ختم الأستاذ الريسوني، سَدَّده اللهُ، سنةَ 2014 بإسقاط طائرتين مرةً واحدةً: الأولى في مُطْرَح نِفاياتِ الحداثة، والثانية في فندق بالإمارات العربية! تَهُمُّني الطائرةُ الأولى لأسبابٍ مَوضوعية كثيرةٍ، على رأسها، وفي مقدمتها، تلبيةُ رغبةِ الأستاذ في أن يُعامل معاملةً علمية وفكرية بعيدا عن «السباب والشتم والغوغائية». فقد سألهُ صُحفي من جريدة المساء (يوم 27/12/2014) عن اعتراض الحداثيين على مضمون مقاله الذي أَلْصَق فيه بــ «المرأة الجديدة»، وبِـ» «نِساء الحداثة»، كما سماهم، لائحة مفتوحة من المثالب، فأجابه:
«الأجدر بهن وبأصحابهن أن يتعلموا النقاش العلمي والفكري، وأن يخرجوا من مدرسة السب والشتم والغوغائية، وأن يرتقوا إلى مناقشة الأفكار والمحتويات… هل منهم من ناقش فكرة واحدة مما ذكرته وأظهر خللها، وخطأها وزيفها؟ إنهم لا يطيقون ذلك، بل يهربون منه، لأنهم يعرفون أن ما قلته هو عين الحقيقة، وأني لم آت في ذلك بجديد… ».
مرحبا بالأستاذ! أنا من «أصْحابهن» وفاءً للواتي أحببتُهن حتى نسيتُ كل نقائص بنات جنسهن، وأنا راغبٌ في تعلُّم النقاش العلمي والفكري من زمان؛ لم يشغلني عن هذا المسعى شيء، وأنا في حرب على السب والشتم وفي سعي دؤوب من أجل تخليق الخطاب منذ ملكتُ القليلَ من أدوات هذه الصناعة، ثم إني مستعد لمناقشة الأساس العلمي لما سماه الأستاذ «أفكارا» بطريقة نسقية مدعمة بالأمثلة والصور: لن أَضِيع في الجزئيات والقشور. وسأبين له، بتأييد من الله، ونزولا عند طلبه، «خلَلَها وخَطأها وزيفَها»، ولن أهرُب منها، ولا من الحق متى سطع نوره، ولن أُشيْطِنه كما شيطن الحداثيين (أي أصحابهن)، وسأترك للقراء الحكم على ما في كلامه من «علم» و«فكر» و «وقار»، وإن عَنَّفْتُ فسأعنفُ فكرة معوجة، وفي هذا لا حرج علي. سأبدأ بعرض الفقرةِ موضوعِ الخلاف بينه وبين الحداثيين بالنص، وللقارئ أن يرجع إلى باقي كلامه في «موقعه» على الشابكة، فهو مُتيسر، وسأستعمل «القَدَامَةَ» أحيانا مقابلا للحداثة لأن الأستاذ قايض في هذا المقال نساء الحداثة بالمرأة الجديدة، كما سيأتي.
***
تحدث الأستاذ عن دعوة الحَدَّاد إلى تحرير المرأة، ثم أبدى خوفَه من ضياع جهوده وجهود المصلحين الذين ساروا في نفس الطريق (علال الفاسي وابن عاشور والحجوي) وذلك نتيجة:
«بروز أصناف جديدة من النساء والفتيات يتم تصنيعهن [انتبه! هذه ألفاظه] وتكييفهن وتوجيههن حسب متطلبات المتعة والفرجة والتجارة والإجارة والإثارة.
– فصنفٌ من هذا الجنس اللطيف إنما يراد ويستعمل لتلطيف الشوارع والحدائق وفرجة الجالسين في المقاهي.
– وصنف يستعمل لتأثيث الأسواق والمطاعم والمتاجر ومكاتب الاستقبال.
