عن موقع ذوات / نشر بها يوم 6 يناير 2015
منذ حوالي ثلاثة عقود من الزمن، ترافق تطور التكنولوجيات الرقمية مع خطابين اثنين يكادان يكونان على شفا نقيض، هما:
خطاب متحمّس ومنبهر، وخطاب قلق وذو نبرة نقدية.
الأول يتباهى بما حملته وتحمله التكنولوجيات الرقمية لبناء مجتمع المعرفة لربط شبكات وعلاقات اجتماعية جديدة، لتشجيع المشاريع التشاركية وللدفع بديناميات الإبداع التكنولوجي والتطور الاقتصادي.
أمّا الخطاب الثاني فينتقد الأول لدرجة المناهضة في بعض الأحيان. فهو يلاحظ أنّ هذه التكنولوجيات قد أفرزت لا توازنات اجتماعية عميقة، وطوّرت تطبيقات “ليبيرالية” وضعت حريّة الأفراد وخصوصية الجماعات تحت المحك، وثوت خلف بروز مجموعات معلوماتية/اقتصادية احتكارية كبرى، حوّلت العالم إلى سوق مفتوحة غير مقننّة، وفجّرت مخاطر أخلاقية حقيقية في العديد من “اكتشافاتها”، وجعلت العلاقات الإنسانية مموسطة آلياً ومادياً، وأفقدت الأفراد والمجموعات هامش الحرية والاستقلالية التي كانوا يتمتعون بها إلى حين عهد قريب، أي إلى حين قدوم هذه التكنولوجيات.
قد يكون بعض من الصواب بهذا الطرح أو بذاك، وقد يكون بكليهما أو بأحدهما بعض من المبالغة أو الاختزال. لكنهما يبقيان مع ذلك راديكاليين في الطرح، قطعيين في الأحكام، متحمسين لدرجة الحماسة فيما يقدّمان ويتبنّيان.
ولعل إحدى السبل المتاحة، منهجياً على الأقل، لتجاوز “الاحتقان” الملاحظ بين الطرحين، إنّما تكمن في الاهتمام، ليس بالاستخدامات التي نقوم بها بفضل هذه التكنولوجيات، بل بالممارسات الاجتماعية التي تترتّب عن التكنولوجيات إياها، أو تخضع لها أو تتأثر بها عند فعلها في المجتمع أو التفاعل معه.
إنّ التكنولوجيات الرقمية ليست مستجدات تقنية، سرعان ما يطالها التقادم ويتمّ التبرّم بها لفائدة أخريات أكثر جدّة. إنها حمالة تحولات مستدامة وتراكمات عميقة، يصل مدّها ومداها إلى مختلف أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وإنّ التساؤل في جدواها ونجاعتها يجب ألا يقتصر على تمظهراتها، بل على الكيفية التي من المفروض أن نتعامل معها بها لنجعلها أداة للتنمية الاقتصادية، لتمتين العلاقات الاجتماعية، ولتبيان مميزات التعدد الثقافي والتنوع الحضاري والقيمي، اللذين تتجاور معهما أو تناهضهما أو تفسح لهما في المجال للتجسد بالذهنيات وعلى أرض الواقع.
وعلى هذا الأساس، فلو سلّمنا جدلاً بهذا الطرح، فسنسلّم لا محالة بأنّ ثورة التكنولوجيات الرقمية إنما يجب أن تتمّ مقاربتها ومساءلتها في مدى قدرتها وقابليتها للتعامل مع الإشكاليات الكبرى التالية:
ـ الإشكالية الأولى ومفادها أنّ هذه الثورة، لا سيما في ميدان المعلومات والإعلام والاتصال، قد وفرت وما تزال توفر حقاً للأفراد وللجماعات أحجاماً ضخمة من المعطيات والبيانات، لا يمكن الحديث عن مجتمع للمعلومات أو للمعرفة في غيابها أو في عدم توفرها بكثافة، أو في حالات الحؤول دون توزيعها وتقاسمها بين الطبقات الاجتماعية، بداخل النسيج الاقتصادي وعلى مستوى الفضاءات الترابية.
