يوم الخميس 8 فبراير من العام 2018. أعرف أن هذا التاريخ سيظل عالقا بذاكرتي. فهذه أول مرة تطأ قدماي أرض المغرب منذ وقوع ما يسميه الفرنسيون على سبيل التورية والتخفيف “تغييرا”، ويطلق عليه الناطقون بالعربية من مواطنينا العرب، وهم أقرب إلى الصواب، لفظة “الثورة”. مازال المغرب مملكة، أمر شبيه بالمعجزات. تطالعني في كل مكان عبارة “المملكة المغربية” وأنا أحط الرحال في مطار محمد الخامس. الأماكن تحمل نفس الأسماء، ونفس الألوان هنا وهناك، لم يُغيَّر أي شيء انسجاما مع النظام الجديد. بل الطائرة نفسها التي أغادرها الآن تابعة لشركة “لارام”، شركة الطيران الوطنية التي ما زالت تحمل نعت “الملكية” مثلها مثل الدرك، وأنا الآن واقف أمام مفوضيته الموجودة مباشرة بعد مكتب مراقبة الجوازات. وفي نفس الوقت، لاشيء ظل على حاله السابق. أقف في طابور الانتظار مواطنا عاديا مثل غيري من المواطنين. لم يجد شرطي الحدود والمطارات أي غضاضة في أن يجود علي بابتسامة وهو يسألني: “ما هو الغرض من زيارتك؟”. أعرف أن الصحافة المحلية أعلنت عن قدومي إلى المغرب، وأسهبت في تعليقاتها على هذا الحدث. أجبته: “جئت في إطار مشروع “المدينة الخضراء بأم عزة”، وأنا صاحب المشروع ومموله الرئيسي”.
نظرة الشرطي الصادقة الخالية من أي تعبير عن الضغينة أو الارتياب شكلت أول خطاب دال على “المغرب الجديد”، وحركت لواعج نفسي تأثرا، خاصة وأنا أسمع عبارة: “مرحبا بك في بلدك”.
بعد رحيلي إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2002، لم أكف عن التفكير فيما لم أتردد في اعتباره فشلا جماعيا، أي فشلا في الآن نفسه للملك وللنخبة وللشعب ولي شخصيا. أعني بالفشل هنا عجزنا الجماعي عن تحويل “الانفتاح” في أواخر عهد الحسن الثاني إلى عملية اختراق ديمقراطي حقيقي. لم أتورع حينها عن التعبير جهارا نهارا عن قناعاتي، بعيدا عن أي مؤامرة مزعومة تُنسَج خيوطها خلف أسوار القصر الملكي، وبعيدا عن منطق “افسح لي المكان فأنا أحق به منك “، مستحضرا انتمائي إلى العائلة الملكية بوصفها حجر الزاوية الضامن لوحدتنا الوطنية. في الآن نفسه، كنت أعرف أن وراء الملكية يتخفى شبح المخزن، نسخته المفترسة وضعفه الخسيس. ومباشرة بعد وفاة الحسن الثاني، عمي وأبيه، نبهت محمدا السادس في لقاء ثنائي جمعني به إلى هذه المسألة. وهنا أصل “سوء التفاهم” الذي أسال الكثير من المداد. اعتبرت حينها أن على الأنهار أن تعود إلى نبعها الأول، وإلا كان مصير الملكية الغرق في البحار. ذاك أبقى لسيادة هي بالضرورة شعبية، ولثروات البلد، ولممتلكات الوطن التي لا يمكن أن تظل “مخزنا” ملكيا.
وها ما كنا نتوقعه حصل. ففي مواجهة موجة احتجاجات اكتسحت القرى في أقاصي الجبال، والمدن الساحلية، اختلط فيها الحابل بالنابل، من عسكريين ومدنيين، وعرب وبربر، وعلمانيين وإسلاميين، تراجع الملك في اللحظة الأخيرة إلى الوراء، وطالب أيضا أعضاء عائلته أن يحدوا حدوه. أذعنتُ رغم أنني عضو العائلة الوحيد الذي يمكن أن يلتحق بالحركة، عوض أن يقف في وجه الإرادة الشعبية. وفي الوقت نفسه، تصرفت انسجاما مع قناعتي الراسخة أن الملكية لم تستنفد بعد قدرتها التاريخية على العطاء في المغرب، فما زال بإمكانها أن تفيد، ولكن ببعض الشروط. هكذا تتبعت من بعيد الدعوة إلى إنشاء جمعية تأسيسية تلك التي تأتي تتويجا لفكرة ناديت بها سنة 2011 الداعية إلى “مؤتمر وطني”. ولأول مرة في بلدنا الذي فرضت عليه مرارا وتكرارا مجموعة من الدساتير، دون أن يحظى ولو مرة واحدة بنص دستوري يقيه من المزاجية والعشوائية، تعمد شخصيات وازنة من طينة محمد بنسعيد آيت يدر ونبيلة منيب والأستاذ المحامي عبد الرحيم برادة وعبد اللطيف اللعبي وكريم التازي ورقية المصدق وأبي بكر الجامعي وغيرهم كثير ممن لا أعرفهم، إلى صياغة قواعد لعبة مؤسساتية لا تُقرَأ في هذا الاتجاه أو ذاك سلبا أو إيجابا. وقد أفلح هؤلاء الحكماء العليمين ب”خرُّوب” بلادهم في تغيير كل شيء، دون أن يدمروا شيئا، ليصبح المغرب في أعقاب حوار صريح يسمي الأشياء بأسمائها ملكية دستورية وديمقراطية يتوجها رمز. يجسد الملك فيها الوحدة الوطنية وإرادة العيش المشترك، ويعود تدبير شؤون المدينة فيها إلى المواطنين ومنتخَبيهم.