– وأما الدعاية التجارية لكل أصناف البضائع والخدمات، فلم تعد تحرك وتجلب إلا على أجساد النساء
– وثمة صنف محظوظ، هن عبارة عن مرطبات للرؤساء والمدراء وكبار الزوار…
– وهناك صنف مدلل، ولكنه مبتذل، وهو صنف «الفنانات»، ويخصص غالبا لتجميل «الفنون» القبيحة الرديئة وستر قبحها ورداءتها، فمتى ما حضرت فيها أجساد النساء بمختلف استعمالاتها، وبجرأة وجاذبية، وبكثافة ووقاحة، فالعمل الفني سيصبح ناجحا رابحا.
– وثمة أصناف هي أشبه ما تكون بالمواشي المعلوفة المحبوسة، التي يتم تسمينها للبيع والإيجار لكل راغب وطالب، سواء فيما يسمى بالدعارة الراقية الغالية، أو في حفلات الجنس الجماعي، أو في الدعارة التقليدية الرخيصة، المتاحة لكل من هب ودب.
– وهناك ما لا يمكن وصفه ولا أصلح أصلا للحديث عنه، من قبيل عالم ما يسمى الصناعة البورنوغرافية والتجارة البورنوغرافية. فتلك أخزى مخازي العصر الحديث، وأقذر ما وصل إليه إذلال المرأة وتبخيسها وتنجيسها.
– وثمة طوائف من «النساء الجدد» لم يسقطن إلى هذه المهاوي والقيعان، ولكنهن مشغولات «ـ كلما خرجن أو هممن بالخروج «ــ» بعرض أشعارهن وصدورهن وفتحاتهن ومؤخراتهن وعطورهن وحليهن…» (انتهى المنقول من كلام الأستاذ قصا ولصقا).
***
من أين جاءت هذه الأمراض والأعطاب والعلل؟ يجيب الأستاذ: «هذه مجرد إشارات وقطرات من «بحر نساء الحداثة»، وما زالت الماكينة تشتغل وتنتج، وما زال شياطين الرجال « وليس النساء « يصممون لهن ويخترعون، ويفتحون عليهن من أبواب جهنم…»».
قوس: لاحظ، أيها القارئ الكريم: «البورنوغرافيا» مجرد إشارات»! وعرض المؤخرات مجرد إشارات»! والدعارة الراقية والتقليدية (وهي قَدَامِيَّة!) مجرد إشارات!…الخ. معنى هذا أننا حين سنتبع هذه الإشارات سنصل إلى مركزها وجوهرها، أي إلى الحداثة. فماذا يعرف الأستاذ من مساوئ أكثر مما ذكر؟ العلم عند الله. (سد القوس).
سأفاجئ القراء وأُسلِّم للأستاذ الريسوني بأنه التقط عناوين بعض مظاهر تشييئ المرأة (التي نناضل نحن الحداثيين العلمانيين ضدها بقوة، من زمان، بعد توصيفها توصيفا علميا برسم حدود الحرية والاختيار فيها، وإعطائها الحجم المناسب, دون أن «نرمي الرضيع مع ماء الغسيل».
ولكني سأفاجئُ أيضا الأستاذَ ( الداعيَ إلى العلم والفكر) بأن ما هو واقف أمامه، في ضواحي مدينة الحداثة، ليس إشارات بل هو مطرح نفايات الحداثة، لقد أخطأ مطار المدينة ونزل بطائرته ضيفا على مزبلتها، شرف الله قدركم. وإن هو ظل عند هذه الحدود فستكون أحكامه على المدينة مجانبة للصواب. فالحكم على الحداثة يقتضي الإحاطة بكل جوانبها، وترتيب مكوناتها في سلم من المفاهيم والقيم يسمح بالحكم، فعالَم الحداثة هو عالم الإنسان: فيه كل ما في الحضارات التي اجتهد في بنائها طبقا عن طبق عبر تاريخه، وإنما يكون الحكم صحيحا بالمقارنة بين النجاحات والإخفاقات. والحضارة تقاس بقدر ما ترفعه عن كاهل الإنسان من الأعباء والإكراهات الطبيعية والاجتماعية.
