عن صحيفة  العرب لمياء المقدم نُشر في 08/02/2015، العدد: 9822،

البروفيسور موريس برخر، أستاذ محاضر بجامعة لايدن الهولندية، واحدة من أعرق الجامعات الأوروبية، مواليد 1964. درس القانون وتخصص في التشريعات الإسلامية، والإسلام السياسي. اشتغل محاميا لفترة، برغبة من والديه، ثم هاجر مع شريكته التي تعمل في المجال الدبلوماسي إلى سوريا حيث عمل مراسلا للصحف الهولندية وأجرى مجموعة من الأبحاث.

عمل، أيضاً، كباحث في مؤسسة كلنغندال العالمية، قبل أن يتفرغ للتدريس بالجامعة منذ مطلع 2008. يشغل برخر، حاليا، بجامعة لايدن كرسياً للدراسات الإسلامية. من مؤلفاته: «الإدارة والقانون في مصر» 1999، «التعددية القانونية في العالم العربي» 1999، «الحرب المقدسة والجهاد» 2001، «الإسلام هو ليمونة» 2002، «الإسلام تحت جلدي» 2002، «مدونة الأحوال الشخصية في المغرب» 2004، «الشريعة والسياسة العامة في قانون الأسرة المصري» 2005، «الدين والتعاون التنموي» 2006، «الشريعة، الإسلام بين القانون والسياسة» 2006، «الشيخ في الكنيسة، مقارنة بين العالم الإسلامي وأوروبا»، ومؤلفات أخرى آخرها كتابه «مختصر تاريخ الإسلام في أوروبا» الذي صدر منذ شهرين.

في هذا الحوار معه والذي تنشره “العرب” بالتعاون مع المجلة الثقافية الشهرية «الجديد» والتي حاورته في لايدن، يجيب المستعرب الهولندي على جملة من القضايا الشائكة التي تشغل العالم العربي والثقافة العربية اليوم.

*ما هو تقييمك للحظة الراهنة عربيا وإسلاميا بما تشهده المجتمعات من خضات ومخاضات وعواصف دامية؟

– في العالم الإسلامي يوجد منذ أكثر من 40 سنة تياران: التيار الديني والتيار الديمقراطي، أو التيار الذي يسعى إلى التحرر وحق تقرير المصير. الإسلام تطور ببطء منذ السبعينات من دين شعائري اجتماعي إلى إسلام سياسي، وفي رأيي الخطاب الإسلامي خطاب كامل، ويستعمل لأي أغراض ترغب في تحقيق أهدافها. خذي مثلا الحركات النسوية في العالم العربي، حاربت لعشرات السنين من أجل تحسين وضعية المرأة ولم تتمكن من تحقيق شيء، في الثمانينات غيروا الاستراتيجية من بنغلادش إلى مصر، استعملوا الخطاب الإسلامي لتحسين قوانين الأحوال الشخصية للمرأة والنتيجة كانت أفضل بكثير. الآن المرأة في مصر لها الحق في الطلاق من دون تدخل القاضي. هذا شيء جديد. الحركات الإسلامية وجدت في القرآن ما يسمح بإدخال هذه التعديلات واستغلتها جيداً. من الليبراليين إلى المتطرفين، الكل يستعمل الخطاب الإسلامي لإحداث تغيير، الديمقراطية في العالم الاسلامي مؤسسة أيضا على الشريعة.

