طيلة الثلاث سنوات الأخيرة عرفت المسألة الاجتماعية تراجعات ملموسة، مست كل جوانبها. ففي تفاصيل المسافة بين الخطاب الحكومي المُتخم بلازمة “الإصلاح” وواقع القضايا الاجتماعية، سواء تلك المرتبطة بالمنظومات الكبرى للتربية والتكوين والصحة والسكن والتشغيل، أو تلك ذات الصلة بمظاهر الهشاشة الاجتماعية من بطالة وفقر وتهميش، أو ما تعلق بحالات “الزَهْوِ” و”التَفَكّهِ” السياسيين، التي تتملك السيد رئيس الحكومة، عندما يتحدث عن “إنجازات الحكومة الإصلاحية” في المقاصة والتقاعد والإضراب، فإننا لن نعدم دليلا للبرهنة على أن ما يجري في الحقيقة هو إرادة للالتفاف على التراكمات التي تحققت في المجالات الاجتماعية، منذ حكومة الأستاذ اليوسفي حتى حكومة الأستاذ عباس الفاسي.
لقد قدمت الحكومة الدليل من خلال قوانين المالية الأربع لسنوات 2012 حتى 2015، أنها وفية لمرجعيتها الخالية من البعد الاجتماعي، فالمستجدات الضريبية والبحث المضني عن التوازنات المالية والماكرو اقتصادية، كان ضحيتها الطبقة الوسطى وفي عمقها الطبقة العاملة المغربية، كأننا أمام استهداف سياسي واضح لهذه الفئات المجتمعية التي لها دور أساسي في التنمية والتطور.
ووفاء لنفس النهج، تم تهميش الحوار الاجتماعي وتوقيف انتظامية دوراته، وإفراغه من مضمونه الديمقراطي. ووجدت المركزيات النقابية ذات التوجه الوطني الديمقراطي، التي شكلت دوما قاعدة للتوازنات المجتمعية وظلت في طليعة المدافعين إلى جانب قوى التقدم والحداثة، عن دولة الحق والقانون، نفسها في مواجهة مقاربة حكومية ترمي إلى الإجهاز على المكتسبات التي حققتها الشغيلة المغربية، وفي مقدمتها حق الإضراب، إذ لم يتورع رئيس الحكومة ومن منصة الخطابة بمجلس النواب، عن الانتشاء بقرار الاقتطاع من أجور المضربين في الوظيفة العمومية عقب إضرابي 23 شتنبر 2014 و29 أكتوبر 2014 دون سند قانوني، معتبرا هذا الإجراء إصلاحا كبيرا سيحافظ على السير المنتظم للمرفق العام، وهو الأمر الذي يذكرنا بما تعرض له المضربون في 10 و11 أبريل 1979 و20 يونيو 1981 من اعتقالات وطرد وتشريد.
إن الإصلاح يتطلب الشجاعة السياسية وليس التوجه إلى استهداف الحلقات الضعيفة في المجتمع، فبدل الاقتطاع من أجور المضربين كان على السيد رئيس الحكومة، كما يلزمه الدستور، أن يأتي بمشروع القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب، وأن يفي بالالتزامات السابقة بنسخ الفصل 288 من القانون الجنائي، وأن تصادق بلادنا على الاتفاقية 87 لمنظمة العمل الدولية المتعلقة بالحرية النقابية، حتى يعطي ولو جزئيا المصداقية لخطاب الإصلاح.
كما دخلت الحكومة على خط إصلاح أنظمة التقاعد، وكان عليها الانخراط في المنهجية المتوافق حولها من كل الأطراف المعنية والتي تشتغل على مختلف السيناريوهات، منذ تشكيل اللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد، سنة 2004، والتي انبثقت عنها اللجنة التقنية، التي تمكنت من تحديد خيارات الإصلاح الشمولي لأنظمة التقاعد في قطبين كبيرين، أحدهما للقطاع العام ويهم الصندوق المغربي للتقاعد والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، والآخر للقطاع الخاص ويضم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق المهني المغربي للتقاعد، لكن الحكومة ارتأت أن تُخرج الصندوق المغربي للتقاعد من منهجية الإصلاح وتَعتزم حاليا إدخال تعديلات مقياسية كلها، بدون استثناء على حساب المنخرطين، مما سيجعل المعاشات التي يصرفها الصندوق تتراجع بشكل مؤلم، وفي نفس الوقت تركت الصناديق الأخرى والتي تنتج في مجملها فقراء جددا، في رصيف الانتظار.
نفس المقاربة انتهجتها الحكومة في ملف المقاصة، إذ بدل وضع تصور شمولي لإصلاح نظام المقاصة، اختارت الحلول السهلة من خلال رفع الدعم عن المحروقات بالزيادات المتتالية في أسعارها والتي لم يعرف المغرب مثيلا لها منذ سنة 1981، تلك الزيادات التي تم التراجع عن جزء كبير منها، وهذا الإجراء كسابقيه كان على حساب المواطن وخاصة الطبقة الوسطى وضمنها الشغيلة المغربية، وذلك في الوقت الذي حافظ فيه المستفيدون من نظام المقاصة بمختلف مكوناته على امتيازاتهم (20% يلتهمون 80% من دعم المقاصة)، ولم تبد الحكومة أمامهم أية شجاعة تذكر.
إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بهويته الاشتراكية الديمقراطية، من موقع المعارضة المسؤولة، ينبه إلى محورية المسألة الاجتماعية في بناء السياسات العمومية، وأن المجتمعات التي حققت قفزات نوعية في تاريخها، ركزت سياساتها على القضايا الاجتماعية المرتبطة بحياة ونمو وتطور المواطن، وتحسين شروط الحياة في التعلم والصحة والسكن، في إطار مجتمع مؤمن بقيم الديمقراطية والحداثة والتعدد والاختلاف، منفتح على العالم وقادر على الانخراط في قيمه الإنسانية المشتركة.
الاربعاء 28 يناير 2015