تنوير: نناقش الأستاذ في هذا المستوى العلمي لأننا نستبعد ـ لمقامه عندنا ـ أن يكون وقوفُه عند مطرح النفايات حالة سيكولوجيا (سوداوية) من قبيل ما وصفه إيليا أبو ماضي حين قال في الشاكي:
ويرى الشَّوك في الورود ويعمى أن يرى فوقَها الندى إكليلا
ففي هذه الحالة سيحتاج فقط أن نقول له: «كنْ جميلا ترَ الوجود جميلا»، مع بعض المهدئات. (سد القوس).
طلب منا الأستاذ، أكرمه الله، أن نتعلم لكي نفهم، وأنا أرد الجميل بمثله، فأطلبُ منه أن يتعلَّمَ بدوره ليعلمَ أن لكل حضارة مَطرحَ نفاياتٍ، ولكل مهنة سلة مهملات. ومن دخل حضارة من مطرح نفاياتها، وظل يُقلِّب في محتوياته، كما قلب الأستاذ، زُكم أنفُه، وتقرحت جفونه، فساءت رؤيتُه وتكدر ذوقه وضَلَّله شمُّه، فالحواسُّ رسلُ العقل وواسطته، ولذلك يحرص الناس على تقويم بصرهم ليحصلوا على رخصة السياقة، والسياقة العلمية بحواس ضالة أخطر، والدليل النقلي عليها أحضر.
لقد عبنا على السيد بنكيران المُماهاةَ بين الحرية والشذوذ الجنسي، وهو منفعل بحملته الانتخابية، ولم نكن نتصور أن نجد هذا النوع من النظر والاعتبار عند أستاذ باحث، فأحرى عند من يُصِرُّ على صفة «فقيه مقاصدي»، ويطلب الاحتكام إلى العلم والفكر. فصفة «عالم» (والمفروض في الفقيه أن يكون عالما، بل عالما مدققا متحرجا) تقتضي دخول الحضارة من بابها الرئيسي، وليس من مطرح نفاياتها، وصفة مقاصدي (وهي شبيهة بصفة «مستقبلي») تنظر إلى مآلات الحضارات، وليس إلى عثراتها وأعطاب طريقها.
فما هو باب الحداثة ومدخلها الذي تجنب الأستاذ الباحث المقاصدي الدخول منه اختيارا لا جهلا؟
مدخل الحداثة، باللغة التي يفهمها جمهور القراء (أي النتيجة والثمار)، هو العلم والتكنولوجيا: العلم والتكنولوجيا حررا الإنسان، وخففا أعباءه، فجعلا مركز القيمة والاعتبار يتحول تدريجيا من العضلات إلى العقول، ومن الحماسة إلى الحكمة. وبذلك قلصَ المسافةَ بين الرجل والمرأة، وتلك محنة الذكور الذين لم يجلسوا مع البنات في صف الدراسة طوال مراحلها، مثلي ومثل الأستاذ الريسوني وباقي التيوس، كما بينت في زمن الطلبة والعسكر، فما بالك بالفاشلين وأشباه الأميين المحترفين للدعوة والمشيخة عن غير أهلية.
لا شك أن الأستاذ لا يحتاج إلى من يحدثه عن فعل التكنولوجيا، لأنه انتقلَ بفضلها من «الخيل والبغال والحمير»، مَركباً وزينةً، إلى ما وعد الله بِخَلْقِه مما «لا تعلمون» («ويخلق ما لا تعلمون»). لقد عَجَزَتِ القدامةُ (التي يفكر فيها الأستاذ تحديدا)، على مدى 14 عشر قرنا، عن تحقيق وعد الله تعالى بذلك الخلق حتى جاءت الحداثة ففعلت بسلطان من الله! أبى الله إلا أن يتحقق وعدُه على يد الحداثيين، الحداثيون هم الذين حرروا الإنسان من إكراهات الطبيعة وظلم أخيه الإنسان، الحداثة هي التي حققت وعد الله للإنسان فمنعت الرق، وفرضت المنع على القَداميين، فانصاعوا لإرادة الله صاغرين. «ولَيَنْصُرنَّ اللهُ الحداثيين» لأنهم نصروه بتحقيق ما وعَد به. ومن «إشارات» نصره لهم أنْ مكنهم من النفوذ «من أقطار السماوات والأرض». فهذه هي إشارات الحداثة وقطراتُها، أيها العزيز. ولو سألتني مثلَما سألتك عما وراء هذه الإشارات لأحلتك على علم الفيزياء، على علماء النانو والفلك بالتحديد، إنهم يتحدثون عن رؤية أخرى للكون توسع أفق معرفتنا به.
