اتخذت الحملة من أجل التسجيل في اللوائح الانتخابية في الظرفية الحالية أبعادا خاصة، وذلك بإلحاح من المعارضة، التي اعتبرت أن هذه الحلقة أساسية في البناء الديمقراطي، أولا، لأنه لا بد من مراجعة هذه اللوائح من أجل تحيينها وتصحيحها، وثانيا، لأن ظاهرة العزوف، تبدأ من الامتناع، بوعي أو دون وعي، من التسجيل في اللوائح الانتخابية، غير أن نتائج هذه الحملة لن تكون مجدية إذا لم تنفذ إلى عمق الإشكالات، التي تعتبر من بين المبررات التي تشجع على العزوف.
نذكر منها على الخصوص، العملية الممنهجة لتبخيس الممارسة السياسية، و ذلك بتكريس التبسيطية والشعبوية وكل الأساليب التي من شأنها الحط من النقاش العميق و الجدل السياسي و الفكري، والقدرة على التحليل الرصين، وتصوير الحياة الحزبية، كما لو كانت مجرد حلبة ملاكمة بين السياسيين، ومجرد صراع على المنافع، واقتتال من أجل المواقع، في تعميم لا يفرق بين الأحزاب، وتاريخها وانتماءاتها الفكرية وبرامجها السياسية وتشكيلاتها البشرية…
وقد نبهنا في الاتحاد الاشتراكي الى أن الإعداد الديموقراطي، الذي من شأنه أن يبعث على الطمأنينية والثقة في المسلسل برمته، قد تلقى ضربة قوية من طرف الحكومة، عندما عمدت إلى الالتفاف على التعليمات الملكية، الداعية إلى السهر على تفعيل القوانين الانتخابية وحسن أداء اللجن المنصوص عليها قانونا، وإلى اللجوء الى تأويل غير ديموقراطي لها، وإحداث لجنة مركزية من خارج القوانين.
كما أن الإقحام الصريح والعلني لوزارة حزبية مركزيا وعبر ممثليها إقليميا، مدخل للاستغراب والشك في العملية الاقتراعية، نظرا لظروف التجاذب القوي، بين مكونات الحقل الوطني والميل التحكمي الواضح لمن يرأس الوزارة.
ومن حق الديموقراطيين والقوى الوطنية التي ناضلت طويلا من أجل الحياد الديموقراطي إزاء الانتخابات، أن تدق ناقوس الخطر بخصوص هذا المسعى، وتعيد التنبيه الى خطورته التحكمية.
وقد انتبه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى جانب كل هذا إلى النهج الخطير، الذي يهدف إلى عرقلة البناء الديمقراطي، وكان الشهيد عمر بنجلون، قد وضع الأصبع على هذا الجرح، عندما اعتبر أن “التضليل” من أخطر أشكال القمع، لأنه يستعمل مختلف الأدوات، لصد الشعب عن المشاركة في الحياة السياسية، وخلق الضبابية، سواء تجاه الأحزاب أو السياسيين، وبذلك تتمكن التوجهات المناهضة للديمقراطية من بسط هيمنتها على المجتمع.
لذلك كان الاتحاديون، ولا يزالون، يؤكدون أن الخيار الديمقراطي، عبر الممارسة السياسية للمساهمة في إدارة الشأن العام في المؤسسات، والمشاركة الانتخابية، هو البديل الذي لا محيد عنه، رغم ما يشوبه من انتهاكات، لأن الاختيار المناقض لهذا المسار، لم ينتج سوى تزكية التوجهات اللاديمقراطية، ذات الطبيعة التحكمية. ومنذ المؤتمر الاستثنائي للحزب، سار الاتحاديون في هذا الاختيار الديمقراطي، الذي أثبت جدواه، وأقنع الدولة بأن تتبناه كجوهر للنظام السياسي المغربي.
وفي هذا الإطار يمكن الجزم بأن الشعار الذي رفعه، من أجل بناء الحزب/ المؤسسة، يدخل في صميم هذا الاختيار، لأنه يهدف إلى العمل على تجاوز منهج التسيير الشخصي، المبني على هيمنة الأشخاص، على الصعيدين الوطني والمحلي، لذلك وجب تغييره ليرتقي إلى علاقات محكومة بمنظومة “موضوعية” من القوانين والالتزامات والضوابط الشفافة، التي تربط المناضل بحزبه، على قاعدة الحقوق والواجبات.
وقد وجد الحزب، في هذا التوجه، مقاومة من الذين يريدون تكريس الفكرة السائدة عما يسمى ب”الطبقة السياسية”، والتي يصورونها، عن بكرة أبيها، في تعميم مقيت، كعصابة أو مافيا، تتعارك في ما بينها على تقاسم المصالح، ويتواجه فيها فلان ضد فلان، بهدف شخصنة الخلافات، وتضليل الناس، كما لو كان الصراع السياسي والفكري، مجرد تجاذب بين الطموحات الذاتية للزعماء والمناضلين.
وقد خطا الحزب خطوات كبيرة لمواجهة هذا المنهج التبخيسي للحياة السياسية، بتفعيل القوانين وإعادة هيكلة التنظيمات على أسس الديمقراطية والكفاءة، وعندما أنشأ لجنة لإعادة كتابة تاريخه، بناء على قواعد علمية، وعندما شكل مؤسسة للدراسات والأبحاث، تعنى بإنتاج بحوث حول التوجه الاشتراكي والديمقراطية، وحول مختلف مناحي الحياة في المغرب، وذلك سعيا منه لإعادة تنشيط الاطفاف الفكري والمجتمعي والمواجهة الثقافية المؤسسة لأخلاقيات العمل السياسي الفعلية، ولرفع النقاش من الحضيض الذي يسعى المناهضون للديمقراطية إلى إغراقنا في مستنقعاته، والتوجه نحو الجماهير، وخاصة الشباب، بلغة الفكر والجدل الرصين والنقاش العميق والأخلاق الرفيعة، حتى يكون أداة حقيقية للديمقراطية، بعيدا عن الدعاية الرخيصة، بل على العكس من ذلك، في إطار الإقناع بمشروع مجتمعي بديل، ديمقراطي، حداثي، تسوده الكرامة والعدل والمساواة.
الخميس 29 ينايرر 2015