من المعروف على “رشيد نيني” أنه يتصيد هفوات الشخصيات العمومية، وبالأخص السياسية منها، ليجعل من هذه الهفوات مادة لعموده اليومي الذي اختار له عنوان “شوف تشوف”. ورغم أن أسلوب السخرية والغمز واللمز و”تقطير الشمع” على أصحابها، بحثا عن الإثارة، يكون هو الغالب، فيمكن القول بأن الحدة أو الليونة في معالجته للموضوع تكون عنده حسب “رأس الزبون” أو حسب ظروف النازلة.
فحين يكون راغبا في تصفية حساب ما أو النيل من شخص ما وسمعته (“باغي فيه الخدمة”)، تجده يضخم الأشياء ويجعل من “الحبة قبة”، كما يقول المثل المغربي. بالمقابل، لا يعدم الوسائل لتبرير زلات البعض، مهما عظمت، للتقليل من أهميتها ومن خطورتها. وقد يحدث أن يفعل الشيء وضده مع نفس الشخص؛ إذ يجلده مرات ويلتمس له الأعذار مرات أخرى؛ مما يجعله في وضع “تاتا” (حرباء)، بحيث يتلون حسب الظروف وأشياء أخرى الله أعلم بها.
ليس في نيتي النبش في مقالاته اليومية لأثبت ما أقول. فسوف أكتفي بمقال واحد، عنوانه “اللسان ما فيه عظم” (“الأخبار”، السبت/الأحد 7-8 فبراير 2015).
لا أظن أن هناك قارئا متتبعا لما يجري في بلادنا، وخاصة ما يقع تحت قبة البرلمان وينقله التليفزيون، لم يستشف من عنوان “نيني” محتوى العمود وسياقه. فما عرفته الجلسة الشهرية الأخيرة، التي يُساءل فيها رئيس الحكومة، من تدن في الخطاب وإسفاف وسفالة في أسلوب الحوار وانحطاط في الأخلاق السياسية والعامة، سارت به الركبان وأصبح حديث الخاص والعام؛ إذ لم يسبق، في تاريخ البرلمان المغربي، أن نزل وزير أول (بل ولا حتى أحد الوزراء، فيما أعتقد) في الحكومات المتعاقبة إلى المستوى المنحط الذي نزل إليه السيد “بنكيران” في رده على معارضيه، والأصح معارضاته، في سياقنا هذا.
ولا أعتقد أن الذين رأوا الفيديو وعاينوا طريقة إنهاء رئيس الحكومة لتدخله وهو يخاطب رئيسة فريق برلماني بقوله: “حتى أنا غانجاوبك، ديالي اللي كبير عليك”، ستقنعهم بعض الكتابات التي تجهد النفس من أجل تبرئة “بنكيران” من الحمولة الجنسية لتلك العبارة السوقية التي استعملها في جوابه.
وفيما يخصني شخصيا، ونظرا للاحترام الكبير الذي أكنه للمؤسسات ولغيرتي على سمعتها، فلا يسعني إلا أن أعبر عن امتعاضي الشديد من تصرف وخطاب رئيس الحكومة الذي أبان بما لا يدع مجالا للشك بأنه ليس أهلا للمهمة التي تحملها بحكم المنهجية الديمقراطية التي ناضل من أجلها الديمقراطيون والوطنيون حتى أصبح منصوصا عليها في الدستور.
وحتى لا يعتقد البعض بأني بنيت حكمي على الزلة الأخيرة لـ”بنكيران”، أحيل على بعض مقالاتي السابقة- ليدرك القارئ بأن الواقعة التي نحن بصددها، لم تزد إلا في تأكيد ما أنا مقتنع به منذ أن ظهرت ملامح الشخصية ” التدبيرية” لرئيس الحكومة- من قبيل: “… فاقد الشيء لا يعطيه”، “… بنكيران ليس رجل دولة”، “القدوة الفاسدة: رئيس الحكومة نموذجا”… ناهيك عن المقالات التي تتحدث عن الحكومة وقراراتها المجحفة في حق الفئات الفقيرة والطبقة المتوسطة أو عن حزب العدالة والتنمية ومحاولاته الهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع، دون أن يكل من محاولاته الظهور بمظهر الضحية.
ومن خلال العنوان (“اللسان ما فيه عظم”) الذي اختاره “نيني” لعموده، تنبعث رائحة الإرادة التبريرية. فالصيغة الكاملة للمثل الشعبي (“سمحوا لينا، اللسان ما فيه عظم”) تسمح بهذا الفهم. ففي الوقت الذي انبرت فيه أصوات وأقلام ومنابر إعلامية محترمة لاستنكار واستهجان الإيحاء الجنسي الواضح والفاضح في كلام رئيس الحكومة، راح “نيني”، على غير عادته، يبحث لهذا الأخير عن مبررات لا تصمد ولا تستقيم أمام وضوح العبارة. فحتى البرلمانية المعنية برد “بنكيران”، لم يحد فهما عن هذا الاتجاه.
