عن صحيفة العرب محمد قواص ..نُشر في 05/01/2015، العدد: 9788،
لم يكن مفاجئا أن تقوم القنوات المصرية الخاصة بتوجيه الانتقادات للمغرب، بلداً وملكا وثقافة ومجتمعا، فذلك روتيني في تمرين الردح الذي يقوم به الإعلام المصري وإعلاميوه، وفق إدعاء بليد بأنه ينطق عن ذاته، ولا تمثل مواويله الموقف الرسمي للبلد.
قلما نفهم الموقف الحقيقي للسياسة الخارجية المصرية في ملفات عديدة تطال المجال العربي، المفترض أنه مجال مصر الحيوي وفق الخطاب الجديد للقاهرة منذ انتخاب عبدالفتاح السيسي رئيساً للبلاد.
وفق تلك الرمادية يُترك للإعلام المصري “الخاص” أن يعبرّ عن مكنونات ما تهمس به أروقة الدبلوماسية المصرية. هكذا فهمنا الموقف من قضايا فلسطين، أو مسائل العلاقة مع السودان، أو خفايا الموقف من ليبيا، أو حتى تلك المساعي الملتبسة المتلعثمة في مقاربة الكارثة السورية.
رمى الإعلام المصري سهامه صوب المغرب. بالغ في ذلك (وأحيانا ببذاءة ووقاحة) وبعد ذلك تقدم بالاعتذار تلو الاعتذار. كان المراقب المتفاجئ من الرماية المصرية يرى في ذلك صبيانية خارج سياق الهمّ المصري، على نحو يدفعه إلى تصديق رواية أن ذلك لا يعدو عن كونه زلات كتلك التي ينضح بها الإعلام المصري الحديث.
لكن الرسالة المصرية “غير الرسمية” للمغرب وصلت لغاياتها وتركت كدمات وآثار اعتداء غير مفهوم. ثم كان أن لا داعي لرد مغربي مقابل، ذلك أن طقوس الاعتذار تجبُّ عما سبق وكأن شيئا لم يكن.
وطالما أن إعلام القاهرة يلمّح دون أن يميط اللثام عن مواطن العتب، فتُرك لمخيّلة المحللين أن تفكّ رموز الطلاسم، وتنير عتمة أسرارها. قيل أنه عتبٌ من ذلك المغرب الذي تتولى فيه حكومة إخوانية (حزب العدالة والتنمية) تسيير أمور البلاد. ثم قيل أنه عتبٌ من زيارة ملكية قام بها الملك محمد السادس لتركيا، مع ما يمكن أن تحمله من تحوّلات في موقف الرباط. ثم أن لتلك المخيلة فضاءات لا تنتهي في السعي للتفطن لأسباب الحرد المصري.
وما ليس مفاجئاً، طالما مصدره عاديات الإعلام المصري، بدا صاعقا حين ورد على لسان الإعلام المغربي الرسمي هذه المرة (القناة الأولى والثانية). بدا أن القاهرة والرباط استغنت عن كفاءات دبلوماسييها وتركت العنان للإعلام أن ينطق عما هو وحي يوحى. وبدا أن العاصمة المغربية تردُّ بعد طول أناة وتأمل على العزف المصري بعزف مغربي مضاد يستخدم نفس التقاسيم ونفس الآلات: الإعلام.
لسان حال المغرب في مطالعته الإعلامية في وصف نظام السيسي يعبّر عن كيل قد طفح، وعن محرمات قد مسّت، لا يمكن للرباط تمريرها والسكوت عنها. وطالما أن التحوّل المغربي، إذا جاز التعبير، غير رسمي لا يستند على بيانات ولا يعتمد تصريحات، فالمخيّلة أيضا خصبةٌ لتفسير الحدث وقراءة متنه كما هوامشه.
في المغرب حديث عن استياء من مقاربة مصرية تفضيلية لصالح الجزائر منذ أن دشّن الرئيس عبدالفتاح السيسي عهده بأول زيارة له خارج البلاد نحو الجزائر، كما الحديث عن تطوّر محتمل في الموقف المصري لصالح البوليساريو، كما الحديث عن جوانب مالية اقتصادية يراها الجانب المصري في الجزائر على حساب المغرب.
