قبل أيام، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” المقرّبة من المجمّعين الصناعي- العسكري والنفطي والأجنحة اليمينية في الحزب الجمهوري، تقريراً مفاجئاً في صدر صفحتها الأولى، أكدت فيه أن “السي. أي.آي” كانت الطرف الرئيس المسؤول عن إغتيال عماد مغنية القائد العسكري- الأمني الأول في حزب الله اللبناني.
كان مغنية قد اغتيل في دمشق العام 2008. وآنذاك، اتهم حزب الله إسرائيل باغتياله، الأمر الذي أثار السؤال المثير عن السبب الذي دفع دوائر أميركية معينة إلى تسريب هذا التقرير الآن، خاصة وأنه جاء بعد وقت قصير من قتل نجل مغنية (جهاد)، ومعه جنرال بارز في الحرس الثوري الإيراني في غارة جوية في مرتفعات الجولان المحتلة.
الاجتهادات حول دوافع نشر التقرير كانت كثيرة. لكن الأكثر إقناعاً بينها كان ذلك الذي ذهب إلى أن الأطراف الأمريكية المعارضة للصفقة النووية (والإقليمية) الإيرانية – الأمريكية، التي يُقال أنها باتت وشيكة، أرادت تزويد “زملائها” الإيرانيين في الحرس الثوري الرافضين بدورهم لهذه الصفقة بمادة تشهير ضد فريق الرئيس روحاني، كما أيضاً ضد البيت الأبيض الأوبامي.
هذا التطور يلقي بعض الأضواء على لعبة الشطرنج الكبرى التي تجري الآن على قدم وساق في طول منطقة الشرق الأوسط وعرضها، والتي تتمحور برمتها تقريبا حول مسألة هذه الصفقة، لكن ليس فقط بما هي صفقة، بل أيضاً لأنها حدث قد يقلب (في حال إبرامها بشروط غير مؤذية لنفوذ إيران الإقليمي) النظام الإقليمي الحالي في الشرق الأوسط لغير صالح الهيمنة الإسرائيلية الراهنة عليه.
بالنسبة إلى إسرائيل، بمعظم أطيافها السياسية والإديولوجية، هذه المسألة قد تكون قضية حياة أو موت للحركة الصهيونية، في ظل المتغيرات الكبرى التي يشهدها الشرق الأوسط منذ العقد الأول للقرن الحادي والعشرين على على مستويين:
1- التعديلات الجذرية التي طرأت على السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط في عهد أوباما.
2- دخول تركيا وإيران القوي على خط المطالبة بحصة وازنة في ترتيبات الشرق الأوسط “الجديد”.
أمريكا جديدة
نبدأ مع المتغيّر الأول. منذ وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، كان ثمة سؤال بدا وكأنه معلّق إلى الأبد: هل تستطيع أمريكا تحمّل خسارة الشرق الأوسط، كما تحمّلت (بنجاح) خسارة الهند الصينية في سبعينيات القرن العشرين؟ وإذا ما كان الجواب بالنفي، ماذا في وسعها أن تفعل؟
لماذا طُرح هذا السؤال؟ لأسباب عدة: أولها الضربة التي تلقتها الولايات المتحدة من إسرائيل حليفتها التاريخية الأبرز، والتي بزّت في خطورتها الضربات لهيبتها ونفوذها على يد خصومها في العراق وأفغانستان وإيران. فتل أبيب، برفضها التجاوب مع مقترحات واشنطن المتمحورة حول حل الدولتين في فلسطين، كانت تنسف في الواقع كل الإستراتيجية الإقليمية الجديدة التي كان الرئيس أوباما ينوي ترقية عهده بها. وهذه كانت بمثابة نكسة استراتيجية أقسى من النكسات العسكرية. فهذه الأخيرة يُمكن تعويضها بمعارك أو حروب أخرى، فيما الأولى عصيّة عن التعويض السريع أو البسيط، لأنها تضرب أسس القوة الأمريكية وتهز الثقة بقدرتها على بسط نظامها.
صورة أمريكا الآن في الشرق الأوسط، حتى بالنسبة إلى أقرب أصدقائها العرب والأتراك، هي أنها عملاق مسلوب الإرادة، قصير النفس في الحرب ومنقطع الأنفاس في السلم، ولايُركن إليه لتحقيق الأمن والإستقرار. وهذه الصورة تكرست خاصة بعد أن رفض أوباما معاقبة الرئيس بشار الأسد لاستخدامه الأسلحة الكيميائية على رغم الخط الأحمر الأمريكي، واستمرت على رغم الإئتلاف “الجوي” الذي شكلته واشنطن ضد “داعش”.
