ادريس جبري
إن القارئ المتأمل في العنوان المركزي للكتاب الأخير: الدستور المغربي الجديد، الذي أصدره الأستاذ سعيد بنكراد، عن منشورات الزمن في عددها 56 من شهر أكتوبر 2014، وباستحضار اهتمام الباحث وانتمائه إلى السميائيات، وقبل أن يتصفح الكتاب، ويطلع على مواده، وحتى قبل أن يلج عوالم الكتاب ومجالاته؛ لا بد أن تجحظ عيناه، وتنشط مخيلته، فيسأل ويتساءل عن علاقة السميائيات بالخطاب الدستوري من ناحية، وعن علاقة السيمائيات بالخطاب السياسي ومن ناحية أخرى، صلاتها بقضايا الدستور، وصياغاته ومراميه، وكل ما يمكن أن يخطر ببال المتتبع للشأن السياسي.زد على ذلك أن الحديث عن الدستور، في المتعارف السائد، من اختصاص الباحثين المتخرجين من كليات الحقوق دون غيرها، وبالتحديد في مجال العلوم السياسيةوالقانون الدستوري.
ومما قد يَزيد من حيرة القارئ وتساؤلاته، ويُمعن في استغرابه وذهوله، العنوان الهامشي الذي ذيّل به الباحث عنوان كتابه: “في سيمائيات الخطاب السياسي”، بالنظر إلى ارتباط السميائيات، بحسب المتداول، “بالبحث في العلامات في حياة المجتمع”- بلغة المبشر بها دو سوسور- وطرق “فهم الظواهر وتأويلها” (سعيد بنكراد: مسالك المعنى، ص15)
قد ينتظر القارئ، الأكثر تفاؤلاً، مقدمة الكتاب علّها تخفف من ذهوله، وما يبدو من “مفارقات” فاقعة في عنوان الكتاب، خاصة بين الدستور والسياسة من جهة، وبينهما والسميائيات من جهة ثانية، غير أن أفقه سيخيب، منذ أول فقرة من مقدمة الكتاب، عندما يُصر الباحث على تقديم كتابه بادعاء مستفز ومُحيّر قائلاً: “هذا الكتاب ليس كتاباً في السياسة، ولا يُصنف ضمن خطابها”(ص6).
وإذ نرجئمُعالجة هذه التساؤلات، ورصد حيثيات هذه المفارقات، ومحاولة فهم تلك الحيرة وإدراك أسبابها، إلى مناسبة غير هذه، فإننا سنكتفي في هذا المقام بتقديم الكتاب والتعريف به، وبالقضايا التي قاربها، والأسئلة التي شغلت صاحبه، كباحث سميائي، ينتمي إلى أفق حضاري حداثي، ينتصر للإنسان في كونيته.
يتألف كتاب الأستاذ سعيد بنكراد: الدستور المغربي الجديد، في سميائيات الخطاب السياسي، فضلاً عن مقدمة ضافية وخاتمة جامعة، من ستة فصول، مذيلة بملحق خاص بقضية الدارجة، يوحي أنه خارج المعالجة الدستورية، والخطاب السياسي المصاحب له، مع أنه، في اعتقادنا، من صلبهما، كما سنبرهن على ذلك في مقام غير هذا، وإن اختلفت حيثيات كتابته، وسياق صدوره.
بعدما، قدّم الأستاذ سعيد بنكراد لكتابه ذاك، وحدد موضوع اشتغاله في النص الدستوري المغربي الجديد، وخصوصياته “التقنية”، ونبه إلى طبيعته التي تَترجّح بين الظاهر والباطن، أو بين المنطوق المصرح به والمضمر المسكوت عنه، وشدد على فصله للدستوري، باعتباره خطاباً قانونياً، عن السياسي، وطبيعته المخاتلة،التي كانت وراء التشويش عليه، وإصابته بالخلل والتناقض؛ قسم كتابه إلى ستة فصول متدرجة، تضع هذا الدستور المغربي الجديد، تحت أنظار عين السميائي التي لا تسهو ولا تنام، وعين الباحث الأكاديمي الأمارة بالنقد والتأويل:
الفصل الأول، وعنوانه: ملاحظات أولية، حاول فيه الباحث أن يُذكّرَ القارئ بتاريخ كتابة الدساتير الحديثة، ومبرر كتابتها. فالدستور ترسيم قانوني لحالات تطور وعي جماعة بشرية ما، وممكنات استيعابها، في أفق ما يسيمه الباحث ب”المطلق الإنساني”.
غير أن ما رافق إعداد الدستور المغربي “الجديد” وكتابته، وما صاحب الاستفتاء عليه من “فُرجة”، وما حَكَمَهُ من خلفيات سياسية، خلافاً لدساتير العالم المتحضر،حوله، بلغة الأستاذ بنكراد، إلى ما “يشبه “الهمزة” أو الريع السياسي الذي يَعِدُ بالكثير من “الخيرات””، وصيّرهُ وثيقة محشوة بكثير من الاستطرادات والنعوت والأفعال الإنجازية والأحكام المسبقة، وبالتالي وثيقة مفتوحة على كل ممكنات التأويل المنفلت، المحكوم والموجه بخلفيات سياسية تقوم على التكتيك والمساومة والمناورة، سيبرزها الأستاذ بنكراد على امتداد الفصول الموالية، من خلال قضايا بعينها تؤشر على مدى الوعي الحضاري والسياسي الذي بلغه المغرب. من هذهالقضايا “المشتعلة”: قضية تصدير الدستور، وقضية نظام الحكم، وقضية اللغة والهوية والدين، ثم قضية المساواة بين الرجل والمرأة.