التيار الثاني، هو التيار الذي يسعى إلى العدالة والحرية، وحق تقرير المصير. هذا التيار بقي محتشماً ومتخبطاً على مدى عقود، وشهد فترات انتكاس وازدهار، لكنه متجذر أكثر مما يخيل إلينا، ولا يزال يسعى لتحقيق تطلعاته، وهو مكون، أساساً، من الشباب. هناك قنبلة ديمغرافية في المنطقة العربية، أكثر من 50 بالمئة من الشباب متعلمون، يتقنون القراءة والكتابة ويعيشون في عالم العولمة، يشاهدون ما يحدث في العالم ويرون الانتخابات الأميركية، غاضبون من الظلم. اللحظة الراهنة تشهد تقاطع هذين التيارين، إنهما يصطدمان، الآن، وهذا هو واقع اللحظة الراهنة. إفرازات هذا التقاطع تتمثل في: الربيع العربي، وداعش، وهما وجهان لعملة واحدة. لماذا؟ لأن الإفرازين عبارة عن ردات فعل من شباب يبحث عن العدالة. وهما إفرازات رومانسية، بكل ما في الكلمة من غرابة، فكيف يمكن أن نصف داعش بالرومانسية، لكن هذا هو الواقع، هما نتيجة حلم شبابي بفكرة العدالة.

الشباب يحلم بمجتمع جديد عادل، منهم من يرى أن ذلك يتحقق بالديمقراطية، ومنهم من يعتقد أن الدولة الإسلامية هي التي توفر ذلك. فكرة العدالة تسيطر على الشباب ويبحثون عنها في اتجاهات مختلفة، لكن الطاقة هي نفسها.

البحث عن الهوية

* لماذا عاد عامل الدين ليطفو داخل المجتمعات العربية على هذا النحو الجامح والمتطرف، في نظرك؟

– في الخمسينات والستينات هيمنت الاشتراكية والعلمانية على العالم العربي، ثم جاء الدين، وهو ظاهرة كونية منذ السبعينات. الدين لا يطفو فقط في العالم الإسلامي، لكن في أميركا، شمالاً وجنوباً، وآسيا وأفريقيا والهند، حتى البوذية التي تعتبر دين سلام، تشهد الآن تشدداً. الدين يكتسب الآن دورا سياسيا في العالم بأكلمه. أظن أن هذا رد فعل على الحقبة الاشتراكية والعلمانية، التي كانت براغماتية جداً وعملية جداً. هناك، الآن، عودة إلى الأخلاقيات والروحانيات، وهذا ما يوفره الدين، لأن الناس “تعقلنت” بما يكفي. وهذه المراوحة بين العقلانية والروحانية هي مراوحة تاريخية وستظل موجودة على الدوام. من هنا فإن الحقبة الحالية تشهد عودة إلى الدين، لكن هذا لا يعني أن هذه الحقبة ستستمر أمدا طويلاً.

من جهة ثانية، الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كان صراعاً قومياً، صراعاً على الأرض، الآن صار صراعاً دينياً، وكل المسلمين، حتى في أندونيسيا، يساعدون الفلسطينيين لأنهم مسلمون، وعندما أقول لأحدهم إن ثلث الفلسطينيين مسيحيون يستغرب ويقول إنه لم يكن يعرف. إنها “نظارة الاسلام” أو الخطاب الإسلامي الذي صبغ كل شيء بصبغة دينية. والخطاب الإسلامي لم ينشأ كردّ فعل على تهديدات خارجية، ولكنه انبثق من داخل الثقافة الإسلامية، وهو متجذر فيها.

هذه الدول الشابة، دول ما بعد الاستقلال لا تزال تبحث عن هوية لها. في البدء تبنت الاشتراكية والعلمانية، والتعليم كان مجانا، كما أن الصحة مجانية. كانت دولاً بوليسية اشتراكية. كنت في الثمانينات في جامعة القاهرة واستغربت من عدد الطلبة في القاعات. الكل يدرس وقاعات المحاضرات محشوة مثل علب السردين، وهذا كله بسبب التعليم المجاني، وهذا شيء جيد، لكن النتيجة سيئة. المستشفيات الحكومية تقتل ولا تشفي، وعود الدولة الاشتراكية فشلت، ومن هنا جاءت ردة الفعل من الإسلاميين. والغريب أن برامج الإخوان التعليمية والصحية أفضل بكثير من برامج الدولة الاشتراكية.

