*المفكر الفرنسي يرفض العنف الثوريّ ويدافع عن الشرعيّة سواء كانت في السلطة أم خارجها، ولا يرى الدولة وسيلة بل هي وسط محايد وتحكيميّ.
في اليوم الأخير من شهر يوليو 1914، قتل الزعيم والمفكر الاشتراكي الفرنسيّ الكبير جان جوريس بينما كان جالسا في مقهى بحي “مونمارتر “بالدائرة الثانية بباريس. فكان اغتياله من أخطر الأحداث التي هزّت فرنسا والعالم قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب الكونيّة الأولى.
وبدءاً من العام 2012 وبعد أن عاد الاشتراكيّون إلى الحكم، ودخل زعيمهم فرانسوا هولاند قصر”الإيليزيه”، تصدّر جان جوريس الواجهة من جديد كمفكّر اشتراكي كبير، وكزعيم شعبيّ فذّ ترك بصماته واضحة على تاريخ فرنسا الحديث، وراسما صورته الجديدة في الفكر الفرنسي.
كتب فانسان بايّون المتخصّص في فلسفة مارلو بونتي يقول “جوريس الزّعيم السياسي، وجه مشرق وساطع في تاريخنا. أمّا جوريس الفيلسوف فلا يزال مجهولا، وأنا أعتبر جهل مثل هذا الجانب ظلم كبير في حقّه، إذ لا بدّ من الإحاطة به لكي ندرك الجوهر الأساسيّ لشخصيّته السياسيّة. وهو ينتمي إلى تيّار فكريّ لا يزال مجهولا أيضا، أعني بذلك التيّار الرّوحاني الذي يبدأ مع مان دو بيران (1766-1824)، ويمتدّ إلى برغسون، والذي كان التيّار المهيمن على الفلسفة الفرنسيّة”.
في ذلك الوقت، تمرّد جوريس مع فلاسفة آخرين على فلسفة كانط التي تقول إنه ليس باستطاعتنا أن نعرف الواقع خلف أشياء. ولكي يدعم موقفه، لجأ إلى السايكولوجيا، وإلى تحليل العلاقة بين الوعي والعالم. ورؤيته الميتافيزيقيّة تنطلق من المبدأ الذي يقول بأن الرّوح موجودة في الطبيعة، من هنا ظهرت الرّوحانية، ويبدو هذا الأمر مثيرا للفضول في زمننا الرّاهن.
ضد العنف
أمّا بالنسبة إلى جوريس فإنه يعتبر أن الحجر يفكّر. وهو يقوم حتى في خطاباته البرلمانيّة بإقامة تواصل يبدأ من الجيولوجيا ليصل إلى ما هو اجتماعيّ. وفي القوانين العمّاليّة، هو يحافظ على نفس المبدأ. والكلمة الأساسيّة عند جوريس، الفيلسوف والزعيم الاشتراكيّ، هي “الوحدة”.
لوك فيري، الفيلسوف الذي كان وزيرا للتعليم في حكومة ساركوزي، يقدم أربعة جوانب أساسيّة في فكر جوريس فيلسوفا، وزعيما سياسيّا.
وفي ذلك يكتب قائلا “بالفعل يمكن القول أن جوريس كان روحانيّا، بل مثاليّا. وانطلاقا من ذلك هو قطع مع الماركسية في أربع نقاط أساسيّة النقطة الأولى تتعلّق بمفهوم الثّورة. فقد كان جوريس يرفض العنف الثوريّ رفضا قاطعا. وهو يدافع عن الشرعيّة سواء كان في السلطة أم خارجها.
والنقطة الثانية هي أن الدولة ليست وسيلة، وليست “البنية الفوقيّة” للطبقة المهيمنة، وإنما هي وسط محايد، وتحكيميّ فيه يمكن أن تكون الطبقة العاملة ممثّلة بواسطة الانتخابات. وثالثا كان جوريس يساند النظام الجمهوري، ويرى أن تربية الجماهير أساسيّة للثورة، وليست نتيجة لها، وأمّا النقطة الأخيرة فتتعلّق بمسألة حقوق الإنسان.