أما الفصل الثاني، فقد اختار له الباحث عنوان: التصدير، باعتباره ديباجة الدستور وإطار تحديد المبادئ العامة، والمرجعية التي تسند الدستور وتوجهه. وتعاني هذه الديباجة في نظر الأستاذ بنكراد، من كثير من العموميات، بصياغة عائمة فضفاضة، وعبارة مرتبكة وركيكة، وتخترقهاأحكام قيمة ملتبسة وهَوَوِيّةمعيبةتأباها طبيعة الدستور ومقاصده.
وبخصوص الفصل الثالث، الموسوم ب”طبيعة نظام الحكم: الملكية؛ فلم يتردد الباحث في وصفه بالحشو والاستطراد، والجمع بين المتناقضات والمفارقات، إذ كيف يستقيم، في نظره، الجمع في تحديد طبيعة الحكم في البلد، بين صفات: الدستورية/ الديمقراطية / البرلمانية / الاجتماعية، دُفعة واحدة؟ فصفة “الملكية البرلمانية” وحدها كافية وشافية في توصيف نظام الحكم المراد والمتوخى، على الأقل في نظر الأستاذ سعيد بنكراد، كمثقف “مناضل يساري”، دون تعويم أو التفاف أو تعويم.
لينتقل بعد هذا الباحث في الفصل الرابع لمعالجة:”المسألة الدينية”، وتوصيف ما يعتريها في الدستور المغربي الجديد، مما ينعته ب”الاستطرادات والعموميات والرغبات”، خاصة في إبراز الموقف الصريح والواضح من مدنية نظام الحكم، ومن الاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان في قضايا من قبيل الزواج والطلاق والإرث والمساواة، ومن قضية العلمانية والمذهبية وغيرها.
وفيما يتصلبالفصل الخامس، الذي جاءعنوانه مثبتا: لماذا لا يمكن اعتماد الدارجة أداة للتدريس؟( وهو العنوان نفسه للمقال الملحق بالكتاب، ص113) فنرجح أن عنوان الأصلي هو: ملاحظات حول اللغة، لكن ربما وقع سهو في الطريق. ومهما يكن من أمر فقد خصص الباحث هذا الفصل لمعالجة قضية اللغة بالأساس، وما اعترى الدستور المغربي، الذي يُصر الأستاذ بنكراد على تسميته بالجديد، بشأنها من “تنافر وخلط وتعويم وارتباك وتشويش” يجعل قارئ الدستور، على الأقل بعين الأكاديمي، ومن خلفية علمية سميائية، في حالة الذهولمن معالجة الدستور للشأن اللغوي بالمغرب. فدسترة العربية بتلك الصيغة (تظل)، والأمازيغية بكلمة “أيضا”، واللهجة الحسانية، ومختلف التعبيرات الثقافية، وكذا اللغات الأجنبية، باعتبارها لغات الانفتاح، يضعنا أمام مأزق، يُرسِّمُ لغة ويترقب أفولها، ويُرسِّمُ أخرى ويوحي بقصورها. دستور يريد أن يرضي، ظاهرياً، جميع الأطراف، ولا يُرضي أحداً في المُحصلة.
لينتقل الأستاذ بنكراد في الفصل السادس والأخير من كتابه الجديد، إلى مسألة “المساواة بين الرجل والمرأة. وهو الفصل الذي يمعن فيه في صف الدستور المغربي الجديد، بالمرتبك والمتهافت والمتناقض. فهو لا يتردد تارة بالإعلان عن عزم المُشرع مساواة الرجل بالمرأة، على أساس مرجعية الاتفاقات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، لكن سرعان ما يستدرك، لحسابات سياسية، لتقليصها والالتفاف حولها، وذلك برفع شعار الخصوصية والاستثناء، ثمالاحتماء بالقوانين الوطنية، وثوابت المملكة. فيعود الدستور بذلك إلى نقطة الصفر، فتغلب القراءة السلفية، فتتم العودة إلى تكريس قيم القدامة من قبيل القوامة والولاية والتعدد..
لقد كان غرض كاتب الدستور، حسب عبارات الأستاذ سعيد بنكراد، “إرضاء جميع الأطراف”، في الخارج كما في الداخل، من خلال مختلف القضايا الحارقة التي أقرها الدستور ورصدها الباحث وأبرزها، غير أن ما شاب صياغته من حشو زائد، واستطرادات مخلة، وما وسمه من تناقضات ومفارقات فاقعة، جعل هذه الوثيقة الدستورية “الهجينة” التي كُتبت على عجل، شبيهة”ببيان صادر عن تجمع نقابي أو سياسي”، قد يُعبر عن نوايا حسنة، ولكن دون أن يلتقط روح التحول السياسي والحضاري المميزة للدساتير، وفي أفق المطلق الإنساني./.