لقد انحرفتِ القدامةُ الأصوليةُ عن مجرى تاريخ التحرر البشري (الذي أطلقته الدعوة الإسلامية) بمعاداة تلك الأصولية العاجزة المرعوبة للعقل مرتين: المرة الأولى حين خنقت الفكر النقدي الاعتزالي والفلسفي وصنعت ركاما من الأحاديث والأخبار الكاذبة التي يشمئز منها العقل ويرفضها القرآن الكريم، والمرة الثانية حين انقلبت (بقيادة الإخوان المسلون والوهابيين) على السلفية المستنيرة التي حاولت اكتشاف صيغة للتعايش بين القيم الإسلامية الرفيعة وبين القيم الحداثية المتجهة نحو صَوْنِ كرامة الإنسان باعتباره إنسانا، الكرامة المتأصلة فيه». لقد نجح الأصوليون في تحويل القول بِـ»التوحيد والعدل» إلى تهمة، في العصر القديم، وتحويل «العقل والحرية» إلى مذمة وتهمة في العصر الحديث. والنتيجة المترتبة في الحالتين هي هيمنة الفقه البدوي المنتج للخوارج والدواعش، ونتيجة النتيجة اضطهادُ المرأة باعتبارها (في مجتمع البداوة المشوه) الحلقةَ الضعيفة (محرومة من التعليم ومثقلة وحدها بالأسرة): نفس الآلة تنتج نفس المحصول.
***
أتساءل دائما (مع أصدقاء من شمال المغرب وجنوبه وشرقه) عن الخطوات التي خَطَتْها القدامة في اتجاه تحرر أهل قريتي، والقرى المجاورة لها على طول وادي درعة وعلى امتداد جبال الأطلس إلى الريف شمالا والصحراء إلى شنقيط جنوبا على مدي 14 عشر قرنا؟
فإلى حدود خمسينيات القرن الماضي مازال بعضُ سكان هذه المناطق (من المتوسط إلى نهر السنيغال) يستعملون الأدوات البدائية التي تركها لهم أجدادهم منذ ثلاثة ألاف سنة. كل ما في البيوت رحى ومهراز، وحصير من سعف النخل، وطبق من نفس السعف، وفي القرية كلها شخصان يحفظان القرآن ولا يفهمانه، أحدهما يُصلي بالناس فيقرأ خطبة الجمعة من مخطوط عتيق، ابن نباتة. أكثر من ذلك رأيت في القرية من الجيران من مازال يشعل النار بقدح الزناد، ويحفظُ الجمرةَ لِغَدِهِ في رَمَاد.
المطلوب من أمثالك، أيها العالم المقاصدي! إتيانُ البُيوت من أبوابها: أي النظر في السياقات والمآلات: السياق والمجريات يقولان بأن المرأة خرجت مع الحداثة من زمن ابن خلدون، زمن الشوكة والغلبة والعصبية، إلى زمن تضع فيه صَوْتَها في صُندوقٍ وتنصرف مَزهوة، ومن زمن العضلات إلى زمن الآلات. المرأة تستطيع اليوم أن ترسل صاروخا من مكتب في عمارة، أو طائرة في السماء فتشتت فيلقا من «التيوس»، كما تستطيع أن تطلق أنبوبا بمنظار (فيبروسكوبي، أو كولونوسكبي) ليتجول في أمعاء شيخ وقور بلحية عريضة طويلة، وهو ساكن مثل حمل مرعوب، يحملق في تنورتها البيضاء ولا يصدق.