مدينة جديدة
لننطلق نحو أم عزة! خامرتني منذ 2007 فكرة إنشاء “أول مدينة إيكولوجية بإفريقيا” هنا بجنوب غرب الرباط. انكببت بمعية مجموعة من صفوة الخبراء على دراسة الشروط التي تمكنني من خلق الأرضية المناسبة لنمو منطقة سكنية في ضواحي المدينة، لا علاقة لها بالمدن القصديرية أو حواضر النوم تلك التي يؤوب إليها الناس مساء عائدين من عملهم في المدن النشيطة اقتصاديا، عن طريق استعادة الغاز الحيوي من مركز اطراح النفايات، سعيا إلى توفير الطاقة الطبيعية بثمن بخس. وفرت الأراضي اللازمة والرأسمال الضروري لتنفيذ ذلك المشروع بما فيه استحداث جامعة تحمل اسم أبي. ذهبت جهودي كلها أدراج الرياح. فالمخزن الذي ظل يوحي لأقلامه المأجورة أن يروجوا عني فكرة الاقتصار على الاستثمار في الخارج “دون أن أقدم أي شيء لبلدي”، لم يفتأ يضع العقبات في وجهي. عيل صبري بعد إيقاف ثلاثة موظفين سامين عن ممارسة مهامهم وذنبهم الوحيد أنهم لم يستمعوا سوى لصوت ضميرهم الحي، وبعثت برسالة إلى محمد السادس أقول فيها: “أعتقد أن الصعوبات التي ألاقيها في تنفيذ أي مشروع في المغرب مردها إلى كون التعليمات التي تصدرونها تؤول دائما في ضوء مشاعركم تجاهي، أكانت حقيقية أم مفترضة. ومع الحرص على نيل رضاكم بالتزلف لما يفترض نفورا منكم إزاء شخصي، تُفسَّر أي علامة دالة على غضبكم أو استيائكم مباشرة على أنها تعليمات جديدة للتشدد في وضع الشروط، أو التلكؤ في منح التراخيص، أو صم الآذان تماما في انتظار تأكيد التعليمات الأولى مرات ومرات”.
كان الجواب عن رسالتي مسارعة مجموعة الضحى المرتبطة بالقصر إلى التعجيل بتنفيذ مشروعها الهادف إلى بناء 40 ألف وحدة سكنية جديدة بأم عزة ومدينة تضم 30 ألف نسمة… وأخيرا، حل محمد السادس في 9 نونبر 2009 شخصيا بمدينة بنجرير لزرع أول شجرة في “الشريط الأخضر” المزمع إقامته في تلك المدينة التي من المقرر أن تصبح “أول مدينة خضراء بإفريقيا” تضم جامعة نخبوية تحمل اسم “محمد السادس بوليتكنيك”، تنعم بمباركة الملك وتخصص لها استثمارات عمومية ضخمة. ومع ذلك، لا تهم الكلفة الباهظة، بما أن ذلك سيمكن العاهل المغربي، في منتصف الطريق بين مراكش والدار البيضاء، من تأكيد ما ينعم به من صلاحيات مطلقة لإغداق كرمه أو حجب هباته عمن يشاء، بوحي من مزاجه، قصد “تركيع” الجميع، حتى أعضاء عائلته. وينبغي أن يكون المرء على قدر كبير من السذاجة كي يصدق خرافة الأمير الطيب المحاط بحاشية فاسدة، و”ملك الفقراء” المحفوف بمجموعة من الانتهازيين يعملون في الظلام دون أن يتفطن لما يدبرونه، هو المشبع بالنوايا حسنة. ومع ذلك، لم أفقد الأمل في الملكية، بذريعة أنها لا يمكن أن تفصل عن توأمها السيامي المفترس. هكذا ختمت رسالتي الموجهة إلى الملك في صيف 2001 بهذه العبارة: “حتى وإن كنت قادرا على تحقيق ذاتي بنجاح في الخارج، فمن واجبي ان أخدمكم، وفاء لطفولتنا المشتركة ولعائلتنا وللمؤسسة التي أنتم رمز لها”.
