كتب إلى بعض القراء يسألون عن مرجع يجدون فيه ما كتبته عن الكتلة التاريخية، وكنت قد ختمت المقالة السابقة بالإشارة إلى أنه سبق لي أن ناديت بها في مناسبات ونصوص متعددة منذ سنة 1982. فعلا، كنت قد شعرت منذ بضعة أشهر بالحاجة إلى جمع تلك النصوص في مرجع موحد فأدرجتها ضمن العدد 22 من الكتيب الشهري الذي أصدره بعنوان “مواقف”. وبما أن هذا الكتيب لا يوزع خارج المغرب فقد ارتأيت أن أقدم هنا تلخيصا لها، محترما تسلسلها الزمني. وبما أن هذه النصوص تتناول جانين: الأول يركز على تحديد مفهوم الكتلة التاريخية ومضمونها، والثاني يحدد دور “الثقافي” في بلورتها وقيادتها، فسأجعلها مقالين.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن من بين ما حركني، أيضا، إلى عرض هذه النصوص أن من بين القضايا المطروحة اليوم في الساحة العربية، قضية “الإصلاح”. وخلاصة رأيي في الموضوع، منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي إلى اليوم، تنطق بها هذه النصوص، وذلك إلى درجة أنني، عندما أعود فأقرؤها اليوم، أشعر وكأنني أكتبها لأول مرة.
الكتلة التاريخية… والطبقات
طرحت مسألة الكتلة التاريخية أول مرة في حوار نشر لي بمجلة المستقبل العربي (عدد نوفمبر 1982)، كان من بين الأسئلة التي طرحت فيه سؤال حول الطبقات في المجتمع العربي وأيها يمكن أن تقود فيه النضال من أجل التغيير.
في إطار الجواب عن هذا السؤال قلت ما يلي:
“إن ما يحتاج إليه النضال العربي في المرحلة الراهنة هو في نظري شيء أقرب إلى ما سماه غرامشي بـ”الكتلة التاريخية”. كان هذا المفكر الإيطالي والمناضل السياسي اليساري (1891-1937) يفكر في طريق للتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يناسب معطيات المجتمع الإيطالي في زمنه. وكان المشكل الذي يعترض الإصلاح آنذاك في هذا البلد، هو ذلك التفاوت الكبير بين شمال إيطاليا، الذي كان قد بلغ درجة متقدمة على مستوى التصنيع والتحديث، وبين جنوبها الذي كان يحمل سمات المجتمع المتخلف الخاضع لسلطة الكنيسة. ومن أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية والقيام بنهضة شاملة اقترح فكرة الكتلة التاريخية، وهي تضم إلى جانب قوى التغيير والإصلاح في الشمال، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، القوى المهيمنة في الجنوب بما فيها الكنيسة (1). ومن خلال مقارنة حال الأقطار العربية في زمننا مع حال إيطاليا زمن غرامشي، اقترحت الفكرة نفسها مع تبيئتها وتكييفها مع الوضع العربي. وهكذا فالكتلة التاريخية كما ناديت وأنادي بها هي: “كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها ونضالاتها”. (مجلة المستقبل العربي نوفمبر 1982)
الكتلة التاريخية والثورة الإيرانية
تلك فكرة مقتضبة ستجد تفصيلها في نصوص لاحقة، منها فقرة من مقال نشرته ضمن سلسلة المقالات التي كنت أكتبها خلال الثمانينات في مجلة “اليوم السابع” الفلسطينية التي كانت تصدر في باريس. والمقال المعني هنا نشر بتاريخ 26 أكتوبر 1987.