هذا عن السياق والمسار الذي لا راد لقدره، ما شاء الله فعله. أما بالنظر في المآلات ـ وخواتم الأمور ـ فنجد أن المجتمعات الأكثر تأنيثا اليوم، مثل دول شمال أوروبا وألمانيا، وجهات ومدن من الولايات المتحدة، هي المدن التي تسود فيها القيم الإنسانية السامية، في حين تسود الوحشية والهمجية في المجتمعات الأكثر ذكورية، وأنت تعرفها، وأتمنى ألا تتصالح معها بأي ثمن! يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
عشتُ شهرين من أسعد أيام حياتي (الصيف الماضي) في مدينتين مؤنثتين: هل تعرف ما الذي بهرني فيهما؟ بهرني خلوهما من «الذباب» والكذب، الذباب الطائر والذباب الزاحف على بطنه، والذباب الذي يمشي على رجلين، الكذب الصريح الوقح والكذب المقنع والمنافق…الخ. وأنت تعلم أن حياتنا مُرة ومنغصة بالذباب والكذب. الناس في هذه المدن لا يفكرون في السرقة، في كل صباح نجد المشتريات بأبواب الشقق، أو مرمية ببهو العمارة، أو حتى في مدخلها من الخارج. لا أحد يفكر في أخذ ما ليس له. هذا رأيتُه في مدينة على بعد 14 ساعة طيران من عالم العرب والمسلمين (إلى الغرب)، وفي مدينة أخرى رابضة في السفح الشمالي لجبال البرانس. في المدينة الأولى لم أرَ طوالَ شهر غير ثلاثة مدخنين منعزلين في مكان محاط بسياج، ولم أر شرطيا ولا دركيا (وقد قطعت مئات الكيلومترات في طول الولاية وعرضها)، رأيت حراس الحدائق والغابات (الرينجرز)، لم أرَ ورقةً ساقطة على الأرض ولا قطعة بلاستيك، لا في المدينة ولا في البادية والغابة. في الحداثة هناك التربية وهناك القانون الذي لا يعرف التدخلات، إذا نَسيتَ الدرسَ عالجَكَ القانونُ، ألف دولار لرمي القمامة في الغابة، تجدها مكتوبة أمامك في كل منعرج. هذه إشارات وقطرات مرئية معاشة من السعادة التي حققتها الحداثة للإنسان في أكثر أماكنها تجليا وممارسة، ولو فتح الباب للعرب والمسلمين لنزحوا رجالا ونساء كالنمل إلى أكثر البلاد حداثة، ولا يبقي في بلاد العرب غير الذباب والكذابين.
***
الآن نعود لاختبار المنهج الذي اتبعته في إدانة الحداثة، ونسألك هل تقبل نتائج تطبيقه على القدامة؟ ما دُمت تتحدى فالأكيد أنك ستقبل، لأنك تعلم ــ حسب ظني ـــ أن من شروط المنهج العلمي أن تكون نتائجه قابلة للتعميم، وللاختبار والدحض أيضا. نبدأ من الجزء، من إحدى أغرب «أفكارك» التي تحديتنا بها، وهي سَحْبُ حال بعض الفنانات على الحداثة حيث قلت:
«وهناك صنف مدلل [صنف من نساء الحداثة]، ولكنه مبتذل، وهو صنف «الفنانات « [انتبه!: يقول الفنانات على الإطلاق]، ويخصص غالبا لتجميل «الفنون» القبيحة الرديئة وستر قبحها ورداءتها، فمتى ما حضرت فيها أجساد النساء بمختلف استعمالاتها، وبجرأة وجاذبية، وبكثافة ووقاحة، فالعمل الفني سيصبح ناجحا رابحا».
انتبه جيدا! يتحدث الأستاذ هنا عن صنف من «نساء الحداثة»، صنف من «المرأة الجديدة»، وهو «الفنانات» على الإطلاق والاستغراق، وليس عن «صنف من الفنانات». إذا فهمت غير هذا فقد وقعت في الفخ، ولزمك إعادة القراءة.
هذا تعميم مُخِل، أنتجَ حكما فاسدا. من الأكيد أن هناك مغنيات بمواهب صوتية ضعيفة، أو منعدمة، استسمن بعض المضاربين في مجال الفن جاذبية أجسادهن، وأعملوا فيها مشرط الجراح أحيانا، كما استعملوا المؤثرات الصوتية والحركية لترويج بضاعتهم لدى فئة من المتلقين خاصة. ولكن هذا لا يمثل بالنسبة للفن، في كل عصر، غير العرض والمرض والهامش، متدرجا في البعد عن جوهره إلى أن يصير نفايةً ووسخاً لا يُعتد به، هذه تركيبة الأجسام الحية: هناك الجوهر، وهناك العرض والمرض والنفايات. والعبرة بالجوهر.