وحين يكون الأمر على هذا النحو مع الأصدقاء، هل يُلام الخصوم الإيرانيون إن هم اعتقدوا أنه في وسعهم التلاعب بذيل النمر الأمريكي من دون حسبان عضات أنيابه؟ لا، بل هل يُلام الحلفاء الإسرائيليون إن هم استنتجوا بأنهم يستطيعون في أي وقت فتح الجبهات والحروب، ثم نيل الموافقة (أو المشاركة) الأمريكية عليها لاحقاً؟
برزت حقاً أزمة عجز أمريكي قد لاتكون مسبوقة، منذ أن ورثت الولايات المتحدة النفوذ الإمبراطوري الفرنسي والبريطاني في المنطقة غداة حرب السويس العام 1956، ثم توّجته العام 1979 في كامب ديفيد بتحّول مصر من خصم إلى حليف استراتيجي لها. فلا هي كانت قادرة كسب الحروب في المنطقة، ولا كان في مقدروها صنع السلام.
بالطبع، يظل الحديث عن إمكان انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط غير واقعي. إذا أن ما هو في الميزان في هذه المنطقة لا يقل عن كونه معركة حياة أو موت للزعامة العالمية الأمريكية، لأن من يُسيطر على صنابير النفط الشرق أوسطي، يُمسك بقارة أوراسيا برمتها (وبالتالي العالم) من خناقهما. وهذا لايزال صحيحاً حتى بعد أن اقتربت أمريكا من تحقيق الإعتماد على النفس في مجال الطاقة بفضل تكنولوجيا الغاز والنفط الصخريين، وذلك بسبب الدور الدولي المتواصل للبترول التقليدي.
فالنفط كان، كما هو معروف، في قلب الحربين العالميتين الأولى والثانية وعقلهما. ولولا أن الولايات المتحدة سيطرت على إمداداته في تلك الفترة (بمشاركة حماسية من عمالقة صناعة النفط الأمريكية) لما تمكّنت من صنع النصر. البترول بكل أشكاله المُكررة أو المُصنعة كان، ولايزال، مادة أولية لاغنى عنها لبناء مدرجات الطائرات، ولصنع التولوين (العنصر الرئيس للتي. أن.تي والقنابل)، والمطاط الصناعي للعجلات، ووقود البنزين (خاصة على مستوى الأوكتان- 100) المُستخدم في الدبابات والشاحنات وسيارات الجيب والطائرات. هذا من دون أن ننسى دور النفط كمزيّت لكلٍ من الآلات والأسلحة وللإقتصاد المدني برمته في آن.
والآن، باتت أهمية النفط التقليدي أخطر مما كانت عليه خلال الحربين العالميتين، بسبب قرب وصوله إلى ذرورة الإنتاج، وبالتالي بدء هبوطه التنازلي وتحوّله بشكل خطر إلى سلعة نادرة.
كل ما كانت إدارة أوباما تحاول فعله هو إعادة ترتيب “البيت الأمريكي” في الشرق الأوسط الذي عاث فيه المحافظون الجدد فوضى غير خلاقة وتدميراً غير بنّاء في العراق وأفغانستان.
بيد أنها (أي الإدارة) لا تزال تتخبط حول ما يعنيه قفل هذا الفصل من التاريخ الأمريكي. وهذا التخّبط طبيعي، وقد شهدته كل المشاريع الإقليمية السابقة لإعادة بناء الشرق الأوسط في القرن العشرين: من النظام البريطاني- الفرنسي في سايكس- بيكو إلى النظام الناصري، مروراً بالمشروع الإسرائيلي، وانتهاء الآن بالمشروع الإيراني. كل هذه المشاريع تحطمت على صخرة كثرة اللاعبين والتعقيدات في الشرق الأوسط واحتاجت إلى وقت لترتيب خواتيمها. وهكذا الأمر الآن بالنسبة إلى المشروع الأمريكي.
لكن مثل هذا التخبط والتحوّل لم يعنِ وجود ركيزة ثابتة واحدة على الأقل، وهي فكرة العودة إلى مفهوم لعبة موازين القوى التقليدية في الشرق الأوسط.
في هذا السياق، كتب غريغوري غوز الثالث، بروفسور العلوم السياسية في جامعات فيرمونت وهارفارد والكويت: “يتعيّن على أمريكا تذكير نفسها بقواعد اللعبة المحلية في الشرق الأوسط القائمة على التنافس التقليدي على النفوذ بين القوى الإقليمية. صحيح أنها باستخدامها أدوات النفوذ التقليدية لمواجهة خصومها وتغيير التوجهات الإستراتيجية للاعبين الإقليميين الثانويين تعود إلى السياسات الكلاسيكية، لكن هذا بالتحديد ما تحتاجه الآن الولايات المتحدة لتنضم إلى اللعبة مجدداً”.