في الفقرات الأولى من هذا المقال تحليل للواقع العربي الراهن آنذاك على ضوء ظاهرة “الصحوة الإسلامية” التي شغلت الساحة العربية والإسلامية يومئذ، والتي بلغت أوجها مع الثورة الإيرانية. لقد لاحظت أن الخطأ الذي ارتكبه الوطنيون الليبراليون والقوميون والماركسيون العرب، في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، والمتمثل في إقصاء وتهميش التيارات الإسلامية، تقترفه بدورها الثورة الإسلامية في إيران، في الثمانينات، مباشرة بعد انتصارها، وذلك حين أخذت في إقصاء حركة “مجاهدي خلق” ذات التوجه الماركسي، وشخصيات وطنية ليبرالية وازنة، مثل مهدي بارزكان أول رئيس حكومة في إيران الثورة، ثم أبي الحسن بني صدر أول رئيس جمهورية فيها، إضافة إلى تهميش وتجميد شخصيات إسلامية متفتحة مثل آية الله شريعاتي ثم آية الله منتظري الخ. في هذا السياق إذن طرحت مجددا فكرة الكتلة التاريخية كبديل لإستراتيجية الإقصاء والتهميش تلك، فكتبت ما يلي:
“… إن في الواقع العربي الراهن بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية “حديثة” تجد تعبيرها الإيديولوجي في فكر “النخبة العصرية” وطموحاتها، وإن في الواقع العربي الراهن كذلك بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية “تقليدية” تجد هي الأخرى تعبيرها الإيديولوجي في فكر “النخبة التقليدية” ومخايلها. ومن هنا النتيجة الحتمية التالية: إن أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، أسبابه الذاتية الداخلية وهي الأساس، إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو وأخذت بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، “العصرية” منها و”التقليدية”، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منه والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد… صفوف المصلين.
“وواضح أن الانطلاق من هذا الواقع كما وصفناه، والأخذ بكل ما فيه من تعدد وتنوع، ومن ائتلاف واختلاف، سيكون مصطنعا وهشا إذا هو اعتمد التوفيق والتلفيق والتحالفات السياسية الظرفية ذات الطابع الانتهازي… إن المطلوب هو قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك، في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب : المصلحة الموضوعية التي تعبر عنها شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل وحقوق أهل الحل والعقد، وحقوق المستضعفين وحقوق الأقليات وحقوق الأغلبيات الخ. ذلك لأن الحق المهضوم في الواقع العربي الراهن هو حقوق كل من يقع خارج جماعة المحظوظين المستفيدين من غياب أصحاب الحق عن مراكز القرار والتنفيذ. إنه … بدون قيام كتلة تاريخية من هذا النوع لا يمكن تدشين مرحلة تاريخية جديدة يضمن لها النمو والاستمرار والاستقرار”. (مجلة اليوم السابع 26 أكتوبر 1987)
اليسار واليمين … والكتلة التاريخية
وفي مداخلة ساهمت بها في ندوة عقدت بالدار البيضاء بتاريخ 30 يناير 1993 حول موضوع “مستقبل اليسار بالمغرب”، (وقد نشرتها آنذاك جريدة الاتحاد الاشتراكي)، ناقشت مقولتي يسار-يمين، على ضوء التطورات التي عرفها العالم في الثمانينات: من سقوط الاتحاد السوفيتي وتراجع الإيديولوجيا اليسارية من جهة، وانتشار الحركات الإسلامية ذات المنزع الأصولي والسياسي من جهة ثانية. ثم خلصت إلى النتيجة التالية:
قلت: “واضح أننا هنا أمام وضع جديد أشبه ما يكون بالوضع الذي كان عليه الحال زمن الاستعمار، حيث كان الصراع بين المحتل الأجنبي وعملائه من جهة وبين القوى الوطنية بمختلف فئاتها واتجاهاتها الفكرية والإيديولوجية من جهة أخرى: هذه القوى التي كانت تشكل حلفا وطنيا ضد المستعمر وأذنابه وعملائه. وإذا أضفنا إلى هذا، الطابع الوطني للصراع القائم اليوم مع قوى الرأسمال العالمي أي “الشمال” فإن المهام المطروحة وطنيا ستكون مهام متعددة وجسيمة، مهام التحرر من التبعية وإقرار الديمقراطية وتحقيق تنمية مستقلة. مهام لا يمكن، في ظل الوضعية الراهنة التي نعرفها جميعا، لأي فصيل من فصائل القوى الوطنية القيام بها بمفرده، سواء حمل إيديولوجيا سماها يسارا أو نطق باسم الدين أو بأي شيء آخر. إذا أدركنا هذا، أدركنا كيف أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية التالية: (هي المذكورة آنفا).