وصلنا إلى أم عزة. وكما كان مقررا، جاء أعضاء المجلس البلدي في الموعد. لم نغرق في البروتوكولات ولم تدق الطبول ولم تفرش الأرض بالزهور، لكن الأهم أن اللقاء مر في جو من التفاهم. لم يضيع شركائي في هذا الاجتماع وقتهم في التخمينات والتكهنات، وتم التركيز على الأهداف التي نسعى إليها معا، المتمثلة في تطوير جماعتهم. صدقوا ما أقوله، فما الذي سيدفعهم إلى الشك في نواياي وهم يرونني مستعدا لتوظيف أموالي تنفيذا لوعودي؟ وبفضل قانون اللامركزية الجديد، أصبح بإمكانهم اتخاذ القرار دون الارتهان إلى أطنان “المصادقات” الآتية من عل. قادتنا خطانا إلى مدرسة ابتدائية. منذ تطبيق الإصلاح الذي صادق عليه البرلمان، أصبحت الدارجة هي لغة التدريس. بين لي المعلم حسنات هذا الاختيار قائلا: “لا يجد الاطفال أي صعوبة في الالتحاق بالمدرسة حيث تشكل لغة التدريس امتدادا للغة المستعملة بالمنزل. وهذا سيساعدهم فيما بعد على تعلم اللغة العربية الفصحى أو الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية”. وراء المعلم علقت على الجدار ورقة تعبر خير تعبير عن الفلسفة الكامنة خلف هذا التوجه: “لكي نتجاوز ذاتنا، علينا أن نقبلها كما هي”. لم يكن ذلك مجرد شعار للاستهلاك، الأمر الذي أكده لنا المعلم بالقول: “فشل تلامذتي هو أيضا فشل لي أنا”. قبل أن يضيف بنبرة لا تشي بأي مرارة: “إذا لم يحصلوا على المعدل في الامتحانات الوطنية، فمن حق مجلس الآباء أن يفسخ عقدي الذي يتضمن بندا ينص على وجوب الحصول على نتيجة إيجابية”. يبدو إذن أن “الماموث” شبع موتا ودفن إلى الأبد.
زرت أيضا المستشفى وحظيرة للصفائح الشمسية ومشاريع الفلاحة الحضرية والعديد من “المراكز المندمجة” التي تضم جنبا إلى جنب الوحدات السكنية والخدمات وأنواع التجارة للحد من التنقلات وخاصة بالسيارة. لا أستطيع مداراة شعور عارم بالرضى والسرور. لم تُحلَّ طبعا كل مشاكل الحياة الحضرية الحديثة. ما زال هناك طبعا عاطلون ومتعاطون للمخدرات ومنحرفون وأشخاص تعساء…ولكن الدائرة المغلقة، من احتقار الذات، وبالتالي شعور الضغينة تجاه الآخر والإحساس الجماعي بالعجز، قد كُسِّرت في خضم المواجهة مع السيد الحاكم المطلق الذي ظل إلى ذلك الحين رب العائلة الذي يأتمر الجميع بأمره. وليس من باب الاعتباط أن أطلق على التحولات التي شهدها المغرب في فترة لاحقة بزمن طويل على الربيع العربي وحركة 20 فبراير اسم “ثورة الكَمون”، فالمغاربة على غرار هذا النوع من التوابل الذي يضعه المغاربة عند تحضير الطاجين، لا يقدمون أفضل ما لديهم إلا بعد أن يُفركوا فركا. ففي فترات سيادة ملكية الحق الإلهي، والمخزن بأيديه الأخطبوطية وتشكل النظام الحاكم ظاهريا في مجموعة من المنظمات، أصبح السكان معتادين على الجلوس في قاعة الانتظار على هامش التاريخ، حسب التعبير الجميل الذي ندين به شاكرين للفكاهي المغربي بزيز، ولسان حالهم يردد المثل الدارج: “اتسن آ الجن حتى يطيب اللحم”. ولكن الآن، يبدو أن الجميع صحا من غفوته ليدرك أن “تاريخنا العريق” الذي من حقنا أن نعتز به، ليس موتا ندير له ظهرنا، بل أيضا وأساسا المادة الخام التي يتعين علينا أن نصوغها.