وتظهر نية “نيني” في تحريف الكلام عن موضوعه من الكلمة الأولى في مقاله: “اعتبرت ميلودة حازب، برلمانية الأصالة والمعاصرة المراكشية، أن ما تلفظ به رئيس الحكومة ردا عليها… خطابا جنسيا مبطنا موجها إليها قائلة إن بنكيران يفكر بعقلية الممارسة الجنسية”.
وبعد أن يحدثنا، في الفقرة الثانية، عن المسار السياسي للبرلمانية “حازب” (وهذا يدخل أيضا في تحويل النقاش عن موضوعه) التي انتهت في الأصالة والمعاصرة، يعود لاستعمال فعل “اعتبرت” قائلا: “اعتبرت ما تلفظ به رئيس الحكومة لا يصدر إلا عن سكران”.
وفيما يشبه تبرئة الذمة من الدفاع عن “بنكيران”، يقر بسكره قائلا: “وبالفعل فالرجل سكران منذ ثلاث سنوات بفعل نبيذ السلطة “. لكن الإقرار بالسكر، هنا، ما هو إلا ذريعة للتهجم على المعارضة واتهامها بالهزال والتفاهة (وأساسا حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، كما سيظهر ذلك في آخر المقال). و”للتفريش لهذا التهجم، كان لا بد من إقحام المرحوم “باها” والحديث عن تحرر “بنكيران” من سلطة هذا الأخير.
وسوف لن ننتظر طويلا كي نعرف أحد المقاصد الأساسية، إن لم نقل المقصد الرئيسي لمقال “نيني”، ألا وهو إيجاد مبررات تسوغ كلام “بنكيران” وتجعله غير مستهجن وغير مرفوض. وهكذا، يقول لنا الصحافي الألمعي في مطلع الفقرة الرابعة من مقاله: “وكثيرا ما يلجأ السياسيون في كل بلدان العالم (كذا) إلى التلميح والغمز واللمز مستنجدين بالخلفية الجنسية في خطاباتهم دون التصريح بها بوضوح من أجل خلق الغموض والالتباس”.
ودائما، في إطار التمويه واللعب على الحبلين، يخبرنا “نيني” بأنه ليس المرة الأولى التي يزل فيها لسان رئيس الحكومة، ليردف قائلا بأن “بنكيران ليس أول سياسي يستعمل الإيحاء الجنسي في خطابه”. ثم يقدم لنا مثالا من برلمان السودان وآخر من برلمان مصر.
لن أبحث في تسجيلات البرلمان السوداني أو المصري للتحقق من صحة ما ذهب إليه “نيني”. فهذا لا يهمني. ما يهمني هو الجهد الذي بذله مدير جريدة الأخبار”، تنقيبا أو تلفيقا، للتخفيف من حدة الصدمة التي خلفها كلام “التسلكيط” بالبرلمان.
لاحظوا أنه مهَّد لهذا بقوله بأن ما فعله “بنكيران” ، يحدث في كل بلدان العالم. ثم، بعد ذلك، يكتفي بتقديم مثالين من العالم العربي، مصر والسودان.
وزيادة في التعويم ومحاولة تضليل القراء، يسوق أمثلة لا علاقة لها بالإيحاءات الجنسية وباللغة السوقية، بل هي أخطاء مهنية أو “مطبعية” أو بروتوكولية عادية. وقد ساق مثالين من جريدة “العلم”؛ وهما خطئان مطبعيان؛ وفي أسوأ الحالات، يمكن اعتبارهما خطأين مهنيين؛ لكنهما بعيدان كل البعد عن الكلام الفاحش. كما أنه نسب زلتين إلى وكالة المغرب العربي للأنباء؛ ويتعلق الأمر بالخطأ في الأسماء. ولم يخجل من ذكر عثرة لسان وقعت للمكلف بالبروتوكول خلال تقديم المكرمين لنيل الأوسمة الملكية.
والهدف من سرد “نيني” لهذه الأخطاء “المطبعية” واضح . فهو يريد أن يساوي بين الخطأ المهني أو البروتوكولي و”التسلكيط” تحت قبة البرلمان. لذاك لم يرف له جفن وهو يقول: “وعلى كل حال يمكن التغاضي عما قاله رئيس الحكومة ووضعه على حساب الأخطاء المطبعية وزلات اللسان التي تعتبر من أكبر أعداء السياسيين والصحافيين والمعلقين، والتي كان رئيس الحكومة نفسه أحد ضحاياها عندما وصفه معلق في نشرة أخبار القناة الثانية برئيس الحومة عوض رئيس الحكومة”
سبحان الله ! لقد تسبب سقوط حرف الكاف من الحكومة التي أصبحت حومة، في جعل “بنكيران” ضحية؛ بينما عبارة “ديالي كبير عليك” هي، في عرف “نيني” عادية في عالم السياسة وفي الجلسات البرلمانية…
وإذا عرفنا أن خطأ إسقاط الكاف من كلمة الحكومة، قد وقع فيه معلق، الذي قد يكون متدربا أو مبتدئا أو مرتبكا أو أو…، فمثل هذا الخطأ لن يكون، على كل حال، مقصودا. ولنفترض أنه مقصود، فهل يمكن مساواة خطأ معلق في نشرة أخبار بخطأ رئيس الحكومة وهو يخاطب سيدة بمجلس النواب بعبارة “ديالي كبير عليك”؟
ولا أحتاج أن أشير إلى أن الأمثلة التي أجهد “نيني” نفسه لتقديمها دفاعا عن رئيس الحكومة، فيها احتقار كبير لذكاء القراء؛ إذ يحاول استبلاد الجميع بممارسة الخلط والتمييع والتعويم والتضليل… من أجل التغطية على فضيحة “بنكيران”. فاجتهاده في إظهار تلك الزلة بأنها عادية ومقبولة لكونها تقع لكل السياسيين وفي كل دول العالم- بينما هي “فضيحة بجلاجل”، على لسان إخواننا المصريين- فيه وقاحة كبيرة وتملق بين لرئيس الحكومة ولحزبه. مقابل ما ذا؟ الله أعلم !!!