فثورة التكنولوجيات الرقمية ليست فقط ثورة حواسيب وهواتف نقالة وخطوط عالية الصبيب، وإنترنيت بأجياله المختلفة. إنها كذلك دون شك، لكنها بالآن ذاته، ثورة تجميع كل هذه الروافد والحوامل (صوتاً ومعطى وصورة) في حامل واحد وموحد، بإمكانه توفير مليارات الوثائق بكل أنواعها وأنماطها وأحجامها، وبالصيغ التي أنشئت بها، مع ضمان الآنيّة واللحظيّة في توفيرها وتروجيها، ثم التفاعلية والتشاركية التي كانت تكنولوجيات ما قبل الثورة الرقمية غير قادرة عملياً على تقديمها.
النتيجة، في هذه النقطة، أنّ هذه الثورة قد أثّرت بقوة على طرق إنتاج وتوزيع المعلومة والمعرفة داخل المجتمع، وأعادت تشكيل أنماط إنتاج وتلقي وتقاسم المعلومة والمعرفة إياها في الزمن والمكان. وهو ما لم يكن متاحاً من ذي قبل، أعني حينما كانت كلّ الحركية الاقتصادية والاجتماعية مبنية على الإنتاج المادي الصرف، وحاجته إلى المعلومة كأداة إنتاج متواضعة.
إنّ المجتمعات المعاصرة، بكل أرجاء الكرة الأرضية، لم تعد تعيش زمن الندرة التي لازمت التكنولوجيات التشابهية، ذات الطيف المحدود ومجال التغطية المحصور. إنها باتت اليوم (وإن بمستويات متباينة) تعيش وتعايش زمن الوفرة في المعلومات والمعرفة، بل قل تضخّماً في عرضهما، قد لا تستطيع المدركات الفردية أو الجماعية استيعابه أو الاطلاع على ما تكتنزه وتختزنه بنوك وقواعد معطياته، فما بالك بتطويعه لهذه الوظيفة أو تلك، ناهيك عن القدرة لفرز الغثّ من السمين ضمنه.
بالتالي، ليس ثمة من شك حقاً بوجود هوّة عميقة، تتّسع يوماً بعد يوم، بين القوة الإدراكية لمعالجة البيانات والمعطيات، بما يستوجبه ذلك من تركيز وتحليل، وبين الأحجام الضخمة من هذه البيانات والمعلومات، التي تضخها التكنولوجيا الرقمية من بين ظهرانينا آناء الليل وأطراف النهار.
أي أنّ التحدي الذي ترفعه هذه التكنولوجيات اليوم بوجه الأفراد وبوجه الجماعات، لا يكمن فقط في هذه الأحجام الكثيفة من المعلومات والمعارف، بل أيضاً وبالتحديد في امتلاك أدوات وآليات فك شيفرتها، وتصنيفها وترتيبها، والذهاب مباشرة إلى المواقع حيث المعلومات والمعارف المبحوث عنها، ضمن أحجام لا حيلة لنا أمامها للتمييز بين المواقع الجادة والمواقع التي تمرّر الشائعة، بين المواقع المحرّفة للمعلومة عن قصد والمواقع ذات المصداقية، بين المواقع ذات الفائدة الاجتماعية المؤكدة والمواقع ذات البعد التجاري، التي تعتبر أنّ الكل بالسوق هو مستهلك للمعلومة، لا ضرورة للتمييز في خاصيات من يتلقاها أو تصنيفها للتجاوب مع مواصفات المحتاج إليها.
