قد يتفهم الكثيرون منا حجم معاناة المواطن ومدى تذمره واستيائه، منذ تولي حكومة السيد بنكيران مسؤولية تدبير الشأن العام، جراء تواصل مسلسل القهر والتجويع، في ظل تحرير أسعار المحروقات والارتفاع الصاروخي لأثمان المواد الأساسية، وتجميد الأجور وتقليص مناصب الشغل، باعتماد هذه الحكومة غريبة الأطوار سياسة تقشفية، امتثالا لأوامر المؤسسات المالية الدولية للحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية، على حساب المقاولات والأسر المغربية.
لكن ما لا يمكن تفهمه، هو خروج بعض الوزراء في حالة تبرم واضح وعدم الرضا، وهم يستعدون لتقديم جرد بممتلكاتهم إلى المجلس الأعلى للحسابات، بعد مرور ثلاث سنوات على تاريخ الاستوزار، وقبل نهاية المهلة القانونية للتصريح التكميلي بالممتلكات، المحددة في أجل أقصاه متم شهر فبراير 2015، كإجراء عاد يهدف إلى ترسيخ الحكامة الجيدة واحترام المسؤوليات، ولئلا يتم الانزلاق إلى استغلال المناصب السامية والمواقع الحكومية في اتجاه الاغتناء غير المشروع.
ذلك أن هذه المناصب الوزارية، وبناء على ما أوردته قصاصات إخبارية، لم تفد أصحابها في شيء، عدا أنها ساهمت في تراجع ثروات بعضهم، حيث صرح كل من عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري، ومولاي حفيظ العلمي وزير التجارة والصناعة، بأن ثروتيهما تضررتا بشكل لافت، لعدم القدرة على التوفيق بين تدبير الشأن العام وإدارة أعمال الثروة الخاصة وتنميتها كالسابق, بينما أقر مصطفى الرميد وزير العدل والحريات، بأن ما كان يجنيه من مكتب المحاماة كأرباح، يفوق بكثير ما يحصل عليه حاليا. أما لحسن الداودي وزير التعليم العالي، فقد كشف عن أن ما سيقدمه للمجلس من جرد هو نفس ما أدلى به عند بداية التحاقه بالوزارة، ويتمثل في سكن مازال تحت رحمة قرض بنكي، ومحل بمدينة أزمور مشترك بين ثلاثة أشخاص. في حين أن «الحاج» محمد نبيل بنعبد الله، الذي يبدو منشرحا بمنصبه في سائر خرجاته، رغم كل الانتقادات الموجهة إليه حول تحالفه مع حزب ذي مرجعية إسلامية، حيث اعتبره أحد المنسحبين من حزبه كمن باض الشيطان في رأسه، عندما فضل مصلحته الشخصية وضرب بإيديولوجية الحزب عرض الحائط، فقد أعلن دون حشمة أو مركب نقص، بأن ممتلكاته لا تتعدى إقامة سكنية مازالت خاضعة لأقساط قرض بنكي، علما أنه تقلب في مناصب هامة منذ عام 2002، من وزير الاتصال في حكومة ادريس جطو، مرورا بمنصب سفير في إيطاليا إلى وزير السكنى والتعمير وسياسة المدينة راهنا.
ترى إلى متى سيظل الوزراء عامة والمنتمون منهم إلى الحزب الحاكم بوجه خاص، يصرون على اعتماد أساليب التضليل والمغالطات؟ فبالأمس القريب، لوحوا باستقالات دون أن يجرؤ أي واحد منهم على القيام بذلك أمام سلطة وبريق المنصب، ثم انتقلوا إلى تسويق صور نمطية للتظاهر بالبساطة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تظهرهم يفترشون «حصيرة» ويحتسون «البيصارة»، بهدف استمالة قلوب البسطاء والإيحاء بأنهم الأقرب إليهم أكثر من غيرهم، وأنهم رغم ما يتقاضونه من راتب شهري يناهز الخمسين ألف درهما، لم يفرطوا أبدا في ثقافتهم الدينية ومواقفهم الإنسانية. بيد أن مشيئة الله أبت إلا أن تفضح زيفهم، حين جعلتهم يغفلون إخفاء ما بدا في إحدى الصور من صحون بديعة عليها شوكات وملاعق وسكاكين لامعة، لا يتوافق وجودها مع تلك الوجبة البسيطة !