“هذه الكتلة، هي تاريخية ليس فقط لكون الأهداف المذكورة أهداف تاريخية، بل لأنها تجسيم لوفاق وطني في مرحلة تاريخية معينة. إنها ليست مجرد جبهة بين أحزاب بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها. وهكذا يمكن القول، إن القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب هي:
أولا: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها من نقابات عمالية وحرفية وتجارية وفلاحية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية…
ثانيا: التنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية التي يجب أن يفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع كغيرها من التنظيمات ذات الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الواضحة التي لا تمس لا وحدة الوطن ولا وحدة الشعب ولا الوحدة الروحية للأمة ولا الانتماء العربي الإسلامي للبلد.
ثالثا: القوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والزراعي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد ككل وتطويره وتنمية قدراته.
رابعا: جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة، والمقتنعة بضرورة التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف التاريخية المذكورة. الكتلة التاريخية ليست جبهة معارضة لنوع من الحكم قائم، ولا ضد أشخاص معينين، بل هي من أجل الأهداف الوطنية المذكورة. وهي لا تستثني من صفوفها إلا من يضع نفسه خارجها. هي لا تلغي الأحزاب ولا تقوم مقامها، ذلك لأن ما يجعل منها كتلة تاريخية ليس قيامها في شكل تنظيم واحد، بل انتظام الأطراف المكونة لها انتظاما فكريا حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها.
والسؤال الآن هو: كيف السبيل إلى تحقيق هذا الانتظام الفكري حول تلك الأهداف والعمل بالتالي من أجلها؟
إن التحرر من التبعية وإقرار ديمقراطية حقيقية، سياسية واجتماعية، وتحقيق تنمية مستقلة، وجعل تلبية حاجة الجماهير الشعبية على رأس أولوياتها، تلك في الحقيقة هي المضمون الثابت لبرنامج القوى الوطنية الشعبية التي يطلق عليها اصطلاحا اسم “اليسار”. وإذن، فعلى هذه القوى، سواء حافظنا لها على هذا الاسم أو أطلقنا عليها اسما آخر –ولا مُشاحَّة في الأسماء- تقع مهمة التبشير بالكتلة التاريخية والعمل من أجلها وتدشين عملية الانتظام الفكري حول أهدافها. إن الفراغ الإيديولوجي القائم الآن ليس من شأنه إلا أن يفسح المجال للتشرذم الفكري والغلو الطائفي والديني والتعصب القبلي، تماما، مثلما أن عدم الارتباط بأهداف وطنية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يجعل المجهود الفردي الذي تبذله هذه القوة الفاعلة أو تلك، مهددا بالدوران في حلقة مفرغة، لأن المهام التاريخية المطروحة مهام لا يمكن كما قلنا أن يقوم بها فصيل واحد أو تيار واحد بمفرده، مهما أوتي أصحابه من العزم أو من القدرة على التضحية…”.
هوامش
1- أنظر فكر عرامشي، مختارات من مؤلفاته. جزءان. جمعها كارلو سالنيياري وماريو سبينيلا، ترجمة تيسير سخ الأرض. دار الفارابي. بيروت 1978. وأيضا:
– Gramsci et la philosophie du marxisme, Pérsentation, Choix des textes par Jacques Texier; segher-Paris
– Mara-Antonetta Mcciocchi. Pour Gramcsi, Editions du Seuil. paris 1971
عن موقع محمد الجابري