وإذا جاز أن نُحكِّم الهامشي والعارض والمهمل والنفاية فسنجد في الفقهاء وأصحاب الزوايا والطوائف الدينية من العلل والانحرافات، والنفايات ما يُحَوِّل مُجتمعَ الفقهاء ـــ حسب منهجكم ـــ إلى عالم من الشياطين، نعوذ بالله من أن نُسلِّم بهذه النتيجة، لأننا على يقين من أن المنهج الموصل إليها فاسد. إذا شئتَ أمثلة من العصر الحاضر فاسأل عن «الفقهاء» (أئمةُ مساجدَ وكتاتيبَ في الغالب) المحالين على المحاكم (حاليا، وخلال السنوات الماضية) بتهمة هتك عرض أطفال كانوا أمانة عندهم، وهتك حرمات سيدات غَرَّروا بهن (ومدخلهم أحيانا الرقية الشرعية والبركة الربانية)، وإن شئت من الماضي فاسأل رواد المدارس العتيقة والكتاتيب الملحقة بالمساجد في كل البوادي المغربية، واسأل الفقيه اليوسي عن العكاكزية، وكيف تتم العضوية في زاويتهم؟! هل تشك في شهادة الشيخ اليوسي، وقد تحدى بها المولى إسماعيل جبار جبابرة المغرب؟!،…الخ. وهل في التاريخ جَسدٌ مريض مرض جهاز القضاء عبر التاريخ، وكان بعضٌ من الفقهاء داءَه وعلتَه. وقد اشتهروا بأكل مال اليتامي حتى قال فيهم الناظم:
أتَرى القاضيَ أعمى، أم تراه يتعامى؟!
أكلَ العيدَ! كأن العيد أموال اليتامي!
دعْنا نَخرجُ من هذا النكد الذي يُوجع القلبَ، ونأخذُ مِثالاً عاميا فيه شيء من الهزل والكاريكاتير، ولكنه دال: لو عَرَّفنا الإنسان اعتمادا على نفاياته (البراز والبول والعرق…)، وزوائده (أظافره وما فَقَدَ وظيفتَه من شعره…وأوهامه وحماقاته)، وعوارضه (أمراضه البدنية والنفسية وأحوال ضعفه)، فأيُّ فُرصة نتركها له لكي يتفوق على الكلب الذي نبدأ بإخلاصه، والجمل الذي نبدأ بصبره، والحمار الذي نبدأ بذاكرته…الخ؟
هذا عن «الفكرة» الجزئية، أما التجريب على «جذع أفكارك»، وأساس أحكامك» فيقتضي أن نُحصي لك نفايات القدامة ونرميها (كما فعلت أنت مع الحداثة) في وجه الحضارات القديمة لتوسيخ صورتها في عيون المغفلين. وهذا ما يفعله بعض الحاقدين على الإسلام، أو المدفوعين إلى هذا الحقد نتيجة عنف الخطاب الأصولي الإقصائي. نظرتي مختلفة عن نظرتكما: أنا اعتبر الدعوة الإسلامية دعوة حرية (ممثلة في الوحدانية ورفض الوسيط، أي الصنم)، وعدل (أي تكافؤ الفرص والجزاء من جنس العمل)، وتكافل (رحمة/إحسان). ولا أُمَاهِي بينها وبين إفرازات المجتمعات التي نشأت في سياقها وتحت شعارها، ولا أواخذها بالفقه المتخلف عن مقاصدها.