إن حب الوطن يا سادة يا كرام، أكبر من كل ثروات العالم، ويفترض في من يدعي الوطنية ويقدر حجم المسؤولية، الانحياز إلى قضايا الأمة والشعب وتقديم التضحيات الجسام، بدل التسابق واللهث وراء الأحلام الذاتية. لقد حان الوقت لتدركوا جيدا أن الإفلاس الحقيقي، ليس هو عدم الاستفادة من ثمار المنصب أو تراجع المكاسب، بل هو انعدام الصدق والصراحة والإخلال بالوعود، وتدني مستوى الخطاب السياسي والإخفاق في تحقيق تطلعات المواطنين، الذين منحوكم أصواتهم وراهنوا على التغيير. فالمنصب قبل كل شيء تكليف وليس تشريفا، ما يفرض عليكم مضاعفة الجهود من أجل ازدهار البلاد وإسعاد العباد، وتقدير جسامة الأمانة الملقاة على عواتقكم.
ولتستحضروا خطاب جلالة الملك محمد السادس، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة يوم: 10 أكتوبر 2014، وما تضمنه من رسائل لا يحتاج فهمها إلى كبير عناء، لعلكم تجدون فيها بلسما شافيا لأسقامكم. إذ توجه إليكم ومن خلالكم إلى كافة الفاعلين السياسيين، مفصحا عما يلازمه من إحساس غال ينم عن اعتزازه الشديد بمغربيته، ويدعوكم إلى الاقتداء به وتجسيد هذا الشعور النبيل في ممارساتكم اليومية، خارج وداخل بيوتكم، عبر الاضطلاع الأمثل بمسؤولياتكم، والعمل الجاد على إعداد النخب والبرامج القادرة على الارتقاء بتدبير الشأن العام، وتغيير وجه البلاد نحو الأفضل وليس تغيير وجوهكم، مذكرا بأن التحدي الأكبر يكمن في جعل المؤسسات الإدارية والمنتخبة رهن إشارة المواطن، وليس في خدمة أرصدتكم البنكية وتنمية ثرواتكم، وأن تكون الانتخابات القادمة مجالا للتنافس السياسي الحر والشريف، بين البرامج والنخب لا حلبة للمزايدات والصراعات السياسوية..
فماذا أعددتم من إنجازات تعكس حبكم لهذا الوطن العظيم، والاهتمام بانشغالات أبنائه؟ وماذا هيأتم من مشاريع تنموية حقيقية، وتعزيز دينامية المؤسسات لاسترداد ثقة المواطن؟ أين نحن من أخلاقيات العمل السياسي، بعدما حولتم البرلمان إلى خشبة مسرح تافه؟ وأين نحن من تخليق الحياة العامة، ومحاربة الفساد واقتصاد الريع؟ كثيرة هي الأسئلة الحارقة، التي لن تستطيعوا الرد عليها، حتى لو بقيتم في مناصبكم ولايات أخرى كما تنبأ لكم بذلك كبيركم.
إنه لمن البلاهة التمادي في إيهام المواطنين بأن تولي حقيبة وزارية، مجرد مشاكل إضافية، وأن قبولكم تحمل هذا الوزر، إنما تسارعون فقط إلى ابتغاء مرضاة الله، في حين أنكم تقومون بالمستحيل، للظفر بمقاعد في البرلمان وعيونكم على كراسي الوزارات لتحقيق مآربكم الخاصة، ولا أدل على ذلك أكثر من فضيحة أحد «مناضلي» حزب في الائتلاف الحكومي، الذي تداول الناس حكاية تقديمه رشوة بقيمة 300 مليون سنتيم مقابل الاستوزار. فمنصب الوزير في بلدنا السعيد لا يقدر بثمن، لأنه يعني الرفاهية: راتب كبير، تعويضات هامة، امتيازات خيالية، توسيع دائرة العلاقات والوساطات، صفقات عمومية، سفريات جوية، «فيلا» فخمة، سيارات فارهة، ألبسة من أرقى المحلات التجارية، خدم وحشم وتقدير ووقار وأضواء كاشفة ولقاءات إذاعية وتلفزيونية…. فضلا عن معاش محترم في نهاية الولاية.
رجاء كفوا عن دغدغة مشاعرنا بترهاتكم، ولتعلموا أن ما تستمتعون به من خيرات لا نحسدكم عليها، تقتطع مبالغها من أموالنا. فلتنكبوا على معالجة قضايا الوطن، والسهر على توفير الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية للمواطنين، بدل كل هذا التشكي وذرف دموع التماسيح الكاذبة.

الاربعاء 25 فبراير 2015

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…