ولتبيان هذه الوقاحة في الدفاع عن “بنكيران” وتبخيس حق السيدة “حازب” “للي دسر عليها” هذا الأخير في البرلمان، أورد هذه الفقرة من عموده: “وبالعودة إلى النائبة ميلودة التي تأثرت كثيرا بما قاله لها بنكيران، فما عليها سوى أن تطلب مساعدة ابن أختها «الخاسر» الذي يطلق على نفسه لقب «بيغ» والذي يقضي وقته في تأليف ألبومات غنائية مليئة بالشتائم و«الكلام الخاسر»، حتى يفرجها فيه”.
ويبرز، في الفقرة الموالية، بأنه ليس جادا في هذه النصيحة، فيقدم اقتراحا أفضل لـ”حازب” ولحزبها، حسب زعمه؛ جاعلا من نفسه “منظرا” سياسيا وخبيرا في الخارطة السياسية وصناعة التحالفات، الخ. وهكذا، كتب يقول: “غير أن الأحسن، وبعد الاندحار الذي عرفه الاستقلال والاتحاد على يد شباط بوحمارة وبا حماد لشكر(كذا) هو أن يطلب الأصالة والمعاصرة من العدالة والتنمية يدي بعضهما البعض ويركبا الخواتم استعدادا لليلة الدخلة المنتظرة سنة 2017.
وعوض أن يدخل بنكيران في جدال عقيم وملاسنات مع نساء الأصالة والمعاصرة، فما عليهم سوى أن يجلسوا ويتفقوا «باش يدخلو شي فشي»، أقصد الحزبين طبعا، ويكونا تحالفا سياسيا متماسكا لكي يستمر بنكيران في الحكم لولاية مقبلة مرتاح البال”.
على كل حال، لـ”نيني” ولغيره الحق في أن ينصح من يريد ويدافع عمن يريد ويهاجم من يريد ويقترح على من يريد… هذا حقه، لا نناقشه ولا ننازعه فيه. لكن ما ليس مقبولا، أخلاقيا على الأقل، هو التجني والتحامل والكذب والافتراء وطول اللسان بالباطل، الخ. فهذا يتنافى، في الواقع، وحرية التعبير التي يجب أن تُضمن للجميع.
ويبدو أن صاحبنا لم يستفد شيئا من “الزلات” التي ساقها كأمثله، ليدرك أن حفظ اللسان، هو رأس الفضائل.وهو، في هذا، مثله مثل الذي خص له العمود الذي نحن بصدده لتبرير كلامه الفاحش.
وبما أنه اختار، في نهاية مقاله، الحديث عن اندحار الحزبين الوطنيين العتيدين، معتمدا في ذلك على التنابز بالألقاب (المحرم شرعا بنص قرآني)، فقد قررت أن أسايره في هذا المنحى. وإذا كان “نيني” قد اعتمد على التاريخ لوصف الأمين العام لحزب الاستقلال بـ”بوحمارة” والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي بـ”باحماد” (وهي ألقاب، حمولتها القدحية لا تخفى على أحد)، فأنا سأعتمد على البيئة التي نشأت فيها (أليس الإنسان ابن بيئته؟) والتي يلعب فيها (والأصح كان يلعب فيها) الكلب دورا كبيرا، ليس فقط لحفظ أمن أهل المنزل وماشيته، بل كان يساعد أيضا المتعاطين للصيد البري، إما هواية وإما لتحسين عيش الأسرة بتوفير وجبات من لحم الحجل و/أو الأرانب…
وبما أنه قد سبق لي أن تحدثت عن “نيني” في دور “كلب الصيادة”، فأعتقد أنه من الأنسب، في إطار التنابز بالألقاب (رغم أنه من “الاسم الفسوق”)، أن أبقى في نفس المجال وألقبه بـ”كلب الصيادة” للاعتبارات التي وضحتها في مقالي الأخير.
الجمعة 13 فبراير 2015