غوز يدعو واشنطن، بكلمات أوضح، إلى قبول دور القوة الإقليمية جنباً إلى جنب مع بقية السرب الإقليمي في المنطقة (إيران، تركيا، مصر، إسرائيل). وعلى رغم أن هذا أقل طموحاً بكثير من قدرات وطاقات دولة عظمى، إلا أنه متطابق مع وقائع هذه المنطقة المُعقّدة والعصية على الفهم والإدارة. وهذا قد يحقق لواشنطن هدفين في آن: مواصلة السيطرة على النفط، وفرصة البقاء في الشرق الأوسط إلى أجل غير محدود. لكنه يتضمن أيضا، كما ألمحنا، أعتراف واشنطن بأن الشرق الأوسط دخل بالفعل في مرحلة انقلابات استراتيجية بعيدة المدى تطال بنية النظام الإقليمي برمته.
سيناريوهات
هذا الإعتراف بالتحديد هو ما يثير الآن رعب إسرائيل، أو على الأقل قلقها الشديد من أن تؤدي الصفقة الإيرانية – الأمريكية إلى مثل هذه الحصيلة.
يقول إيتامار رابينوفيتش، الباحث في مركز سياسات الشرق الأوسط في بروكينغز، أن النظام الإقليمي القديم في الشرق الأوسط بدأ يتداعى منذ أن بدأت إيران تطالب بحصة فيه بعد ثورة 1979، ومنذ أن انضمت تركيا إلى هذه المطالبة مع وصول رجب طيب أردوغان إلى الحكم، وأيضا بعد أن بدا أن الولايات المتحدة لم تعد في وارد إرسال جنودها إلى المنطقة.
وأضاف:” في مثل هذه الظروف، بات من الصعب الحديث عن “نظام إقليمي” في الشرق الأوسط. التعبير المناسب أكثر هو “اللانظام” المتوزع على أربعة محاور إقليمية: إيران وتوابعها في العراق وسورية ولبنان، وتركيا وقطر والأخوان المسلمين، و”الدول المعتدلة” التي تضم دول الخليج ومصر والأردن والمغرب والجزائر، وأخيراً محور الجهاديين”.
العديد من أطراف النخبة الإسرائيلية واضحة في رفضها لثلاثة من هذه المحاور (عدا الدول “المعتدلة”). وهذا يعني أنها لا تزال ترفض أي مشاركة لإيران وتركيا في أي ترتيبات إقليمية جديدة. مايعني أنها ستقاتل حتى الرمق الأخير لمنع تبلور نظام إقليمي يُنهي هيمنتها الشرق أوسطية، سواء في الداخل الأمريكي (عبر حلفائها الجمهوريين وما يُعرف بالمُجمّع الصناعي العسكري) أو على الأرض في المنطقة.
السيناريوهات هنا، وفق تطور الأحداث، تندرج على النحو التالي:
– توصُّل واشنطن وطهران إلى صفقة ترضى عنها إسرائيل، طالما أنها توقف نهائياً مشروع التسلح النووي ومعه النفوذ الإقليمي الإيراني، الأمر الذي يعني عملياً استسلام إيران لشروط تل أبيب، وبالتالي بقاء “الدمغة” الإسرائيلية على النظام الإقليمي للمنطقة.
– إبرام صفقة لاترضي تل أبيب، أو فشل المفاوضات النووية- الإقليمية، ما سيفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها أمام حروب إقليمية أو محلية متصلة.
– وصول قوى عقلانية إلى الحكم في إسرائيل تتجه إلى قبول الأمر الواقع الدولي (الأمريكي) والإقليمي الجديد، وتعمل رسمياً إما على إقامة نظام إقليمي تعددي جديد، أو على تقاسم النفوذ غير الرسمي مع إيران وتركيا، سواء سلماً أو في أعقاب حروب.
أشـهُــرٌ خـطـرة في الأفق
أيّ من هذه السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟
القوى المعارضة للصفقة الإيرانية- الأمريكية قوية للغاية ونافذة للغاية، وهي تضم قطاعات واسعة من الحرس الثوري الإيراني، وأطياف اليمين الأمريكي التشريعي والعسكري، والمملكة السعودية، وحتى روسيا (التي قد تفقد الحليف الأهم لها في الشرق الأوسط لصالح أمريكا)، إضافة بالطبع إلى الليكوديين الإسرائيليين والأمريكيين.
ولذلك، فإن أي صفقة يجب أن تُعلن بشكل مفاجيء، كي تُسقط في يد المعترضين وتضعهم أمام الأمر الواقع. أما عدا ذلك، فيجب أن ننتظر من الآن وحتى شهر يونيو المقبل (الموعد المقرر لانتهاء المفاوضات) مفاجآت انفجارية قد لاتخطر على بال من جانب كوكتيل المعارضين هذا.
تقرير واشنطن بوست المفاجيء (نُشر يوم 1 فبراير 2015) عن دور السي.أي.آي في إغتيال عماد مغنية هو عينّة عن هذه “المفاجآت”. لكنها عيّنة بسيطة. فالآتي أعظم حتماً، لأن ما هو في الميزان لا يقل عن كونه مصائر امبراطوريات وأمم انبثقت من قلب تاريخ عمره يتجاوز الألفي عام، وتريد أن تستنشق نور شمس القرن الحادي والعشرين.
بقلم سعد محيو – بيروت ,