وفي هذا المجال هو يرى أن الحريات العامّة والأساسيّة مثل حرية التعبير، وحرية التنقّل مبادئ جوهريّة تسمح بإقامة علاقات بين الناس، وباقتلاعها من المجموعات الضّيقة، المنغلقة على نفسها”.
ولد جان جوريس في العام 1859 في كاستر ذات الطبيعة السّاحرة، والتي فيها يسمح الأفق الواسع الرّحب للخيال بالتّحليق بعيدا. وفي سنوات مراهقته مارس الأعمال الزراعيّة، ليشرع في اكتشاف أسرار الكون والأشياء وهو مستند إلى جذع شجرة، أو حاملا حزمة من السنابل. وفي المدرسة تعلم اللّاتينية والإغريقيّة ليطّلع من خلالهما على أعمال الفلاسفة والشعراء القدامى، وفي دار المعلمين العليا التي انتسب إليها بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، التقى هنري برغسون الذي سيلمع نجمه في ما بعد في سماء الفلسفة الفرنسيّة والعالميّة.
السياسي المثقف أولا
كان في السادسة والعشرين من عمره لمّا انتخب نائبا في البرلمان الفرنسي. وفي تلك الفترة ذاتها لفت الأنظار إليه بخطبه الناريّة، ذات اللغة البديعة العاكسة لثقافته الواسعة والعميقة. وفيها كان يركّز على الدّفاع عن حقوق العمّال والفلاّحين والمدرّسين. وفي الصحف الكبيرة، دأب على نشر مقالات فيها يوضّح مواقفه وآراءه في جميع المجالات. وبذلك اكتسب شعبيّة في الأوساط الجماهيريّة فكثر المعجبون به، وكثر خصومه السياسيّون أيضا من أهل اليمين ومناهل اليسار. فالبورجوازيّة تخشى اشتراكيّته الإنسانيّة، المتفتحة الرّافضة للعنف الثوريّ. والأحزاب اليساريّة تعتبره مسالما، وخادما للبورجوازية،ومنحازا لسياستها.
ولم يكتف جوريس بإلقاء الخطب، وكتابة المقالات، بل ألّف العديد من الكتب الفكريّة والفلسفيّة، أظهر فيها قدراته الفائقة في فنّ الجدل. ومعرفته العميقة بالفلاسفة الكبار الذين بهم يستعين في بلورة أطروحاته من أمثال فيخته وهيغل وكانط وغيرهم. ولم يكن ينقطع عن النّضال على مختلف الجبهات.
وحتى سنّ الثلاثين، ظلّ جوريس محافظا على استقلاليته السياسيّة. لكن انطلاقا من العام 1892 أصبح الزعيم الأول للاشتراكيين الفرنسيين. حدث ذلك إثر الإضراب الكبير الذي قام به عمّال مناجم البلور في كارمو بسبب طرد قائدهم النقابي من عمله، والذي لم يكن ينقطع عن انتقاد مجلس الإدارة الذي يشرف عليه واحد من عتاة اليمين. وقد بادر جوريس بإظهار تعاطفه مع العمال المضربين، خصوصا بعد أن قامت قوات الشرطة بشن عملية قمع رهيبة ضدهم.
وفي مقال نشره بصحيفة لاديباش هاجم جان جوريس الأحزاب اليمينيّة التي “أصبحت تدير مؤسسات الجمهوريّة بحسب مصالحها المتعارضة كليّا مع مصالع العمال، والشعب بصفة عامة”.
وفي خطاب ألقاه في البرلمان، ندّد جوريس بالاستغلال الفاحش الذي يتعرض له العمال الفرنسيون من قبل الشركات الرأسمالية، وبالمظالم المسلطة عليهم من قبل الطبقة البورجوزاية. وفي نفس الخطاب، هاجم بحدة النائب اليميني بار بينار المشهور بمعاداته للأحزاب والتيارات اليسارية. ومنذ ذلك الحين، أصبح جان جوريس الناطق الرسمي باسم الاشتراكيين الفرنسيين، وزعيمهم المرموق والمفضّل.
