صرح جيل دولوز ذات مرة معجباً بعبارة لتوينبي: «إن الرحّل هم المعمرون، إنهم رحّل لأنهم يرفضون أن يرحلوا بعيداً». الرحلة والخروج إذن، إقامة لا تنقطع. على هذا النحو ستكون علاقة المفكر الفرنسي بتاريخ الفلسفة، ستربطه بهذا التاريخ محاولات لا متناهية للـ”الخروج”، الخروج عن منطق تاريخ الفلسفة، وقلب بنيته. قلب بنيته الأفلاطونية أوّلا، لكنّ بنيته الجدلية فالماركسية، فالتحليلية، والقائمة لا ولن تنتهي.
ليست الأفلاطونية هنا مذهباً فلسفياً، وإنما هي بنية الميتافيزيقا ذاتها، تلك البنية التي لا تعمل، كما اعتدنا أن نقول على التمييز بين المعقول والمحسوس، بين النموذج والنسخة، والتي لا يكتفي قلبها بأن يعيد المجد للمظاهر ضد الماهيات. القلب المقصود هنا يهدف إلى الطعن في عالم التشابه ذاته، ومنطق التطابق الذي يتم داخله التمييز بين المظهر والماهية والمفاضلة بينهما.
سيغدو القلب إذن وقوفاً عند النسخ ذاتها، ولكن هذه المرة للإعلاء من النسخ”الخائنة”. بمقتضى هذا القلب تغدو الموجودات سيمولاكرات منفصلاً بعضها عن بعض من غير علاقة باطنية، لا فيما بينها، ولا مع مثال مفارق. فلا داعي للبحث وراء الاستيهامات fantasmes عن حقيقة أكثر صدقاً، تكون هي مجرد دليل مشوش عنها، كما لا داعي لربطها فيما بينها وفق أشكال قارة وتكوين بؤر صامدة للتجميع. فباعتبار القوة الديناميكية للوجود ليس هناك أي مبرر كي تحاكي الموجودات ما هو أكثر جوهرية منها. الموجودات هي توليد محايث للواحد، وليست مطلقاً صوراً يحكمها التشابه. إنها أحوال وأنماط للواحد خاضعة للصدفة، وهي درجات جهوية من الشدة والقوة. وما دامت القوة ليست إلا اسماً آخر للوجود، فإنّ الموجودات ليست إلا أنماطاً للتعبير عن الواحد. ها هي السيمولاكرات إذن، تستردّ حقها من حيث هي شهادة حيّة مرحة على القوة الواحدة للوجود، من حيث هي حالات تدلّ الدلالة نفسها على الوحدة، من حيث هي تنويعات للوحدة.
في قلب الأفلاطونية يطلق التشابه على الاختلاف، ويطلق الذاتي على المخالف. فرق بين أن ننظر إلى التمايز انطلاقاً من افتراض وحدة أولية، وبين أن نعتبر أنّ التشابه والوحدة يتولدان عن الاختلاف، وأنّ هذا الاختلاف هو ما يشكل الديناميكية الحقيقية لوجود الهوية؛ أي دينامية التكرار التي تتميز تميزاً كبيراً عن الدينامية الجدلية. ذلك أنّ الاختلاف الهيغلي، عندما يقذف به داخل حركة الجدل، يصبح مجرد لحظة من لحظات الهوية. صحيح أنّ الجدل يسمح للاختلاف بالعمل، لكن شريطة خضوعه لـقانون السلب. فالطريق التي يسلكها التناقض الهيغلي هي الطريق التي تردّه نحو التطابق l’identique، فتجعل التطابق كافياً لإيجاد التناقض وفهمه. فهذا التناقض لا “يفهم” إلا في أفق هوية يسعى الجدل إلى صيانتها وحفظها.
يُخضِع الجدلُ الاختلافَ لمنظومة التعارض والسلب والتناقض. لكي يكون هناك اختلاف يلزم أن يُحَدّ التطابق اللانهائي، أن يجد حدّه ومحدوديته ونهايته عند اللا وجود، يلزم أن يعمل السلب في إيجابيته. هنا يتولد الاختلاف عن التوسطات، ويغدو التكرار علامة على فشل الهوية وعجزها أن تنفي ذاتها لتجدها في الآخر.