ولعل المفارقة هنا أنّ التكنولوجيات الرقمية لم تعد تضع منتج المعلومة بمستهلكها وجهاً لوجه، بل كسرت الحواجز فيما بينهما، لدرجة أصبح معها المنتج مستهلكاً والمستهلك منتجاً في الآن معاً، فتقوّض بذلك الاستقطاب الاحتكاري الذي كرّسته التكنولوجيات التقليدية، ذات النمط الإنتاجي العمودي، الممركز وذي البناء الهرمي الصارم.
ـ الإشكالية الثانية وتكمن في خضوع مفهوم “المعنى” ذاته للآنيّة والسرعة، وتراجع مبدأ التأني في التحليل، أمام هذا الزخم الهائل من المعطيات والبيانات والمعلومات. وهذا يعني، ضمن ما يعنيه، أنّ علاقة المعنى بالزمن قد أصابها التغير هي الأخرى نتيجة هذه التطورات التكنولوجية المتسارعة. ولعل أحد معالم هذا التغير، الانتقال التدريجي من الممارسات القارة والثابتة، التي كانت لازمة الباحثين عن المعنى، إلى الممارسات المتحركة والجوّالة، التي باتت تتعامل مع المعنى في كونه معطى جارياً، لا يستحقّ التوقف والتأمّل كثيراً.
إنّ التكنولوجيات الرقمية قد جعلتنا مرتبطين باستمرار و”طول الوقت”، سواء من خلال شبكة الإنترنيت واسعة الانتشار، أو عبر الهواتف الجوّالة، أو من خلال شاشات التلفزيون التي تسقينا المعلومات على مدار اليوم والساعة. بالتالي، فزمن السرعة قد جعل كلّ مستويات الفعل والتفاعل في متناول اليد، في وقت آني وبتفاعلية عالية بين باعث الرسالة ومتلقيها.
يبدو الأمر هنا كما لو أنّ المرء بات في وضعية تابعة حقاً، أي أنّ تيارات المعلومات والبيانات والمعطيات هي التي باتت تجذبنا وتجرفنا، دون أن تكون لدينا القدرة الكافية للرّد. ويبدو أنّ سلوك ردّ الفعل قد بات هو المهيمن، أمام سلوك التفكير المتزن العقلاني والمرتكز على ضرورة “وضع المسافة” مع الوقائع والأحداث التي تنزل علينا في أشكال خام، غير مهيكلة وغير متناسقة، لا تساعد المرء بالتالي على وضعها في السياق، أو في إطار إدراك الخلفيات التي تمنحها المضمون والمعنى.
ويبدو، فضلاً عن كل ذلك، أنّ هوس السرعة والركض خلف الجديد والمستجد، قد أفقدتنا القدرة على التفكير الهادئ، والقراءة المتأنيّة، والقدرة على الإمساك بالمعنى في شكله ومضمونه الحقيقيين. وهذا لربّما من تبعات تكنولوجيات جديدة، أضحت في حلٍ من كلّ الالتزامات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية وما سواها.
ـ الإشكالية الثالثة: وترتبط بطبيعة العلاقة التي نسجتها التكنولوجيات الرقمية الجديدة مع المكان ومع الواقع تحديداً، ليس كمجال مادي ثابت وملموس فقط، بل كتمثلات أيضاً، كأحكام ذاتية وكفضاء متموج.
والحقيقة أنّ هذه التكنولوجيات قد نجحت، وإلى حد بعيد، في إيجاد عالم “جديد” (العالم الافتراضي) لا يشتغل باستقلالية تامّة عن العالم الواقعي، ولا هو صورته الماديّة حتى، لكنه اندمج في صلبه بالجملة والتفصيل، لدرجة الاندغام معه والانصهار فيه.