المغرب المتكلس في الصحراء
غادرت أم عزة، في الهزيع الأول من الليل، وذهني متجه إلى كلفة الفرص الضائعة، أعني بذلك حجم الخسائر التي تكبدناها من جراء الجمود السابق. تبادرت إلى ذهني أيضا الملاحظة الصائبة التي أدلى بها الاقتصادي البريطاني جان ماينارد كينس John Maynard Keynes غداة الحرب العالمية الثانية: “لا يكفي أن تكون الحالة التي نطمح إلى تحقيقها مستقبلا أفضل من حالتنا الآن، ولكنها يجب أن تكون أفضل بكثير إلى حد أنها تعوض أيضا محن المرحلة الانتقالية”. أظن أن هذا هو السبب الذي ظل لفترات طويلة يمنع المواطنين المغاربة من القيام بتلك الخطوة الحاسمة. وبالعودة إلى التاريخ، يبدو لي أن أولى خيوط المشكلة بدأت في التشابك في السنوات الخمس الأولى من عقد السبعينات، امتدادا للعمليتين الانقلابيتين التين نجا منهما الحسن الثاني، قبل أن “ينزع فتيل” الحياة السياسية المغربية ويخمد نارها بفضل ميثاق فاوستي يخص الصحراء الغربية. فمقابل حصول الأمة على أقاليمها الجنوبية، باعت روحها لملكية تروج عنها على سبيل التمويه صورة نظام خالد شاب لا يطاله الهرم والشيخوخة. ويأتي اعتلاء “ملك شاب” العرش سنة 1999، لينفخ الروح من جديد في هذا الوهم القاتل.
تشكل الصحراء الغربية الفضاء الذي تكلست في رماله الحياة السياسية المغربية. صحيح أن دستور 1970 كان قد ثبت بالنص في فصله الرابع والعشرين “قدسية” شخص الملك، ولكن بيعة العيون سنة 1979 هي وحدها التي جعلت من الملك “ظل الله في الأرض ويده الطولى في الحياة الدنيا”. وهنا تصبح البيعة خضوعا، لتفقد بذلك طبيعتها التعاقدية، أي التفاوضية وبالتالي يمكن معارضتها والرجوع عنها. ومن ثم، ألنا ان نستغرب ونحن نرى المغرب الذي ظل لفترات طويلة يئن تحت وطأة “ملف” الصحراء الغربية، يسترجع بشائر عافيته بدءا من منطقة الجنوب؟ فعندما رجت الاضطرابات أسس المعبد، اقتنع الجزائريون والصحراويون هم أيضا بحقيقة لاحبة مفادها أن التخوم المتنازع حولها لا تحمل لأي كان وعدا ما بالعظمة والقوة، ولكنها تقف حجر عثرة يحول دون تحقيق الديمقراطية لجميع الأطراف. هكذا تحقق “من الأسفل” في لمح البصر “اتحاد المغرب العربي”، لتجني المنطقة برمتها ثمار هذا الاتحاد الذي مدها بالأسباب التي تمكنها من أخذ مكانتها ضمن التكتلات الإقليمية المندمجة الكبرى في العالم.
لا تدب الحياة في أي نظام سياسي إلا عن طريق الرموز. وفي هذا الصدد يبدو لي أن نهضة المغرب تستحق الإشادة. فامتدادا “للاختيار الثوري” الذي لم يكن في الحقيقة بتلك الصورة الشيطانية التي رُوٍّجت عنه، كما نادى به المهدي بن بركة منذ 1962، أي ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزا للاستمرارية المؤسساتية والحكومة فيها خاضعة للشعب وتمارس السلطة فعليا، لم تُهدَّم القصور، وما زالت القوات المسلحة الملكية موجودة، كما أن الولاء يُقدَّم كل سنة للشعب ممثلا في رمزه وهو الملك. لكن القصور حُوِّلَت إلى متاحف، وأحيانا إلى مستشفيات أو جامعات، وأصبحت القوات المسلحة الملكية تحت مسؤولية وزير الدفاع، أي شخص مدني، و الجنود يعتبرون “مواطنين يرتدون البزة العسكرية”، وهو لقب استحقوه عن جدارة عندما اصطفوا إلى جانب الشعب لتحقيق انتصار الثورة، وحل الولاء محل البيعة في احتفالات تعلي من شأن الوحدة الوطنية حول الملك الذي لم يعد وحده يمتطي الفرس، بلائحة مدنية محصورة تخضع كل سنة لمصادقة البرلمان. والبروتوكول الذي قنن الخضوع وثبَّته تمت مراجعته جذريا ليصبح في خدمة رفعة الدولة وسموها، والدولة نفسها باتت في خدمة المواطنة، ولا حاجة لنذكر أن تقبيل اليد، من الجهتين الراحة والكف، أمست موضوع تندر في برامج فكاهية ساخرة أو في بعض ألعاب الأطفال بوصفها عادة بالية مهينة.