***
في التقويم العام لما سبق الحديث عنه، وفي إطار النص ككل، نسجل ملاحظتين:
1) تبين التحليلات والأمثلة المقدمة في هذا البحث (الذي أضاع علي راحة يوم الأحد 28/12/2014) أن الأستاذ لم يقم بعمل علمي، بل نظم قصيدة هجائية من الصنف الذي مارسه جرير والفرزدق، أي: «قَلْبُ المعاني من السلب إلى الإيجاب والعكس». لقد نظر إلى الموضوع من منظور انفعالي، لا من منظور عقلي نقدي، كما ادعى. ونظرا لأنه لم يكن شاعرا موهوبا (كما هو حالي) فقد جاءت هجائيته زخرفا لفظيا من عنوانها («الحداد على امرأة الحداد») إلى آخر كلمة فيها. لقد اعتقد أن الموازنات الصوتية تشتغل بالتراكم وحده فراكمها بطريقة متكلفة. وعندنا دواء هذا المزلق البلاغي في كتاب: تحليل الخطاب، البنية الصوتية. فَلْ ليعُدْ إليه مأجورا.
2) تُعطي القراءةُ الحجاجيةُ لـمـُجمل المقال نتيجةً غير َالتي حاولَ الأستاذُ صرف الانتباه عنها ببعض الألفاظ العابرة، فهو ليس خائفا ــ كما أعلن ـــ على فشل مسعى السلفيين المستنيرين (الحَداد وعلال الفاسي وبنعاشور والحجوي) لتحرير المرأة المسلمة عبر تحديثها بالتعليم والعمل، بل يقول «لجمهور خاص»: ها أنتم ترون مصير أي محاولة للإصلاح من داخل المرجعية الإسلامية في اتجاه الحداثة وفي إطار مفاهيمها، إنه الفشل! فالحداثة ملوثة، لا تنتج إلا ما رأيتم: تشيئ المرأة وتحولها إلى سلعة. وإن لم نُغلق باب الإصلاح في هذا الاتجاه سنضيع الوقت كما أضاعه هؤلاء الرجال «الطيبون» الذين أَعْشَتْ أبصارَهم أنوارُ الحداثة الخادعة، فأخطأوا في طرح السؤال حين قالوا: «لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟».
أخطأوا في السؤال فكان الجواب مخيبا! والجواب الصحيح هو: نحن لسنا متخلفين عن الحداثة، بل نحن مختلفون عنها. هذا هو فحوى خطاب الشيخ ولازم معناه، والنتيجة هي اللقاء الموضوعي مع الدواعش/ خوارج العصر الحديث! ومع أكثر السلفيين تزمتا، أولئك الذي يتمسكون بكل تفاصيل شكليات الحياة في القرن الأول الهجري، ويتمرغون في خيرات الحداثة التي سخرها الله لهم، كما قال أحدهم.
يبقى هناك سؤال: ماهي العلاقة بين الهجوم على «نساء الحداثة» وبين دعوة السادة القادة: أردوكان وبنكيران والريسوني، ومن يطبل لهم، إلى عودة المرأة إلى البيت للإنجاب والتربية والزينة (الثريات)؟ سؤال يطلب جوابا.
ذيل وتكملة: الطائرة الثانية
لعل القارئ المتيقظ ما زال يتساءل عن مصير الطائرة التي أسقطها الأستاذ في فندقٍ بالإمارات العربية بعد أن أسلم قيادتها لطيار مجهول الهوية، وبدون صندوق أسود. فالإمارات العربية لم تبادر للسؤال عنها كما سألتْ سفارة المكسيك عن طائرة الوزير الخلفي، الناطق باسم الحكومة المغربية، الذي أسقط طائرة في «ماخورٍ في المكسيك»، لا ندري بأي رادار حدد موقعه من داخل «حمام المحترمين». قال الأستاذ الريسوني على طريقة أهل الحديث:
«حدثنا أحد الأصدقاء قبل أيام أنه كان في سفر طويل، توقف خلاله بمدينة دبي الإماراتية. وأُخذ مع غيره من المسافرين إلى فندق لقضاء الليلة، ثم العودة لاستئناف السفر. وصل إلى غرفته، فتوضأ وصلى، ثم ذهب لينام، وإذا بأحد يطرق باب غرفته. أطلَّ صاحبنا من ثقب الباب، فإذا فتاة مزينة بكل ما تستطيعه هي التي تطرق عليه الباب. تركها حتى انصرفت، ثم نزل إلى «الاستقبال»، يخبرهم ويستفسرهم, فأخرج له الموظفُ الاستمارةَ التي سبق له ملؤها باللغة الإنجليزية، قائلا له: عندك هنا خانة «خدمات خاصة»، وأنت لم تكتب عليها «لا»، فلذلك أرسلنا لك هذه المرأة للمبيت عندك…».