في وجه العنصرية الأوروبية
هزّت فرنسا في عام 1898 قضية الضابط اليهودي دروفوس الذي اتهم بالخيانة الوطنيّة. وفي البداية، لم يظهر جوريس أي تعاطف مع دروفوس، بل بدا وكأنه يساند أقسى حكم يمكن أن يصدر ضده. غير أنه لم يلبث أن غيّر رأيه ليصبح من أشدّ المتحمسين للدفاع عنه تماما مثلما هو الحال بالنسبة إلى الكاتب الفرنسي الكبير إميل زولا صاحب الرسالة الشهيرة “إني اتهم”. وقد برّر جوريس موقفه الجديد بضرورة الدفاع عن الديمقراطية ضد أعدائها المتربصين بها، والذين يحاولون دائما وأبدا العثور على فرص ومبررات لضربها في الصميم.
وفي نفس العام المذكور، فقد جوريس منصبه في البرلمان، فتفرغ للكتابة في الصحف والمجلات الكبيرة، مخصصا مقالاته للدفاع عن قضايا العدالة والحرية وحقوق الإنسان. ومهاجما السياسيّين الفاسدين المسؤولين عن فضيحة “قناة باناما”. كما كان يندّد بأعمال العنف والإرهاب التي تقف وراءها مجموعات تدّعي الثّوريّة، وينتقد بحدّة كلّ إجراء يتعارض مع الحريات العامّة والخاصّة، وكان يطالب بتوفير حياة أفضل للعمّال، وبضمانات قانونيّة لحقوقهم.
وفي العام 1902 شارك جان جوريس في تأسيس الحزب الاشتراكي الفرنسي، وفي نفس العام استعاد منصبه كنائب في البرلمان وفي أول خطاب ألقاه، خاطب النّوّاب قائلا وقد التهبت نيران حماسه “لقد أوقفتم الأغنية التي تهدهد البؤس البشري، لكن البؤس البشري استيقظ بصرخات عالية. وها هو منتصب أمامكم مطالبا بمكانه، مكانه الواسع تحت شمس العالم الطبيعية، المكان الوحيد الذي لن تتمكّنوا من الاستيلاء عليه”.
بعدها بعث للوجود صحيفة “لومانيتي” اليومية لتصبح لسان الاشتراكيين، وقد اختار للتحرير فيها مثقفين من طراز رفيع، ومثله كانوا مشهورين بدفاعهم المستميت عن قضايا الحرية والعدالة والاشتراكية. وعند اندلاع حرب البلقان في العام 1912، أظهر جوريس معارضته للتيارات والنزعات الشوفينيّة التي بدأت تشهد تصاعدا مخيفا منذرة باندلاع حروب مدمرة في القارة العجوز.
ورغم الهجومات التي لم يكن خصومه السياسيون من كلّ الجوانب ينقطعون عن شنّها عليه، فإن جوريس ظلّ حتى نهاية حياته المأساويّة متشبّثا بمبادئه وبأفكاره فلم يتخلّ عنها أبدا. لذلك لم يجد خصومه وسيلة أخرى للتخلّص من زعيم صعب المراس مثله غير رصاصة في الرأس، وقد رثاه الزعيم البلشفي ليون تروتسكي قائلا “جوريس،هذا المناضل العظيم من أجل الفكر سقط في ساحة المعركة وهو يقاوم الآفة المرعبة للبشرية وللجنس البشري، أعني بذلك الحرب. وسيظلّ في الذاكرة الإنسانية المثال للإنسان الأعلى الذي لا بدّ أن يولد من الآلام والانهيارات، ومن الآمال والنضالات”.
ولا يزال جان جوريس حاضرا بقوّة في المشهد السياسي الفرنسي. والأحزاب السياسية، اليسارية منها واليميّنية تعود إليه دائما لتبرير مواقفها، وأطروحاتها ومخططاتها حتى أنه أصبح يلقب بـ”أبقونة الجمهوريّة”. ولعلّ الكاتب الفرنسي برنار دولاي على حقّ عندما كتب في شأنه يقول “إذا ما كان جان جوريس دائم الحضور في عصرنا، فلأنه كان دائما وأبدا منّا وإلينا. وكانت حياته مسيرة خطيّة متناسقة، مرافقة لمسيرة عصره. وفي جميع معاركه، سار جوريس في طريق التقدم والتحرّر، من دون أن يخطئ في نوعيّة المعركة التي يعتزم خوضها”.
*عن صحيفة العرب حسونة المصباحي [نُشر في 14/02/2015، العدد: 9828،