غباء جحا
لم يغمض لي جفن إلا لماما. ورغم فارق التوقيت والتعب الناتج عن انفعالات العودة، لم أفلح في التخلص من إغراء الشاشة الصغرى، أكثر وسائل التنويم والتخدير فعالية في الماضي، عكس اليوم، حيث أصبحت وسائل الإعلام العمومية تحت إشراف مجلس إدارة يضم حسب العبارة التقليدية المستعملة في هذا الصدد “القوى الحية في البلاد”، من أحزاب سياسية ونقابات وفقهاء ورئيس الأساقفة والحاخام الأكبر ليهود المغرب وممثلي المجتمع المدني. ولم يعد هناك وجود لوزارة الإعلام، لتتحول بالتالي وسائل الإعلام من أبواق دعاية خاضعة للرقابة مفتنة في زراعة اليأس في النفوس إلى بوتقة تلتقي فيها الطموحات والتطلعات وتنصهر في كل متناغم لصناعة الأمل. ليست القضية فقط قضية حرية تعبير وتعددية في الآراء، بل مسألة متعة. فها أنا متيقظ لا يعرف النوم سبيلا إلى عيني، أتابع إعادة بث حفل موسيقي لثريا الحضراوي، ضمن برامج السهرة المسائية. يصلني الصوت الرخيم لأول امرأة غنت الملحون، صوت مغربية هو من الرهافة والسمو بحيث يقبل الالتحام بأي رافد خارجي، أكان موسيقى عازف البيانو سيمون ناباتوف أو الفرقة الغينية بوتي بركسيون، لأتساءل إن لم تكن هذه الفنانة سباقة إلى شق طريق التغيير قبل حدوثه بزمن طويل. بعبارة أخرى، ألم نكن جميعنا نشبه شخصية جحا في خرافتنا الشعبية وهو يبحث عن الحمار بينما هو راكب على ظهره؟ كنا ننتظر ونتمنى قيام “مغرب جديد”، دون أن نرى المغرب الآخر الذي كان يشق طريقه فينا وحولنا.
قضيت الصباح متجولا في أكدال الشارع الذي أسكنه بالرباط، قبل أن أيمم شطر مسجد بدر لأداء صلاة الجمعة. متفرسا في وجوه الشباب والفئة الأكبر سنا، رجالا ونساء، ممن يتبعون المذهب المالكي، وينتصرون لإسلام أكثر انغماسا في السياسة، وجدت صعوبة في كتم شعور عذب مر. أكان من الصعب إلى هذا الحد أن نتصور الإسلام حضارة مشتركة نجتمع حولها، وإيمانا متقاسما بيننا في تعدد تأويلاته، وتعدد ثقافاتنا؟ أكان من الضروري بعد أن ألصق بي نعت الأمير الأحمر أن تمسخ صورتي لأصبح “أميرا أخضر” مستعدا لتعبيد الطريق أمام الإسلاميين؟ تبدو هذه النعوت ونحن نتأملها بتجرد عن طريق إقامة مسافة معها، جوفاء، لا شأن لها قياسا إلى كم المؤمنين الذين يعتبرون أن الإسلام قبل أن يكون ناقلا لشيء ما، هو بكل بساطة دينهم، والروح الذي ينفخ الحياة في معيشهم اليومي.
لطالما جمعتني مع صديق قديم لي هو الباحث الأنتروبولوجي عبد الله الحمودي أحاديث حول “أشكال الحياة المشتركة”. وهناك جزء من نخبتنا، من أولئك الذين من باب المفارقة يظلون سحابة نهارهم كله يتشدقون بلفظة الشعب حتى التخمة، لا يشتركون في الحقيقة مع الأغلبية الساحقة إلا في القليل من الأشياء. وليس اعتباطا أن هؤلاء الزعماء المنعزلين عن طائفتهم، وإن كانوا يستحقون التقدير كأفراد، لم يصلوا إلى السلطة عن طريق “الأحداث”. ومع ذلك، سيكون من باب الخطأ الاعتقاد أن “الإسلاميين” حظوا بإجماع الشعب. أولا لأن إسلاميي حزب العدالة والتنمية أصابهم التآكل، على غرار اشتراكيي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لأنهم ألحقوا الفساد بفكرة “التناوب” في السلطة عندما قبلوا التعايش بسذاجة وتزلف لنظام المخزن، وحتى الأطفال الصغار يعرفون أن المخزن “لا ينام أبدا”. وثانيا، لأن العدل والإحسان بعد أن تحولت إلى حزب على غرار السلفيين، لم تحصد بالضرورة الأصوات لأسباب دينية، ولكن مرد ذلك بالأحرى إلى الشجاعة والإصرار الذي أبانت عنه في مقاومة ملكية تسلطية. ومن منا يتذكر كيف أن عبد السلام ياسين في أوج المواجهة مع النظام نادى الحسن الثاني منذ سنة 1974 إلى أن يعيد “للشعب المغربي الثروات التي راكمها عن طريق نهب خيرات البلاد”؟ وهو المطلب الذي وجهه من جديد لمحمد السادس بعد اعتلائه العرش.
