حقق المغرب، على المستوى الكمي، تطورا اقتصاديا نسبيا، خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة مقارنة مع الفترات السابقة، حيث انتقل الناتج الداخلي الوطني من 393 مليار درهم إلى 872 مليار درهم، وهو ما سمح بتحقيق معدل نمو متوسط للفترة ناهز 4.5 في المائة. إنه مجهود هام مقارنة مع ما حققته العديد من الدول المماثلة خلال نفس الفترة.
غير أن نتائج التقرير الأخير للأمم المتحدة، حول التنمية البشرية، تؤكد أن المغرب تقهقر خلال نفس المدة، و أن معدل الفقر لا زال في حدود 9 في المائة، و أن معدل تركيز الثروة يتجاوز 40 في المائة، وهو مؤشر جد مرتفع، مقارنة مع دول من نفس مستوى النمو الاقتصادي.
هذه المعطيات تؤكد أن إشكالية توزيع الدخل في المغرب لازالت مطروحة بقوة، كما تظهر أن فعاليات الآليات المعتمدة في هذا المجال ضعيفة ولم تعط النتائج المرجوة، بل وفي غياب معطيات رقمية دقيقة، يمكن التأكيد من خلال المعاينة الميدانية المباشرة، أن الهوة الاجتماعية تتسع بشكل متسارع ومقلق، وأن هناك مسارا واضحا لتركيز الثروة وبروز فئات اجتماعية جديدة تستحوذ على ثروات هائلة، في الوقت الذي تنزلق فيه فئات اجتماعية أخرى نحو الأسفل، نتيجة للتدهور المسترسل لقدرتها الشرائية. هذا ما يؤسس لطبقية جديدة، ستكون مصدر توتر و صراعات قوية، مهددة بذلك استقرار البلاد.
عند تدقيقنا في آليات إعادة التوزيع المعتمدة، نجد أنها تفتقد للقاعدة وللجدوى الاقتصادية. فجلها ذات طابع” شبه إحساني”، في حين أن غالبية الدول، سواء المتقدمة منها أو الصاعدة تعتمد آليات لإعادة التوزيع، مبنية على قواعد اقتصادية عقلانية واضحة، تهدف بالأساس تقاسما شفافا لنتائج النمو.
و بمقارنة بسيطة بين متوسط معدل النمو، الذي تحقق خلال الخمس عشر سنة الأخيرة، ومعدل ارتفاع الحد الأدنى للأجور، يظهر أن هناك مفارقة كبيرة، فالأول ارتفع بنسبة 4.5 في المائة، أما الثاني فلم يرتفع إلى إلا بنسبة 1 في المائة، آخذين بعين مستوى التضخم للفترة نفسها.
أكيد أن بعض الجهات لا ترغب في تبني هذا المسار التصحيحي، بدعوى أن له تأثير مباشر على تنافسية الاقتصاد وجاذبيته. الجواب هو أن المعطيات الرقمية والتحليلات العميقة لواقع الاقتصاد تثبت أن هذا الادعاء خاطئ، وإلا لماذا سلكته عدد من الدول الديموقراطية والمتقدمة منذ مدة، و بنجاح تام. أصحاب هذا الخطاب ومن يحتمي وراءه لإبقاء وضع التوزيع على ما هو عليه، هم بشكل عام أصحاب مواقع الريع الاقتصادي في بلادنا، الذي يبقى هو مصدر الثروة الأساسي وليس الاستثمار في التراكم المنتج و في التكنولوجيا.
إن الكلفة الاقتصادية، كما تؤكده الدراسات الدقيقة، لبعض آليات التوزيع المعتمدة، تبقى جد مرتفعة مقارنة مع فعاليتها ونتائجها، وخصوصا مقارنة مع آليات التوزيع المباشر، التي تعتمد تقاسما شفافا لنتائج النمو. هناك اليوم ضرورة استعجالية لإعادة النظر في آليات التوزيع، لتصبح قاعدتها فلسفة الدستور، يترجمها عقد اجتماعي جديد، يرتكز على التضامن مع جميع الفاعلين و القوى الحية، داخل المجتمع.
أي عقد اجتماعي، يوضح بشكل شفاف قواعد توزيع الدخل، ونتائج النمو في المغرب لتجنيب البلاد كل المنزلقات التي تحملها مسارات تركيز الثروة الحالية، و التي لم تتمكن السياسة العامة المتبعة، حاليا، الحد منها، بل على العكس ساهمت في تعميقها.
*6 فبراير 2015

‫شاهد أيضًا‬

عندما توسط الحسن الثاني بين شاه إيران والخميني * عمر لبشيريت

يحكي عبداللطيف الفيلالي رحمه الله، وزير الخارجية والوزير الأول الأسبق، أن اتصالات المغرب ب…