تقفُ شتائم الإعلام المصري ضد المغرب معطوفة على عتب المغاربة مما يرونه تحوّلا في موقف مصر – السيسي، عما كانت عليه أمور العلاقة بين القاهرة والرباط أيام مصر – مبارك، وراء الردح الإعلامي المغربي “المفاجئ”. هي أزمة حقيقية في علاقات الرباط والقاهرة يعبرّ عنها البلدان بخجل “رسمي” يعكس توْقاً مشتركاً لضبط مستوى التوتر، ومنعه من أخذ مسالك رسمية ذات أبعاد سيادية.
لا تصفّق النخب المغربية لأداء الإعلام المغربي إزاء القاهرة. تبدو تلك النخب متفاجئة أيضاً من سلوك لا يشبه المغرب ولا يتّسق مع تقليدية دبلوماسيته، مذكّرة بالتهنئة التي وجهها ملك البلاد للرئيس السيسي (في 3 يونيو الماضي) غداة انتخابه، لكنها تفسّر دون أن تبرر المشاهد الطارئة في علاقات البلدين.
تذهب بعض الأسماء المغربية المشهورة في الدفاع عن الموقف الرسمي إلى التحذير من “انفعالية” لا تتناسب مع سمعة البلاد وحكمة إدارتها في مقاربة الملفات الاستراتيجية الكبرى.
وجدت تقارير الصحافة المصرية في الأمر “مؤامرة” دبّرها أعداء النظام السياسي في القاهرة لتعكير علاقات القاهرة بالرباط. في ذلك إمعان مصري في تجاهل شكاوى المغرب من دبلوماسية متعجّلة لا تراعي مصالح وحساسيات، ولا تأخذ بالاعتبار تاريخاً خاصاً في علاقات المغرب ومصر. وفي ذلك استنكاف عن ممارسة نقد ذاتي في شكل الأداء وليس في مضمونه، لاسيما من خلال إلصاق تهم الهجمة الإعلامية ضد المغرب لفضائيات تبث برامجها من خارج الأراضي المصرية، وبالتالي تخرج بذلك عن المزاج المصري الحقيقي.
في التوتر المكتوم – المكشوف بين القاهرة والرباط مفارقة بنيوية عجيبية.
نظريا ينتمي البلدان إلى حلف واحد مع دول مجلس التعاون الخليجي، فإذا ما كان الدعم السعودي الإماراتي الكويتي حازماً واضحا في الوقوف مع نظام القاهرة بعد الإطاحة بنظام الإخوان (بانتظار التحوّل القطري)، فإن للمغرب علاقات لطالما وصفت بالإستراتيجية مع دول الخليج، إلى درجة ترشيحه الدائم للانضمام إلى المجموعة الخليجية (إضافة للأردن). كما أن التقارب المزعوم بين القاهرة والجزائر يبدو ظرفياً لا يتأسس على مشترك، وهو يحمل في إرهاصاته علامات تباين يظهر أكثرها في الملف الليبي. ناهيك عن أن الغضب المغربي يأتي في وقت تشهد فيه مواقف دول كالولايات المتحدة وقطر وتركيا، والتي تولت مناكفة التحوّل المصري بعد إزاحة الإخوان، مراجعة لصالح الخيارات المصرية.
ستعمل الدبلوماسية التي استفاقت على ضجيج الإعلام على تدوير الزوايا وإصلاح ما أضرته “زلات اللسان” المقصودة هنا وهناك. سيصحّ ما هو صحيح في طبيعة العلاقات بين البلدين، وستمحو الوقائع دخان الإشاعات. فليس في البلدين من يرى في الخلاف مصلحة وفي التباعد منفعة.
في المغرب من ترفّع عن التصفيق لهذا السجال، محذراً من أن ذلك يمنح الجزائر هدايا مجانية أوائل هذا العام. ذلك ما هو أساسي في إعادة تصويب الأداء لصالح حكمة عجائبية لطالما وسمت إطلالة المغرب على أمور الجوار، كما أمور الدنيا.
صحافي وكاتب سياسي لبناني