سيأتي يوم نتحدث فيه عن “الإسلاميين الديمقراطيين” في العالم العربي بتجرد وهدوء كما نتحدث عن المسيحيين الديمقراطيين بإيطاليا أو ألمانيا، ولكن لن يتحقق ذلك في المستقبل القريب. ففي وقتنا الراهن، ما زال حزب سلفيينا المنار يثير الرعب في نفوس الغربيين. فصحوة البعض تعني الظلامية عند آخرين. ومن السهل تفهم ذلك، ليس ك”صدام بين الحضارات”، بل انطلاقا من التاريخ الخاص بكل طرف. وفيما يخصنا، فالعلمانية وظفها الاستعمار سلاحا للتضييق على هويتنا الإسلامية، وتبعا لذلك، وجدنا أنفسنا اليوم ملزمين بالتلاعب بالكلمات قصد تملك مضمونها الإيجابي، حيث نتحدث مثلا عن الدولة المدنية للإشارة إلى الدولة غير الدينية، والعلمانية لإثبات حقيقة علمية. يعني ذلك أن على الطرفين أن يتحليا بالكثير من الصبر والحكمة كي تنضج الأمور في مطبخ التاريخ. وكما يقول عن حق ذاك العالم “أمير المؤمنين” بشمال نيجيريا أوسمان دان فوديو في مستهل القرن السادس عشر: “الوعي جرح ينزف دما، ووحدها الحقيقة كفيلة بجعله يندمل”.
هاربو صحون التقاط القنوات
كنت أخبرت السلطات المغربية أن مقامي بالمغرب في أول زيارة لي بعد غياب طويل، لن يتعدى ثلاثة أيام. أنا عازم على الالتزام بما صرحت به، خاصة وأنني أنوي العودة عما قريب برفقة عائلتي لقضاء فترة طويلة هنا. فالآن والبلد ينهض من سباته، ومعالم المستقبل بدأت ترتسم بوضوح في كل مكان، يجب تسجيل الحضور في قلب الحدث. كيف أفسر ذلك لأسرتي، أي زوجتي وبناتي اللواتي ينتظرنني بالولايات المتحدة الأمريكية؟ لم أكن قد اخترت بعد كلمات مناسبة بعينها، ولكنني لن أقدم لهم بأي حال صورة حالمة أو طوباوية. فما زال أمام المغرب الكثير كي يتحول إلى بلد غاية في الكمال ونموذجي، ولا ضير في ذلك. ولكنه يخطو خطواته الأولى في درب التغيير. وأنا ألصق وجهي بالنافذة الباردة في القطار السريع جدا الرابط بين الرباط والدار البيضاء، حيث سأستقل طائرة العودة، التقطت عيني بنظرة خاطفة أجمل الأشياء وأسوءها متجاورين: حقل مزروع، وأكواخ قصديرية. أنى السبيل إلى قياس التقدم؟ فمثلا، إضافة إلى القطار فائق السرعة TGV المتجه نحو الشمال الذي أتى به النظام القديم، وقد أصبح اليوم موضوع تهكم ضمن قراءة ساخرة لاسمه اللاتيني المختصر TGV التي تعني القطار فائق السرعة ولكنها قد تقرا أيضا قطار الأثر الأكبر المتبقي حيث حرف V يحيل على vestige أي أثر،ها هو القطار السريع جدا يؤمن الربط الحيوي بين العاصمة والمدينة العملاقة الدار البيضاء، إضافة إلى مشروع مترو الدار البيضاء الذي شرع في تنفيذه. أتعبتني رؤى المتنبئين الذين يغرقوننا تحت سيل المشاريع المستقبلية العملاقة، وأسلمت نفسي لشعور غريب بالراحة في بلد لا يفكر سوى في الخطوة المقبلة، ثم في الخطوة الموالية لها، وهكذا دواليك، دون أن يرفع رأسه لرؤية ما يلمع في الأفق.