الصراع الديني والطائفي

لو كنت سألتني قبل 10 سنوات عن فكرة فصل الشيعة عن السنة لاستغربت. الآن هذا واقع، درست في جامعة دمشق وكان فيها أربعة مذاهب متجانسة مثل يوغسلافيا. لكنها انفجرت فجأة، بسبب صعود التيار الإسلامي،

ونرى الآن شبيهاً لهذه الصراعات في وسط أفريقيا، في تايلاند، في ميانمار، كلها صراعات بين أديان، بما فيها البوذية التي لم تعرف أبدا أيّ شكل من أشكال الصراعات الدينية. في الحقيقة هذه ليست صراعات دينية، إنها صراعات اقتصادية وطبقية واجتماعية وسياسية مغلّفة بغلاف ديني، لأن الغلاف الديني يعطي نتائج أفضل كما قلت. صراع فلسطين وإسرائيل صراع كان وسيظلّ قومياً، لكنه، الآن، ينظر إليه على أنه صراع ديني. فطلابي يتكلمون عنه بصفته صراعاً دينياً، أحاول أن أشرح لهم أنه صراع على الهوية والأرض، لكن الأيديولوجيات تلقي بظلالها على كل أشكال حياتنا وممارساتنا، هناك عودة قوية إلى الأيديولوجيا، والمذاهب الأيديولوجية التي كانت قد انتهت في السابق.

نحن أيضا سلفيون

* ما هي قراءتك التحليلية لنظرة الغرب لما يحدث في المنطقة العربية، وكذا إلى الأصولية الإسلامية في الغرب ودورها في ما يحدث؟

– الغرب بشكل عام ليس لديه تفسير لما يحدث في المنطقة العربية، لكن الغالبية العظمى تعتقد أن المشكل يكمن في الإسلام، هناك فهم خاطئ للإسلام لدى الغرب. وهناك أيضا تفسيرات خاطئة لما يحدث في الربيع العربي وضمناً داعش.

في رأيي، كما أسلفت، أن الأسباب واحدة، وهما تقريبا الشيء نفسه. فالغرب لا يزال يفسر كل شيء في ضوء الإسلام. والحكومات والمفكرون يربطون بين الاسلام والمسلمين. ولا يوجد لديهم مواطنون ودين، يوجد مسلمون.

على امتداد 13 قرناً، التقاطع بين الإسلام والمسيحية اتخذ شكلين، عضوي: تجارة، حروب، دبلوماسية، وهذا كان يتغير مع التاريخ. وتقاطع فكري، فالتقاطع الفكري والعضوي لم يلتقيا، تقريبا، أبداً على مر التاريخ، المفكر الأوروبي لم يعايش مسلماً في حياته، لكنه يحلل وينقد ويقرأ المسلمين على ضوء النص الديني خصوصاً، لذا فإن الدراسات التي أنتجها هذا الفكر كانت ولا تزال، منذ القرون الوسطى إلى الآن، هي نفسها.

منذ الحروب الصليبية ينظر إلى الإسلام على أنه دين عنف. ومنذ القرون الوسطى ينظر إلى وضعية المرأة في العالم الإسلامي على أنها مقهورة ومظلومة، ومهانة، وهذه النظرة مستمرة إلى الآن. المنتج الفكري الغربي عن العرب براغماتي سلفي لا يتغير، ولهذا فإن السلفية الغربية لا تقل خطرا عن السلفية الإسلامية.

الأوروبيون فسَّرا سلوك المسلمين وفق نصوصهم هم، القرآن والحديث فُسّرا في جامعات برلين وأوكسفورد وفق الشرح الكنسي، درسوا الإسلام وفسروه من خلال منظور كنسي، ونحن نفعل الشيء نفسه. إلى الآن نتكلم عن المسلمين من خلال نصوصهم الدينية، نقرأ الجهاد في الإسلام ونرى المسلمين كلهم مجاهدين. الأوروبيون أكثر سلفية من ناحية قراءة النصوص الأدبية. ونحن بروتستانتيون سلفيون أيضا من هذه الناحية. في أوروبا، الأوروبيون يحسنون الفصل بين الإسلام والمسلمين، ولكن مشكلتهم أنهم يخافون من الدين، أي من الإسلام، والسياسيون يقولون إن مشكلتنا ليست مع المسلمين بل الإسلام.