وعلى الرغم من أنّ بيرتيي في “القاموس الدولي للمفردات الأدبية”، يحدّد الواقع الافتراضي بالقول إنّ “الافتراضي ليس هو الواقعي، بل هو مجال يعادل الواقعي عملياً”، فإنّ “الأداة” الافتراضية التي تحتكم على وظائف الأداة الواقعية نفسها تعطي الانطباع بأنها هي الواقع، حتى وإن كان مصدرها غير مادي، أي من غير الممكن إدراكه بالحواس لأنّه لا وجود ماديّاً له في الفضاء. إنّه واقع “لا افتراضي”، حتى وإن مكّنته التكنولوجيات الرقمية من التجسّد من خلال الصورة والصوت والحركة.
وعلى هذا الأساس، فليس من المبالغة في شيء القول إنّ التكنولوجيات الرقمية إنّما أسهمت وبقوة في تغيير علاقاتنا بالعالم الواقعي، وحملت إلينا “كائنات” افتراضية تتماهى تارة مع الواقع كما نعيشه، وترتفع عنه تارة أخرى لتبدو مستقلة عنه، تدور في فلك غير فلكه.
وسواء سلّمنا بهذا الطرح أم لم نسلم به، فإنّ الثابت حقاً أنّ هذه التكنولوجيات قد وضعت رهن الممارسة الاجتماعية طبقات من المعلومات الافتراضية، متوازية حيناً ومتداخلة حيناً آخر مع الواقع، من خلال هذه “الكائنات الافتراضية” التي تحيط بنا، ولا سبيل للإفلات من عقالها إلا بمشقة.
بيد أنّ هذه الحدود بين العالمين، الواقعي والافتراضي، لا تصمد كثيراً عند وضعها على محكّ الممارسة الاجتماعية، إذ نجد أنّ ثمة من الأنشطة الافتراضية ما يكون لها وقع على مستوى العالم الواقعي (اقتناء منتوجات هذه الأنشطة بالأدوات المادية، عملة أو بطائق بنكية)، كما أنّ ثمة من المؤسسات المادية من اقتنى العالم الافتراضي (التعليم أو التطبيب أو التبضع عن بعد)…وهكذا.
بالتالي، فإنّ الممارسة الاجتماعية (ولربما أكثر من الاستخدامات) هي التي من شأنها التأشير على طبيعة الارتباط بين هذين العالمين، وذلك حتى بتسليمنا بأنّ العملية ذات تبعات بنيوية كبرى، لعلّ أهمها وأكثرها تجلياً تراجع معايير التمييز وتدني إمكانات التقييم.
ـ أمّا الإشكالية الرابعة فتكمن في التساؤل عن جوهر وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي من المفروض أن تترتّب عن الممارسة التي تخضع لها التكنولوجيات الرقمية في الزمن والمكان.
نزعم بهذه النقطة، أنّه إذا كان من شأن هذه التكنولوجيات أن تقوّي العلاقات الاجتماعية بحكم الطبيعة الشبكية التي تنسجها من حولها وفي محيطها العام، فإنها تطرح وفي الوقت نفسه، إشكالية الهويّة والخصوصية، لا سيّما عندما نجد بالفضاء الافتراضي معطيات عن الحياة الخاصة للأفراد والجماعات، وبيانات عن مواصفات “المبحرين” بالفضاء ذاته، أو المتواجدين من بين ظهرانيه بهذا الشكل أو ذاك.
بالمقابل، فإنّ هذه التكنولوجيات، سواء قوّت علاقات التواصل بين الأفراد والمجموعات أم دمجتهم في إطار ما يُسمّى بـ”مجموعات المصالح”، قد لا يعرف مرتادوها بعضهم بعضاً، فإنها مع ذلك قد أسهمت في تقليص العلاقات الماديّة المباشرة بينهم، وأزاحت عن علاقاتهم بُعد الحميميّة الإنساني، وجعلت كلّ من لا يتوفر على حاسوب، أو هاتف نقال، أو ارتباط بالشبكة، أو حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلته مقصيّاً ومنسيّاً، بل لا وجود له يُذكر في العالم الافتراضي، ولربما أيضاً في العالم الواقعي.
+ باحث مغربي