كنت أتوقع ما ستراه عيني بالدار البيضاء، ومع ذلك عقدت الدهشة لساني وأنا أكتشف من جديد هذه المدينة، ويحق لي أن أقول إن كل من يريد معرفة ما سيؤول إليه المغرب، عليه أن ينطلق من الدار البيضاء قلب المغرب النابض. فلا فلاحو القرى، ولا موظفو الرباط يمكنهم أن يجاروا سكان أكبر مدننا وهي الدار البيضاء الفياضين حركة واضطرابا. ففي هذه المدينة تجتمع كل المكونات المتوزعة في غيرها من المدن. ويبدو لي أنني خلال سويعات قليلة استشعرت فيها دينامية جديدة لا علاقة لها بالداروينية الاجتماعية التي سادت في الماضي، حيث البقاء للأقوى والأكثر تكيفا. وفي ساحة الأمم المتحدة، يُعرض نموذج “لأول سيارة مغربية” ستتكفل بتصنيعها مجموعة صناعية محلية بشراكة مع مجموعة برازيلية لصناعة السيارات. بل حتى في الأسواق الشعبية، يمكن العثور على رقائق إلكترونية مصنوعة في المغرب. وعلى الشاطئ، مقابل البحر، ينتصب مطعم مغربي أصيل إلى جانب المطاعم الأمريكية للوجبات السريعة، ينتمي إلى سلسلة مطاعم مغربية متخصصة في الطاجين اللحم المبخر، وقد استطاع فرض نفسه في سوق العولمة مزهوا بمحلاته المنتشرة في “مدريد وباريس ونيويورك وبيكين”.
وأنا أنظر إلى جموع الشباب المتحلقين هنا وهناك، أتساءل إن كان حلم عبور جبل طارق بأي ثمن ما زال يراودهم. لم أجرأ على طرح هذا السؤال هكذا بطريقة جلفة مباشرة. ولكن يبدو لي أن مدمني صحون التقاط قنوات الأقمار الاصطناعية استعادوا بعض وعيهم. أمعنى ذلك ان المغاربة استطاعوا التخلص من الشيزوفرينيا المنتشرة في وطننا، تلك التي تجعلنا نتغنى بأمجاد بلدنا بوصفه “أحسن بلد في العالم”، بينما نسعى في الواقع إلى مغادرته والهرب بعيدا بشتى الوسائل؟
أستحضر هنا قولة لحنا أرندت: “لم تعد المعركة اليوم في عالمنا موجهة ضد الأنظمة الاقتصادية، ولكنها معركة من أجل الحرية وفي مواجهة السلطوية”. لست أدري إن كانت أرندت على حق وهي تنسف ضمنيا موقف ماركس، ولكنني ألاحظ بأم عيني أن كل شيء تغير في خلية النحل هاته الدار البيضاء، بينما “ملكية وسائل الإنتاج” التي تتردد على كل الألسنة لم يلحقها التغيير مثلها مثل آثار العولمة. وقد ظل المغرب بلدا منفتحا لاستقبال الرياح الآتية من الخارج، رغم أن الحكومة الجديدة سيجت بعض القطاعات الحيوية في الاقتصاد الوطني بإجراءات حمائية، على النقيض من السياسة السابقة التي خوصصت الثروات العمومية لصالح حفنة وأقلية ممن يستدفئون بنيران القصر، ويمتلكون الأسهم الرئيسية في مقاولة المغرب. إضافة إلى ذلك، فإن الإصلاح الزراعي الجاري على قدم وساق لتدارك “خمسين سنة من سرقة الأراضي”، وأيضا “عملية الأيدي النظيفة” الجديدة، التي أوكلت هذه المرة لقضاء مستقل، هما معطيان وازنان يغيران مع ذلك قواعد اللعب.
الملك أمام أمرين أحلاهما مر
وأنا متجه إلى المطار، تبادرت إلى ذهني أفكار لم تراودني إلا في ذلك الحين: لا أحد في الواقع كلمني عن “كرامته” المكلومة بعمق. حذار، لن أسمح لنفسي بالسخرية ممن تكالبت عليهم عقبات الحياة ومنعتهم من الفعل. ولكن أليس صحيحا أن كل من رفع الراية البيضاء –وما أكثر من فعل!- وكف عن النضال من أجل تحقيق تحرره الجوهري، وطالب بإعادة توزيع الثروات، كان ميالا إلى الانتفاض أكثر في وجه الرموز الدالة على خضوعه؟ فنظرا لعجز هؤلاء عن تغيير النظام الاقتصادي، وخاصة عجزهم عن نزع قناع “قوانين السوق” أو العولمة الذي تتخفى وراءه القوى المجهولة المسؤولة عن شقائهم، يعمدون إلى تحويل نقمتهم نحو العلامات الخارجية الدالة على دونيتهم، أو نحو الأشخاص الذاتيين الأغنياء والأقوياء الذين يجدونهم أمامهم. ولعجز هؤلاء المساكين عن تغيير وضعيتهم تغييرا حقيقيا، يتمردون ضد مظاهر السلطة. وهنا يجدون ضالتهم في الملكية المطلقة التي تستوفي شروط الموضوع المفضل للانتقادات. ولكنهم إذ يخطئون الطريق إلى ساحة المعركة الحقيقية، يبخسون حياتهم ثمنها من جديد. هكذا يصبح الملك وخاصة حاشيته الحائط القصير الذي ينقضون عليه لا يلوون على شيء، ولكن دون أن يؤثروا بتاتا في مسار موتهم الاقتصادي المطبوخ على نار هادئة.
