مياه كثيرة مرت تحت الجسر

ما بين العددين 10 و11 مرت مياه كثيرة تحت الجسر. كانت، خلال عقود من الزمن، راكدة، لكن سرعان ما اندفعت بعنفوان وقوة مزحزحة صخورا ثابتة، ومقتلعة أشجار راسخة. توحي العبارة المسكوكة إلى “الربيع العربي” الذي أسال كثيرا من المداد لتعرَّف أسبابه ودوافعه ونتائجه وامتداداته. صاحبته، وهو ما حفزنا على إعادة إثارته، جلبة تخص منزلة المثقف ووظيفته في المجتمع، مع العلم أن هوية المثقف أضحت ملتبسة بحكم تدخل أطراف جديدة تزعم أنها قادرة على شغل مهمته، وملء الفراغ الذي خلفه انسحابه من الفضاءات العمومية..
يحرص المثقف على فهم ما يحدث برصانة وتريث، والتدخل في الوقت المناسب لتنوير الرأي العام والإسهام في ترسيخ القيم الديمقراطية التي طالما ناضل من أجل تحقيقها متحملا شتى أصناف الحيف والتعسف.ما حدث، بعد هدوء العاصفة وإن مازال مفعولها مستمرا في بعض البلدان العربية، يؤكد حدسه في خلق المسافة النقدية اللازمة مع أية ظاهرة طارئة أيا كانت طبيعتها وأيا كان مصدرها.
أثبت ” الربيع العربي” ما يتمتع به المغرب من استثناء(ما يصطلح عليه بالاستثناء المغربي) بحكم التراكمات الإيجابية التي حصلت فيه، وإن مازال الطموح أكبر من ذلك سعيا إلى اللحاق بالدول المتقدمة والزاهرة. عرف المغرب كيف يتعامل مع العاصفة في الوقت المناسب باعتماد دستور جديد يوسع من الحقوق والحريات السياسية، ويفصل بين السلط في ظل ملكية دستورية ، ويضمن التعدد الثقافي واللغوي في إطار مجتمع متماسك وموحد.
وفي السياق نفسه، جاءت ” خرجة عبد الله العروي” لتؤكد أن المثقف لم يتقاعس عن أداء دوره، بل مازال مهتما بالشأن العام ومسهما في النقاشات العمومية التي تتوافر فيها الضوابط المنشودة. سعى عبد الله العروي في مجادلة نورالدين عيوش ( وإن كانت شروط المناظرة منتفية) أن يدافع عن ملاءمة التدريس باللغة العربية حتى يظل المغرب متواصلا ومتفاعلا مع أمم كثيرة يتقاسم معها قواسم مشتركة، وتصل نسبتها إلى 3,25 بالمائة من سكان العالم قاطبة. ولكن هذه الدعوة لا يجب أن تكون مفعمة بالحماس المبالغ فيه. وهو ما يقتضي، في نظر عبد الله العروي، تطوير اللغة العربية وتبسيطها حتى تكون ميسرة أكثر للمتعلم في المراحل التعليمية الأولية. ومن يطلع على الكتب المدرسية المبرمجة للأطفال سيضع أصبعه على مكامن الداء التي تعتري طرق التدريس وخاصة ما يتعلق بتعليم اللغة العربية وتعلمها.

ما الرابط ، إذن، بين هذه الأشياء كلها؟
وهو ما يمكن أن نجمله في القضايا الآتية:

1- مر ما يربو على سنتين اعتماد دستور جديد للملكة المغربية بعد إجراء الاستفتاء عليه يوم 1 يوليوز 2011، في حين مازالت آليات تنزيله متعثرة، وخاصة ما يهم التعاقد اللغوي وضمنه أساسا إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، الذي سيكون من مهماته وضع سياسة لغوية وثقافية فاعلة ومنسجمة تغني عن النقاشات المفتعلة، وتجيب عن كثير من الأسئلة الحرجة التي مازالت- لبواعث متعددة -معلقة منذ الحصول على الاستقلال.
2- ينبغي للإعلام أن يساهم في إثارة نقاشات عمومية بدعوة ذوي الاختصاص حرصا على تنوير الرأي العام وإفادته بخبراتهم الميدانية ومؤهلاتهم الفكرية . وفي هذا السياق لا بد من التنويه بدور المجلات الثقافية التي تسعى جاهدة، رغم قلة عددها، وضعف إمكاناتها، وتراجع نسبة المواظبين على قراءتها، إلى إثارة جملة من القضايا الثقافية التي تروم الرفع من وتيرة النقاش، والمراهنة على النزاهة الفكرية والصدع بالحقيقة.
3- إن انتظام صدور مجلة ” فكر”، رغم قلة الإمكانات وتواضعها، يَطْرس على التجربة الثقافية الحداثية التواقة إلى حرية الفكر، والتفاهم اللغوي، والحوار البرهاني، والتنوع الثقافي، والتعدد اللغوي، والديمقراطية التشاركية.. ويأتي العدد الجديد ليؤكد على انفتاح المجلة على مختلف الأجيال والحساسيات الثقافية، وحرصها على تناول القضايا القديمة والجديدة بروح علمية ومساءلة نقدية، وسعيها إلى استيعاب مختلف المواضيع التي تعني بالشأن الثقافي في جميع المجالات والأجناس المعرفية ( لسانيات، تاريخ، ديداكتيك، نقد..).
وفي انتظار صدور العدد القادم نأمل أن تُبلور سياسة لغوية وثقافية فاعلة ومنسجمة، وتُستحدث البنيات الكفيلة بذلك والقادرة على حماية اللغات الرسمية والنهوض بها ، والتفاعل إيجابا مع اللغات الأجنبية سعيا إلى الاندماج في مجتمع المعرفة.

unnamed

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…