الغرب والدكتاتوريات

* من تجربة العالم العربي الأليمة خلال القرن الماضي وصولا إلى الألفية الثالثة، صمت الغرب على (وأحيانا دعم) الدكتاتوريات العربية الحاكمة، كيف تفسر هذا التناقض؟

– كان هناك دائما خياران: الديمقراطية والفوضى، أو الاستبداد والاستقرار. هذان خياران لا بديل عنهما. جورج بوش نفسه قال في 2003 إننا كنا حتى30 سنة مضت نساعد أنظمة ديكتاتورية خوفا من تنامي الإرهاب، وجاء 11 سبتمبر ليثبت فشل خطتنا. هذا كان خطأ الغرب، وهناك الآن اتجاه قوي يقول بضرورة التخلي عن هذا الطرح السياسي، ودعم الديمقراطيات، لكن الواقع يكذب دائما. عندما فازت حماس رفض الغرب الاعتراف بفوزها. وهذه مشكلة. فدعم الاستبداد كان خياراً أوروبا في السابق، ولا يزال يحدث إلى الآن الشيء نفسه. والغرب يخاف من الانتخابات، لأنها تنتج إسلاميين، والإسلاميون يعنون الفوضى. وما يحاول الغرب فعله الآن هو إيجاد “ديكتاتوريات ليبرالية” في المنطقة.

علاقة أوروبا بالعرب

في كتابي الأخير اكتشفت أن الغرب تناول حقبة الأندلس بوصفها فترة تسامح والتقاء حضارات، وهذا ليس صحيحا. هناك قطيعة في التاريخ الأوروبي بين ما هو قبل القرن العشرين، وما هو بعده. قبل القرن المذكور كانت العلاقات موسومة بالتسامح، والتسامح يفترض أن يكون هناك قوي يسامح ضعيفاً، وأن يشعر الطرف المسامَح، بالامتنان والشكر.

انتهى هذا، الآن، مثلا مسلمو أوروبا لا يرون اختلافا بينهم وبين الأوروبيين، أو بين المسيحيين الذين يشعرون ربما بالتفوق، ويرغبون في المسامحة. يجب أن تنتهي علاقة المسامحة والامتنان وتبدأ علاقة النديّة والاعتراف المتبادل.

الغرب لم تبق له منافع في الشرق. وهذه حقيقة صادمة ربما للبعض، وهناك بالتأكيد من ينفيها بقوة. فالاستفادة الوحيدة الآن هي أن العرب يوقفون المد الأفريقي في اتجاهنا. واستراتيجية أوروبا، الآن، بالنسبة إلى العرب تقتصر على إنشاء سوق اقتصادية وحكومات قوية وعادلة فقط. وليس من مصلحة أوروبا أو الغرب قيام حروب في المنطقة وحصول تمزق وتفكك وإعادة تقسيم. ولو كنا نستفيد من الحروب الأهلية لكنا ذهبنا إلى الكونغو مثلاً.

هناك مخاطر حقيقية تشوب هذه العلاقة بدأت تدق ناقوس الخطر، أصبح الأوروبيون يعزلون أنفسهم أكثر فأكثر عن العرب. صرفت الملايين من اليوروهات هناك ولم يتغير شيء. مئات الآلاف من العساكر الأوروبيين ذهبوا إلى هناك، واستنفذت كل الجهود وبدأت أخشى من قطيعة وعزل.

العرب ازدواجيون

العرب موقفهم ازدواجي من الغرب، من ناحية يقولون له دعنا وشأننا، لا تتدخل في شؤوننا، ومن ناحية أخرى ترتفع أصوات تقول أين أنتم؟ ساعدونا، لماذا تكتفون بدور المتفرج، لماذا تتأخرون في التدخل. الغرب الآن أمام معظلة:Dam if you do, dam if you dont.

