إن فهماً معمقاً لظاهرة تراجع الحزبيات السياسية، في البلاد العربية المعاصرة، لا يمكن أن يتأتى – فقط- من طريق تحليل الشروط الموضوعية الحافة بالحياة الحزبية والمؤثرة فيها، على ما في ذلك من فائدة كبيرة،

وإنما يفيد كثيراً – في باب تفسير ذلك التراجع- قراءة سياقات تطور العمل الحزبي من الداخل، ما طرأ على مساحات ذلك العمل من تغيير أو تعديل قد يكون له تأثير فيما آل إليه من اضمحلال. ونفكر هنا، بالأساس، في ظاهرة التقلص التدريجي لمجالات تدخل العمل الحزبي على النحو الذي بدت معه مساحاته محدودة جداً إذا ما قيست بما كانت عليه، قبل أربعة عقود، من اتساع شديد. ولقد يسعنا أن نزعم أن تأثيرات بالغة السلبية في العمل الحزبي تولدت من ذلك التقلص الذي لم يكن إرادياً أو اختيارياً، وإنما أتى في سياق عام من تذرير للسياسة وتجزئة لكيانها، كان للدولة كما للعولمة دور فيه.

الأحزاب سابقاً مشروع دويلات، تنظم مجالات ولايتها على مجتمعها الضيق كما تنظم الدولة ولايتها على المجتمع الأرحب، لها مالية واستثمارات، ودور نشر وصحف ومجلات، وجهاز للعلاقات الخارجية، وجهاز للرقابة الداخلية على عمل منظمات الحزب الفرعية (وبعضها على عمل الهيئات المركزية العليا)، وهي تنظم فئات اجتماعية واسعة (عمالاً، فلاحين، تجاراً، مهنيين) في نقابات، وفئات أخرى (طلبة، شبيبة، نساء، مثقفين وأدباء وفنانين) في اتحادات وروابط.. إلخ، وهي تنشئ قطاعات حزبية خاصة بهذه الفئات وتابعة لها، وتنشئ جمعيات أهلية – حزبية لحقوق الإنسان، والبيئة، والمستهلكين، وتتدخل في كل شيء في الشأن السياسي الوطني العام (السياسات العامة للدولة والجهاز الحكومي)، وفي الشؤون السياسية والاجتماعية التفصيلية من أجور العمال إلى حقوق المرأة وحقوق الإنسان. كان الحزب يتصرف بمنطق السلطة البديل القادمة، ويهيئ نفسه لأن يكونها في أي وقت. ولذلك كان في حكم بداهاته أن يعنى بقضايا المجتمع كافة، وأن يكون له رأي فيها بمثل ما يكون له نفوذ في قطاعات المجتمع جميعها، وفي مؤسساتها وأطرها.

اقترن أسلوب التدخل الشامل للعمل الحزبي بمفهوم للسياسة – ساد طويلاً – يرى إليها بوصفها منظومة كاملة من الفعاليات المجتمعية المتضامنة والمندمجة، والتي لا تقبل الانفصال بينها بدعوى استقلالية المجالات الاجتماعية عن بعضها. كان هذا التصور قريباً من معنى السياسة: المعنى عينه الذي تعبر عنه وظائف الدولة المختلفة الدائرة على السياسة. غير أنه التصور الذي كان لتطبيقه آثار سلبية في الوقت عينه، فلقد تسدد – بنزعته المركزية الالحاقية – شخصية فاعليات اجتماعية أخرى ذات طبيعة خاصة مثل العمل النقابي المطلبي، الذي بات عليه ان يصمم نفسه – أحياناً كثيرة- لا على مقاس مصالح الفئات الاجتماعية التي تنخرط فيه (عمال، مهنيون، طلبة..)، بل على مقاس المصلحة الحزبية التي قد لا تكون، دائماً، منسجمة مع تلك المصالح الاجتماعية التي ينطق العمل النقابي باسمها. كان كثيراً ما يقع التسييس المفرط للظواهر الاجتماعية – في الخطاب الحزبي- باسم مركزية السياسة، أو بدعوى مفتاحية مدخلها إلى حل أزمات المجتمع مختلفة الصعد والوجوه، فتكون النتيجة إضعاف القضايا المطلبية التي هي من طبيعة اجتماعية لا توفر الحزبية أسلوباً مناسباً لها.

بدأت سيرورة التراجع في أسلوب التدخل الحزبي الشامل تعبر عن نفسها منذ أواسط السبعينات في البلاد العربية. حصل ذلك بمناسبة ميلاد حركة حقوق الإنسان، في البلدان التي بكرت فيها (تونس، المغرب، مصر)، واتساع نطاق مؤسساتها ونطاق النشطاء العاملين فيها. ثم ما لبثت أن انطلقت في الأعقاب، موجة من الحركات الاحتجاجية الأخرى انتظمت في مؤسسات وجمعيات مستقلة عن الأحزاب، ومنها حركات حقوق المرأة، وحقوق المستهلكين، وحركات البيئة.. إلخ. وبقدر ما انتزعت هذه الحركات من الأحزاب مساحات من النشاط كبيرة، احتكرتها طويلاً، انتزعت جمعياتها واتحاداتها جمهوراً عريضاً من النشطاء الحزبيين، وجد الكثير منهم نفسه – تدريجياً- خارج المؤسسة الحزبية، منغمساً في العمل الاجتماعي الذي أصبح، منذ ذلك الحين، يجري تحت عنوان “المجتمع المدني”، وكانت النتيجة إفقاراً مزدوجاً للعمل الحزبي: لخريطة عمله التي تقلصت حتى ضاقت، ولقواه النشطة التي غادر قسم كبير منها الحزبية للعمل في مؤسسات “المجتمع المدني”.

من النافل القول إن الحزبيات لم تكن مسؤولة عن هذه الحال من تجزئة قضايا الصراع الاجتماعي وفك الارتباط بينها، إما باسم الاستقلالية النسبية للنضال النقابي والمطلبي (الحقوقي، النسائي، الشبابي..) عن النضال السياسي، أو باسم استقلالية ميدان “المجتمع المدني” عن ميدان السياسة، ذلك أن هذه السيرورة بدت خارجة – تماماً- عن إرادة تلك الحزبيات، وتغذت قوة دفعها من الحقائق الجديدة التي انتجتها العولمة، ومنها تقطيع أوصال السياسي (الدولة، السياسة، الحزب) باسم “المجتمع المدني”. لكن الذي لا مرية فيه أن الحزبيات تلك وفرت بيئة مناسبة لإطلاق مفاعيل تلك التجزئة في العمل السياسي من خلال إنشائها “قطاعات حزبية” خاصة بكل فئة اجتماعية (قطاع عمالي، قطاع شبابي، قطاع نسائي، حقوقي، طلابي..)، فلقد كان توزيع العمل الحزبي على هذه الدوائر – المتمايزة من بعضها- أول تمرين على مقاربة ظواهر المجتمع وقضاياه من زاوية ما بينها من عوامل تمايز واختلاف، مما تولد معه جنوح متزايد لفصل “المدني” عن السياسي.

 

*نشر بموقع التجديد العربي

الثلاثاء 17 فبراير 2015

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …