في تاريخ المغرب، ذلك الذي لم يدرس في المدارس والجامعات، تعشش نقط سوداء، لحكايات أليمة مريرة، بطلها الرصاص، وكاتب قصتها الحرمان والخذلان، وفصولها تمتد لسنوات عبثا نحاول التصالح معها فتخيب الآمال، لأن كمية الظلم التي سكنت في تلك الفترة، قد نحتاج معها لغسيل الدماغ كي تسقط من الذاكرة..
من هذه الحكايات، توجد أحداث 23 مارس 1965، عندما قُتل المئات من المتظاهرين، الكثير منهم في عمر الزهور، وذلك بعدما احتج تلاميذ الثانويات، على قرار قاض بطرد عدد من زملائهم لاعتبارات عمرية، القتل الذي قامت به قوات الأمن والجيش لم يكن مألوفا في تلك الوقت، فقد كانت سابقة في تاريخ المغرب المستقل أن تقدم القوات العمومية على رمي المتظاهرين بالرصاص، مما جعل الجرح غائرا لتكون تلك السنوات سنوات الرصاص الحقيقي وليس ذلك الذي ينهل من بحار المجاز والاستعارة..
هسبريس تعيد إحياء جرح من الذاكرة المعطوبة، ليس من أجل اجترار آلام الماضي، أو الإمعان في سكب المزيد من الملح على قروحنا، ولكن للاستفادة من الأخطاء التي طبعت مسار دولتنا، والتي كان من الممكن أن تساعد القائمين على القرار في تفادي ما وقع بعد ذلك من هفوات، كأن التاريخ يعيد نفسه، وكأننا نأبى الاتعاظ..
الفقر والظلم والسياسة..إشارات مهدت للانتفاضة..
في السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال، عرف المغرب عددا من الأحداث المتشابكة والمتداخلة، كما لو أن التاريخ المغربي تمدد في تلك السنوات فصار كل يوم وكل شهر في حد ذاته قصة ما، لعبة شد الحبل بين القصر الملكي والحركة الوطنية وصلت مداها في إطار الإجابة عن سؤال من يحكم؟، فتم تعيين حكومة عبد الله إبراهيم كحل وسط من طرف الراحل محمد الخامس، إلا أن ولي العهد الحسن الثاني أصر على إسقاطها لتبدأ فصول النزاع بين هذا الأخير والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الذي حمل الكثير من عبئ تلك السنوات..
تعددت أوجه الصراع، فكانت مقاطعة دستور 62، ثم قضية مؤامرة يوليوز 63 التي اتُهم فيها مجموعة من وجوه حزب القوات الشعبية بمحاولة اغتيال الملك، وفوز الاتحاديين بعد ذلك بعدد من المقاعد البرلمانية في انتخابات نفس السنة خولت لهم أن يكونوا معارضة قاسية مع حزب الاستقلال، قدمت سنة 64، ما يعرف بملتمس الرقابة، حيث يقول القيادي الاتحادي محمد الحبابي:” درسنا في ذلك الوقت الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب بتمعن، وكنا ندرك أن هذه الوثيقة البرلمانية ستشكل حدثا مهما”.
ملتمس الرقابة التي تم رفعه لأول مرة في تاريخ المغرب، أحرج كثيرا حكومة باحنيني التي كانت مكونة أساسا من أحزاب مقربة من القصر الملكي، وزاد في حرجها بث جلسات البرلمان على شاشة التلفزة المغربية، لدرجة أن مولاي أحمد العلوي، وزير الاتصال حينئذ، أراد منع التلفزة من نقل الجلسات ذات يوم، وعلق عليه محمد التبر، أحد القادة الاتحاديين بكونه خائف من أن يعرف المغاربة حقيقة الأوضاع.
هذا الملتمس لم يأت من فراغ، فقد كانت حالة المغرب الاقتصادية على حافة الانهيار، وعمت البطالة والبؤس في الكثير من مدن وقرى المغرب، وتحول الحلم ببلد مستقل يعيش الرخاء، إلى كابوس قض مضجع المغاربة الذين كانوا على علم بنهب ثرواتهم من طرف بعض المسؤولين، لذلك تعاطف الكثير منهم مع حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل، وكانوا ينظرون إليهم بكثير من الأمل لانتشالهم من وضعية لا تليق ببلد ناضل كثيرا من أجل استقلاله.
الجيل الذي عرفه المغرب في ذلك الوقت من رجال ونساء، كان يحمل هم التغيير في وقت كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، فلم يكن غريبا أن ينتقل المد النضالي إلى الجامعات المغربية، وإلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي كان الاتحاديون والشيوعيون يهيمنون على مختلف مراتبه، فكان الطلبة متحمسين كثيرا للتغيير، لدرجة أنهم رفضوا المفاوضات التي كان القصر الملكي يجريها مع الحزب الاتحادي، وكان الكثير منهم يؤمنون بضرورة الانتقال إلى التصعيد.
غير أن تأثير هذا الاتحاد الطلابي لم يبق حبيس أسوار الجامعة، بل وصل حتى الثانويات، وساهم في تأسيس ما يعرف بالحركة التلاميذية التي نهلت كثيرا من أفكار الطلبة، حيث كانت الثانوية المغربية، فضاء للنقاش السياسي والفكري كما يخبرنا محمد الحبيب طالب أحد مؤسسي منظمة 23 مارس فيما بعد، وصار الحديث عن الأوضاع الحالية الشغل الشاغل للتلاميذ المغاربة.
وقت سال الدم في شوارع البيضاء..
يعتقد محمد الحبابي أن الأزمة المالية الخانقة التي ضربت المغرب في تلك السنوات، ربما قد تكون وراء قرار يوسف بلعباس، وزير التربية الوطنية حينئذ، من إصدار ذلك القرار الشهير في فبراير من تلك السنة، بحرمان كل تلميذ تجاوز سنه السابعة عشر سنة من التعليم الثانوي، وبالتالي طرد التلاميذ المعنيين بالقرار من السنة الثالثة من التعليم الإعدادي المعروف ب”Brevet”، فالدولة قررت التخلص من فائض كبير من التلاميذ كانت تقوم بالصرف عليه، زيادة على عدم اهتمامها بالتعليم نظرا لاعتبارات سياسية كان يرى فيها الملك الكثير من المتعلمين خصوما له.
“نسقنا يومي 21 و 22 مارس من أجل التظاهر ضد هذا القرار الجائر” يقول أحمد العراقي، وزير البيئة الأسبق في حكومة اليوسفي، وواحد من تلاميذ ثانوية محمد الخامس في ذلك الوقت، حيث اجتمع قرابة 15 ألف تلميذ بملعب كرة القدم بالثانوية المذكورة، من أجل الاتفاق حول شكل احتجاجي، وانطلقت بعض المسيرات في يوم 22 في اتجاه أكاديمية التعليم الجهوية من أجل المطالبة بالحق في التعليم، الذي نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، غير أن قوات الأمن تصدت لها.
23مارس، اليوم الموعود، إدريس بنعمر، عامل مدينة الدار البيضاء، وفي العاشرة صباحا، يقف أمام باب ثانوية محمد الخامس، وحسب أقوال العراقي، يتحدث المسؤول بكثير من التهديد والوعيد للتلاميذ من أجل ثنيهم عن المشاركة، وبالتالي العودة إلى أقسامهم خاصة وأنهم أعلنوا إضرابا عن الدراسة، المراهقون الذين كانوا يفكرون بعقول أكبر من سنهم، رفضوا الانصياع، وخرجوا إلى الشوارع، نحو درب سلطان، باب مراكش بالمدينة القديمة، شارع الفداء، وعدد من الشوارع الأخرى.
“تقسمنا إلى مجموعات من أجل حشد وتأطير المدارس والثانويات المجاورة”، المسيرة بدأت منع منتصف النهار، وبعد دقائق قليلة من الاحتجاج، بدأت قوات الأمن بتفريق المحتجين بعنف مبالغ فيه، يستعيد العراقي تلك اللحظات بأسى:” لن أنسى أبدا مشهد صديق لي وأقدام قوات الأمن تدوس عليه، وتضربه باستخدام عصي قاسية لم تستعمل قط في فض الاحتجاجات، لأعلم فيما بعد أن صديقي توفي بسبب هذا العنف”.
بالنسبة إلى مديرية الأمن الوطن التي كان يترأسها الجنرال محمد أوفقير، فقد كان لازما الاستنجاد ببعض العناصر من الجيش، ومنهم فرقة مرعبة كانت تعرف ب”زيان” تتدخل بشكل عنيف للغاية حسب العراقي، لينتهي اليوم بحصيلة من القتلى وبتصميم على التصعيد بعدما اتفقت مجموعة من الأحزاب والنقابات على المساهمة في الاحتجاج التلاميذي.
حسب عدد من المصادر، فاستخدام الرصاص الحي تم يوم 23 مارس، بينما يرجئه العراقي إلى اليوم الموالي، الذي عرف تواجد مجموعة من “المرتزقة” بين صفوف المتظاهرين، “رغم دخول العديد من العاطلين والأسر بعفوية إلى الاحتجاج، فمن قام بالشغب هم مرتزقة تابعين للنظام من أجل خلق إعطاء الجيش الفرصة للتدخل”، يؤكد المتحدث، لتكون النتيجة إحراق عدد من السيارات وتكسير واجهات الكثير من المحلات التجارية، واشتعال نيران الاحتجاج في عدد من المدن المغربية التي استجابت للنداء التلاميذي.
دخول الجيش على الخط وإطلاق الرصاص على المتظاهرين استمر أياما بعد 23 مارس، شوارع المملكة بدأت تخلو إلا من المدرعات العسكرية، اقتحمت الأحياء الجامعية واعتقل الآلاف من الطلبة، كما تم اعتقال العشرات من أولياء التلاميذ، وشيئا فشيئا، بدأت الأوضاع تهدأ شيئا فشيئا، ومع بداية شهر أبريل، كانت المواجهات قد انتهت، بحصيلة قتلى يقول العراقي أنها قد تكون قد وصلت إلى 5000، ومحمد الحبابي إلى 1500، والدولة إلى بعض العشرات.
عندما “ربح” المغاربة من الأحداث حالة استثناء..
بعد هذه الأحداث، عرف البرلمان المغربي نقاشات ساخنة، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يطالب بلجنة تقصي الحقائق، لكن الدولة رفضت انتقالها إلى الأماكن التي عرفت المواجهات العنيفة، خاصة أمام سينما الكواكب بالدار البيضاء حيث قتل المئات، يتذكر محمد الحبابي كيف أن بلعباس قال إن قراره كان شيئا عاديا، فاستشاط البرلماني الاتحادي غضبا وسأله: “متى كان تجهيل الناس وحرمانهم من التعليم أمرا عاديا؟”، وهو السؤال الذي جر سحب الغضب الملكي على الحبابي الذي كان حينئذ أستاذا لمادة الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط، ووصلته العديد من الإشارات إلى أنه مهدد في منصبه وقد يغادره قريبا ما لم يلزم الصمت.
الاعلام الرسمي تجاهل الأحداث تماما، وتحدث عن مواضيع ثانوية كأن شيئا لم يكن، بينما أصدرت بعض الصحف المعارضة، كجريدة “ليبراسيون” التي كان الحبابي واحدا من محرريها، ملفا عن الأحداث عنونته ب”الأسبوع الدموي”، الراحل الحسن الثاني أصدر خطابا ملكيا حمّل فيه الأساتذة مسؤولية ما حصل وبأنهم استغلوا التلاميذ من أجل نشر إيديولوجياتهم، يقول الحبابي عن تلك الأيام:” لقد قال لنا الملك هل تريدون من المغاربة أن يأكلوا أقلامهم؟، لقد كان الراحل يعتقد في ذلك الوقت أن التعليم سبب الكثير من أزمات البلاد”.
تلك الأيام هي التعبير الحقيقي عن سنوات الرصاص، فقد مات شباب في عمر الزهور، ودُفنوا في مقابر جماعية لا زالت عائلاتهم لا تعرف مكانها، “سبب تلك الأحداث لم تكن الأزمة المالية، بل أن النظام كان يبحث عن عذر لبث البلبلة في أرجاء البلاد ولفرض حالة الاستثناء التي تمت في السابع من يونيو”، يقول العراقي.
كلام وسلوكيات الملك كان فيها نوع من النقد الذاتي كما يؤكد طالب، لذلك، فقد كان أبريل شهرا لمحاولة التصالح، أتى العفو عن القيادات الاتحادية التي كانت متهمة في مؤامرة يوليوز ومن بينها المهدي بنبركة والفقيه البصري، والتقى الملك بعبد الرحيم بوعبيد، مطالبا إياه بالإعداد لحكومة يختار فيه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عددا من الوزارات ويترك القليل منها للقصر الملكي، قائلا له على حد تعبير الحبابي:” البلاد على حافة الانهيار، وواجبنا جميعا إنقاذها، وإلا سأختار الحل السهل، وسأخرج نهائيا من البلاد”.
لذلك اقترح بوعبيد على الملك تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، بل أن الرجل الاتحادي، كما يؤكد الحبابي، عَلم بحالة الاستثناء التي يخطط لها الملك، وكان يعتقد أنها ستدوم لأيام قليلة فقط، ليفاجأ بوعبيد ومعه مناضلي الاتحاد، باغتيال المهدي بنبركة في نهاية أكتوبر من نفس السنة، وبحالة استثناء امتدت لسنوات، مما أدى إلى القطيعة النهائية بين الدولة والشارع.
منظمة 23 مارس: عندما يتفجر الغضب على شكل تنظيم..
لم يغفر الكثير من الشباب المغربي للدولة عمليات القتل، خاصة مع غياب التحقيق والمسائلة واستمرار المسؤولين في مناصبهم، من بينهم أوفقير الذي كان الرجل الثاني في الدولة بعد الحسن الثاني، لذلك، بدأ التفكير الجدي في خلق منظمة تتبنى العنف والتغيير الجذري في مواقفها بعيدا عن الأحزاب التي كانت مقيدة بالقانون، خاصة مع الهزيمة العربية أمام إسرائيل في 67، وانتشار الفكر الشيوعي بين الشباب المغاربة.
لذلك، تكونت مجموعات شبابية من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الحزب الشيوعي المغربي، الاتحاد المغربي للشغل، إضافة للكثير من المستقلين، ومن داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تكونت نواة سيكون لها فيما بعد دور كبير في تأسيس منظمة 23 مارس، وضمت كل من أحمد حرزني، البردوزي، بوعبيد حمامة، سيون أسيدون، ومحمد الحبيب طالب كما يؤكد هذا الأخير.
المنظمة التي أعلنت عن نفسها سنة 1970، آمنت بأن التغيير بالحوار أمر مستحيل، وأن الواجب هو الثورة عبر حزب يحمل أفكار البروليتاريا ويقلب الحكم إلى جمهورية، خاصة وأن كل شروط الثورة قد أينعت، وقد أرادت المنظمة التمهيد لهدفها عبر ثلاث مراحل كبرى: الأولى نشر الفكر الثوري لدى عموم المواطنين، الثانية تأسيس حزب شعبي ثوري، والثالثة تعبئة الشعب المغربي من أجل أخذ السلطة.
ورغم أن العنف كان عنصر وجودها الأول، إلا أنه بقي حبيس خطابات هذه الحركة التي عانت تضييقا شديدا من طرف قوات الأمن، وبعد سنوات من الاشتغال السري، تمت فيها الكثير من التحولات، قررت الحركة الثورية الانتقال إلى العمل القانوني لتنشئ حزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي سنة 1983، وذلك بعد عودة قيادات الحركة من المنفى وعلى رأسهم محمد الحبيب طالب، محمد بنسعيد آيت إيدر، إبراهيم ياسين، وآخرون.
هل سنستفيد من درس 23 مارس؟
في تاريخ المغرب الحديث، هناك صراع بين طرفين: طرف يعمل بإستراتيجية متقنة وهو الدولة، والطرف الثاني يتذمر وبعد ذلك ينفعل، ليتم امتصاصه ثم تذويبه من طرف الدولة التي تستعيد المبادرة”، هكذا يعبر العراقي عن حركية التاريخ، وعن تشابه الحركة التلاميذية مع حركة 20 فبراير التي انتهت تقريبا بعد الخطاب الملكي، ثم الدستور، فالعملية الانتخابية، كأن الدولة تعلمت كثيرا من التاريخ، بينما شرب الشعب من نفس الكأس المرة لمرات عديدة.
أنشأت الدولة هيئة الإنصاف والمصالحة للتصالح مع هذه الذكرى الحزينة، غير أن الكثير من الهيئات، على رأسها الحزب الاشتراكي الموحد، الذي يعتبر الوريث الشرعي لمنظمة 23 مارس، ومنظمة إلى الأمام التي تكونت في نفس السياق لتتحول فيما بعد إلى حزب قانوني معروف بالنهج الديمقراطي، والاتحاد المغربي للشغل، وحتى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لا زالت تتذكر بأسى هذه الحكاية التي كلفتها القمع والتضييق لسنوات طويلة، وكلفت المغرب ضياع الكثير من رجاله، وكلفت الوطن جرحا مثخنا لا يريد الشفاء خاصة مع استمرار الفشل التعليمي.
ألا يكون التصالح الحقيقي مع أولئك الشباب والمواطنون الذين قٌتلوا، إلا ببناء منظومة تعليمية حقيقية تضمن الكرامة للمغاربة وليس التعامل مع التلاميذ والطلبة كأنهم فئران تجارب لاختبار حلول مستوردة؟ مجرد سؤال..