بعد كل هذه العقود، الأوروبيون فقدوا الأمل في أي إصلاح يمكن أن يحدث. أخاف أن نفقد بعضنا إذا توقف الحوار بيننا وبين المنطقة العربية، كما أن التبعات لن تكون جيدة، ولا يمكن أن يحدث هذا في عالم العولمة ومتطلباتها. فحضارتنا مشتركة وتاريخنا مشترك، والحروب التي حدثت داخل أوروبا نفسها أكثر بكثير من تلك التي حدثت بين الغرب والعرب. يجب أن ننسى هذا التاريخ الدموي ونبدأ من جديد. فبين العثمانيين والفرنسيين كان هناك ميثاق عسكري على مدى 350 سنة. ويجب أن يتوقف العرب عن لعب دور الضحية، ويتحركوا باتجاه المسؤوليات التي تفرضها عليهم اللحظة الراهنة.

لأول مرة في التاريخ يأخذ الشباب بزمام الأمور، من دون مساعدة من الـ”سي أي أيه”، أو أي استخبارات غربية، لكنّهم ضيعوها. إنما الأمل الأكيد هو أن التيار الذي يطالب بالحرية والعدالة لن ينتهي، وسيظلّ موجوداً.

مصطلح الاستشراق

* أسالك حول مصطلح الاستشراق، الذي قال فيه إدوارد سعيد خلال حوار معه إن الكلمة في بعض القراءات صار لها وقع الشتيمة، وهو يأسف لهذا الأمر، فهو لم يقصد ذلك أبداً؟

– أكره هذه العبارة، لأنها بعد إدوارد سعيد صار لها فعلاً وقع الشتيمة. أفضّل عليها كلمة “مستعرب”. الاستشراق كان يقصد به الأشخاص الذين لديهم فهم للغات الشرقية القديمة ويدرسون النصوص. والمستشرقون كانوا العلماء الأوروبيين الذين يتقنون اللغات القديمة، العربية أو الفارسية أو العبرية أو التركية. وكانوا يقرأون النصوص ومهتمون بالحضارات القديمة. وهذا وصف دقيق لهم، فهؤلاء هم المستشرقون. لكن الكلمة لم تعد دقيقة الآن، بعد إدوارد سعيد أصبح الاستشراق يعني أن تكون لديك فكرة سلبية مسبقة عن الشرق وتدرسه بأفكار وأحكام مسبقة. هذا أولا، وثانيا، نحن الآن لا ندرس المجتمعات من خلال النصوص، هناك الأنثروبولوجيون الذين يدرسون سلوكيات المجتمعات والناس، وهذا تغيير كبير.

حالياً هناك أشكال مختلفة للاستشراق، دراسات اللغات، دراسات الأقاليم، الأديان، التشريعات، الهندسة. تفرّق الاستشراق، واتخذ اشكالا ميدانية وتخصصية. أنا لا أسمّي نفسي، أبداً، مستشرقاً. ويمكنك أن تسميني مستعرباً، أي أنني ناطق وفاهم للغة العربية.

مدارس الاستشراق

كان هناك اختلاف أكاديمي في السابق بين هذه المدارس، ولم يعد موجوداً الآن. فالفرنسيون يدرسون مثلا الفلسفة العربية. وهناك قصة طريفة، تقول إن فرنسيا وألمانيا وإنكليزيا طلب منهم عمل تقرير عن الجمل. الإنكليزي كتب تقريره عن الجمل والرياضيات، الفرنسي عن الجمل والحب، والألماني عن الجمل والمنطق. هذا هو الفرق بين المدارس الغربية في الاستشراق.

الاستشراق القديم مؤسس فقط على النصوص. فكان المستشرق يذهب إلى المكتبة، ليدرس النصوص ثم يعود. الآن الباحثون يذهبون إلى المجتمعات والناس، يتحدثون ويلتقون وينجزون دراسات ميدانية. الأكاديميون فقط هم من لا يزالون يقومون بالعمل الفكري عالي المستوى. والبحث الأكاديمي ليس للعامة، فهناك ثغرة في الحوار بين الأكاديميين والعامة. ولكن لا يزال هناك مجهود أكاديمي مهتم بالنظريات، وهم قلة ويتحاورون في مستوى فكري راق. لكن التوجه الأكبر الآن يتم نحو الاستشراق التخصصي، وهم المستشرقون الذين يعملون مع السياسيين أو الحقوقيين أو الحكومات أو مؤسسات المجتمع المدني. هذا جديد الاستشراق الجديد. ونحن في وسط هذا التطور.

