرص على قرن السياسة بالدين بالنسبة للأحزاب تحديدا وحصريا، هو نوع من الاحتيال والمكر يُمَارَسَان ضد المواطن وضد تقدم وعيه بمواطنته وهو نوع من الالتفاف على مصالحه المادية والتي تشغله أكثر من أي شيء آخر. ذلك أن الدوافع الحقيقية لاستحواذ المُوَظِفِين للدين لأغراض سياسية حزبية ضيقة هو جعل الناس يخضعون لسطوتهم، وهي سطوة من نوع خاص، إذ تنتمي بطبيعتها كما بمآلاتها إلى النزوع الفاشي والذي نعرف اليوم أنه أنواع وأصناف تتعدد بتعدد أشكال النزوعات التحكمية.
إنه لا يجمع ما بين الدين والسياسة شيء خليق بالذكر خارج طابع التعدد وصفة الاختلاف اللذين يقترنان بهما. يرتبط الدين بالتأويل الذي يتعدد بتعدد المؤولين. ويرتبط مجال السياسة باختلاف البرامج المادية. كيف يمكن الجمع بين المقدس والمادي وهما متباعدان على نحو فاصل. قد يقول قائل إن الدين واحد والتأويل متعدد وفي هذا رحمة للناس. وهو مذهب صحيح يستقيم في مجالات الدين التعبدية. أما إذا تم تحويله إلى فضاءات السياسة، فإنه يقود حتما إلى الاقتتال. كان هذا هو أصل « الفتنة» التي قاد إليها الاقتتال بين الإمام علي بن أبي طالب ، الخليفة الراشدي الرابع في تاريخ الإسلام وأشياعه، ومعاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية. وهو أصل «الفتنة الثانية» التي تجري فصولها اليوم بين «تنظيم الدولة الإسلامية» وباقي المسلمين مثلما قادت إليها جبهة الإنقاذ الاسلامية في الجزائر والتي تولدت منها تيارات جهادية عديدة زرعت الرعب في البلاد الجزائرية المجاورة للمغرب وتونس. ومن جهة أخرى وبعيدا عن روح الاحتراب والتدمير، يحق التساؤل أيضا – مع التسليم بفرضية السلم، لا الاحتراب- عما يمكن أن يجمع بين إسلامية رجب أردوغان وإسلامية الأستاذ فتح الله كولن في نفس البلد تركيا. وبالمثل ما الذي يجمع بين أصولية سعد الدين العثماني وأصولية عبد السلام ياسين في المغرب. هاهنا تأويلان، وسياستان حزبيتان. ونموذج فتح الله كولن الاسلامي جدير بالتأمل. فهو يرفض رفضا صريحا ومُعْلَناً توظيف الدين في مآرب سياسية، وهو الإسلامي الوحيد الذي ينزه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، ويرفض كل الرمزيات التوظيفية مثل مسألة فرض اللحية على الرجال والحجاب على النساء، وهما كما هو واضح، آليتان سياسيتان صريحتان ولا علاقة لهما بالدين كما يذهب إلى ذلك العديد من علماء الدين غير الأصوليين.