على هذا النحو، فإنّ الجدل لا يحرر المخالف، وإنما يضمن أنه لا بدّ وأن يُلاحَق ويُخضع ويُتدارك. فكأنّ التناقض يعمل في سر لحفظ المتطابق وصيانته. لذا، فإن أردنا تحرير الاختلاف من قبضة السلب، يكون علينا إقامة فكر من غير تناقض ولا جدل، فكر يقول نعم للتنوع، فكر مثبت إيجابي يستعمل الفصل أداة فكر متعدد رحّال.
معنى قلب الهيغلية والحالة هذه، هو تحرير السلب من هيمنة الكلّ وعدم توقيف عمله بفعل أيّ تركيب أو حبسه داخل منطق التعارض. سنغدو إذن أمام وحدة لا تتوخى لحظة تركيب، واختلاف لا يرتدّ إلى تناقض، وهوية لا تؤول إلى تطابق. فأيّ معنى يبقى للهوية والحالة هذه؟ يجيب دولوز: «إنّ الهوية والتّشابه أوهام يولّدها العود الأبدي»؛ فليس العود الأبدي عودة الأمور ذاتها وإلغاء الاختلافات. إنه يعني على العكس من ذلك، أنّ الغرابة والاختلاف يثبتان في العودة وعن طريقها. فليست الذات ذاتية إلا في/عن طريق العودة التي لا تنفك تعود. وعندما قال نيتشه بالعود الأبدي فهو لم يكن يعني شيئاً غير هذا، وهو أنّ ما يتكرر ليس التشابهات التي تجمع بين النسخ، وإنما تبعثر السيمولاكرات، ذلك التبعثر الذي يكرّس بينها الاختلاف إلى ما لانهاية.
لا يجد التكرار هنا تفسيره في صيرورة دائمة ولا في رجوع لما تمّ وحصل، وإنما في عودة الاختلاف.
يميز دولوز بين الصيرورة، والرجوع، والعود. فليست الاختلافات عناصر من صيرورة عظمى تحملها في جريانها، وليست هي الرجوع الذي يحيل إلى التكرار كحلقة ودائرة ورجوع إلى نقطة البدء. إنّ الوجود هو الرجوع وقد تخلص من انحناء الدائرة ليغدو عوداً أبدياً. ذلك أنّ العود يتمّ على خط مستقيم، إلا أنه عود للاختلاف، وما لن يعود هو المشابه والمماثل والمطابق، فهل يتعلق الأمر بحاضر خالد؟ نعم، شريطة أن نفهم الحاضر من غير امتلاء، والخلود من غير وحدة. إنه خلود متعدّد لحاضر يتزحزح. إذا كانت الصيرورة هي زمان الكرونوس Chronos الذي يبتلع ما ولده ليعيد إحياءه من جديد، فإنّ الآيون Aiôn هو الزمان الذي ما ينفك يمضي وما ينفك يعود: “فبدل الحاضر الذي يضم الماضي والمستقبل، يضع الآيون مستقبلاً وماضياً يصدّعان الحاضر كل لحظة”.
نحن أمام أنطولوجيا تسعى إلى التحرر من العمق الأصلي، كي تتمكن من التفكير في قوى الزيف بعيداً عن كل نموذج، وفي لعبة السطوح. فما أبعدنا عن فلسفات التمثل والأصل والمرة الأولى والتشابه والمحاكاة والوفاء والأمانة!… لكن، ما أبعدنا كذلك عن ميتافيزيقا الجواهر ! ذلك أن الاستيهامات لا تشكل امتداداً خيالياً للعضويات، وإنما تعطي حيزاً مكانياً لمادية الأجسام. الاستيهامات هي ما يشكل لاجسمانية الأجسام.
لقد سعت الفلسفة إلى أن تحدّد الحدث، انطلاقاً من التصوّر نازعة عن التكرار كلّ قيمة، كما حاولت أن تقيس الاستيهام على الواقع باحثة عن مصدره، سعت الفلسفة إذن إلى أن تعرف وتحكم، حاولت أن تكون علماً ونقداً. في مقابل الفلسفة هناك الفكر الذي يعطي لقوى الزيف بعدها الفعلي، ويجعل الحدث لا محدوداً ولا محدداً كي يتكرّر كتفرّد شمولي. إنّ دور الفكر هو التوليد المسرحي للاستيهام، وتكرار الحدث في تفرده. الفكر يولد حدثاً – معنى بتكراره للاستيهام.
*نشر بموقع مجلة مؤمنون بلاحدود
17 ديسمبر 2013