أنا من آخر جيل درس الحضارات العربية على أساس النصوص، الآن صار الاستشراق يعني أن تنتقل إلى البلد، أن تدرس هناك وتعيش وتلتقي بالبشر وتأكل أكلهم وتتكلم لغتهم وتراقب سلوكهم. وهذا الآن هو المفروض على طلبة اللغة العربية من الأوروبيين القيام به.

الاستشراق المضاد

العرب لا يزالون يتحدثون عن مخلفات الاستعمار وهو أمر غريب، وهناك من يفسر الجهاد، والتخلف والتطرف كنتيجة للاستعمار. نحن الآن بعد 70 سنة من الاستعمار، وخلال فترة الاستعمار لم تكن هناك حروب كثيرة، الآن بعد الاستقلال بعشرات السنين هناك حروب أكثر. الاستعمار حجة واهية موجودة فقط في فكر العرب، وهم يحبون توجيه إصبع الاتهام. فالعرب ينظرون إلى الغرب نظرة العدو.

فالاستعمار لم يساهم في تخلف المنطقة العربية، لكن السبب الأكبر هو من داخل المنطقة نفسها. من وجهة نظر غربية هناك استغراب كبير، لأن الحضارة الغربية تابعت مسار الحرية والديمقراطية في العالم العربي، وطرحت أسئلة كثيرة وأجرت بحوثاً ودراسات لم تفرز شيئاً. وهناك من برر ذلك بأن نفسية العرب وتركيبتهم تستدعي وجود دكتاتور يحكمهم. فما الذي يجعل العالم العربي متخلفا؟ نحن الأكاديميين الغربيين لا نفهم أيضا لماذا يتخلف العرب رغم كل شيء. بعض التفسيرات حتى الأكاديمية ترجع السبب إلى الاستعمار، وهناك من يشعر بالذنب. فالاستعمار في أميركا الجنوبية كان أبشع، وفي الجزر الكاريبية، لكن في العالم العربي الاستعمار العثماني استمر أكثر، ولا توجد عداوة بين العثمانيين والعرب الآن.الحدود ستتغير في المنطقة العربية، والصراع الطائفي سيزداد وأخاف فعلا من حروب أهلية وشيكة، أما داعش فلا أظن أنها ستعيش طويلا كدولة أو كتنظيم، هي ردة فعل متطرفة ولن تذهب بعيدا، لكن أفكارها ستظل موجودة.

المركزية الأوروبية

* أريد أن أخلص من إجاباتك إلى سؤال حول فكرة “المركزية الأوروبية” التي تحدث عنها إدوارد سعيد؟

-لا أوافق على وجود مركزية أوروبية في الأدب، هناك الآن ترجمات أكثر من أي وقت مضى، لكن، كما تعرفين، الأدب العربي قليل جداً جداً، لكن الاهتمام الغربي بالأدب العربي موجود فعلا. في التسعينات كانت الترجمة تتركز على ثقافات جنوب أميركا وآسيا، الآن بات الاهتمام بها أقل. هناك موضة في ما يتعلق بالترجمات والاهتمام الغربي بالأدب العالمي.

* ينشر الحوار بالاتفاق مع مجلة “الجديد”

 

 

 

 

‫شاهد أيضًا‬

ماجد الغرباوي: إشكالية النهضة ورهان تقوية الشعور الهوياتي العقلاني لدى العربي المسلم * الحسين بوخرطة

الدكتور ماجد الغرباوي، مدير مجلة المثقف الإلكترونية، غني عن التعريف. كتاباته الرصينة شكلت …