وأنا جالس بقاعة الانتظار، فكرت لأول مرة في الملك. ليس في محمد السادس ابن عمي وصديق الطفولة، ولكن في العاهل بوصفه مؤسسة في النظام السياسي الجديد الذي أفلح أخيرا في التوفيق بين الشرعية التاريخية والشعبية. أدرت في ذهني فكرة “زوال المركزية” وموت المخزن الذي كان حسب التعبير الشهير لجان واتربوري: “نظاما قارا من العنف المنظم”، وأيضا في “مأزق الملك الواقف بين نارين”، في صورة حدسها صامويل هنتنغتون عندما تحدث عن ملك يمارس حكما مطلقا ويظل مترددا في إصلاح نظام الحكم المطلق السلطوي، لأن ذلك سيفرض عليه التحديث ليصبح جزءا من المستقبل، ولكنه إن فعل، نسف أسس سلطته. وقد رأينا ذلك في سياق الربيع العربي، عندما وجه الملك جهوده نحو إضعاف حركة 20 فبراير عوض أن يوفر لها فرص النجاح مجددا بذلك العقد الاجتماعي بين العرش والشعب. أننتهي من ذلك إلى حتمية موت الملك في كل الأحوال والجولات؟ في حمأة انفعالات الرحيل، تتدحرج الأفكار والمفاهيم ملامسة ذهني برفق دون أن تخلف أثرا. وفي المقابل، تظل إحدى الاستعارات عالقة بفكري. ففي صيف 2002، صدر مقال في جريدة لوموند بعنوان ذي حمولة تنبؤية تستشرف المستقبل، يؤاخذ فيه صاحبه المغاربة لكونهم “اعتادوا تحديد ذاتهم قياسا إلى الملك، مثل حقل من نبات عباد الشمس التي تتجه كلها نحو الشمس”. والآن أصبح الملك الشمس الملك المواطن، وفقدت تلك الزهرات بوصلتها. وعوض أن تدير الرأس، تتعلم كيف تستخدمه.
وفي الطائرة، أطلق العنان لنظراتي كي تعانق من علو بلدي المغرب، وضوء الشفق الدافئ المعلن عن رحيل النهار يغطيه بغلالته، فيغمرني إحساس بالسعادة لما آلت إليه الأمور. أسعد بفكرة أن “الشعب” هو الفاعل الرئيس في التغيير، وأن الخنوع ذهب إلى غير رجعة لانعدام متطوعين يقبلون به، وأن القطيعة مع الماضي حدثت دون إراقة دماء، وإن كان العنف لعب دور القابلة المولدة لأحداث التاريخ. وبما أنني تربيت في القصر وفق القواعد التربوية التي وضعها الحسن الثاني، لم أعد أتأثر منذ نعومة أظافري وأنا أرى الأسر الحاكمة ملزمة بأن يخلف بعضها بعضا، أو وهي تقضي في مواجهة خصم من طبيعة أخرى، جمهوريات أو طغم عسكرية. وكان يحلو للحسن الثاني أن يردد على مسامعنا قوله: “سلطتنا لا تنقل، بل يجب استردادها كل مرة من جديد. وعندما تكف الملكية عن امتطاء الخيل والانطلاق، تنزلق من السرج وتهوي إلى الأرض”.
غارقا في مقعدي، وقد غمرني فجأة إحساس بالراحة عميق كما لو أنني فرغت لتوي من عمل مضن استنزف قواي، شعت في ذهني فكرة أخيرة والنوم يتلمس طريقه حثيثا نحو عيني، مثل مسبار يغوص بعيدا في أعماق البحر. لم أحس يوما بالضغينة أو الحسد تجاه أي كان، وحده شعور شغف عارم نحو مهنة الأمير هو الذي سكنني. وفيما يخص المكانة التي تعود إلي هناك ضرورة “أن أقدم قراءة”، يعني ذلك أن أقول وأكرر لمن يريد الإنصات، بل أيضا وأساسا لمن لا يريد الإنصات، ما علمني إياه المغرب. ها قد فعلت، مرة أخرى.
بقلم الأمير هشام
عن موقع هالا بريس
الاثنين 15 ابريل 2013