ينتمي هذا النُّصيص بلاغيا إلى «الاستطراد»، وهو يُستعمل أكثرَ ما يُستعمل في الهجاء، وقوامه أن تكون في موضوع وتعرج منه على موضوع آخر لهجاءٍ يبدو غير مقصود. وهو، أي النُّصيص، يُثير شهية محلل الخطاب الإقناعي في مستويات بلاغية عدة: لسانية، ونفسية، وسياقية …الخ، ولكن الوقت انتهى، كما يقول الصحفيون. سأكتفي بطرح أسئلة:
1) لماذا الإصرار على تحديد معطيات (دبي الإماراتي)، وإخفاء أخرى («أحد الأصدقاء»، «غيره من المسافرين»، «فندق»). فإذا كان الغرضُ ضربَ مثل لعيوب الحداثة، فلا حاجة لذكر البلد، كما لم يذكر الصديق والفندق وطبيعة المسافرين واتجاههم، وإذا كان الغرض هو لمز البلد فلن يثبت ذلك إلا بالتوثيق! وإلا سقط الأستاذ في هجاء مجاني كهجائه للحداثة .
2) ما هي وظيفة الحشو الزائد على مُتَطَلَّباتِ السياق في قوله « فتوضأ وصلى». فهذا تحصيل حاصل إلى أن يكشف لنا الغرض منه.
أما قضية ثقب الباب والاستمارة فتفاصيل يقتضي تصديقُها ذكرَ المؤسسة التي توجد بها هذه المواصفات التي تبدو غريبة عن الفنادق التي تملكها شركات الطيران أو تتعاقد معها: إن توجيه تهمة البروكسينيزم (لا تترجمْها من فضلك!!) إلى مؤسسة ودولة أثقلُ من أن يستطرد إليها من يتقي الله، ويخشى لقاءه، ويرسلها على حناحِ «حدثنا أحد…»!!
لفد ربط المتلقون بسرعة بين هذا الاستطراد المجاني إلى الهجاء، وبين سابقةٍ (فتوى) افترضوا أنها مصنوعة بدورها، لأن المستفتي مجهول وبين إدراج اسم الأستاذ في لائحة الإرهابيين من قبل الإمارات (مع أعضاء من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين). الذي يهمني أنا من هذا الاستطراد هو بيان استسلام الأستاذ للانفعال في الحالتين، في الحالتين كان تحت ضغط يمنع التفكير الموضوعي المحايد. (وأنا معه في تجريم التدخين في الأماكن العمومية، واعتبار موقف الحكومة، وهي تجمد القانون الخاص به وبكلاب البيتبول من سنوات، موقفا متخاذلا، بل متآمرا على صحة المواطنين).
من المؤسف أن خطاب ذ الريسوني (مثل خطاب الشيخ بنحمزة ومن يدورون في فلكيهما من المقسطين والمنفذين) يزرع الألغام في كل المنطقة الممكنة للتعاون (ولو مرحليا) بين العلمانيين والدينسيين. ومِنْ ضِمْن هذه المنطقة تشييئُ المرأة، وتلويثُ الحياة والبيئة بالذباب والكذب. يشعلون الفتنة فيتصارع العلمانيون والدينسيون، وحين يُرهقُ بعضُهم بعضا يَكُرُّ عليهم طرف ثالث لا تهمه النظافة ولا الصدق، فيأتي على الأخضر واليابس.
وهذا المنحى هو الذي يُفسرُ انزياحَ الأستاذ عن سؤال الصحفي الذي دعاه إلى التفكير في هذه المنطقة، وهذا نصه: «أثار مقالك المعنون بِـ»الحِداد على امرأة الحَداد» غضبَ المنظمات النسائية في المغرب، فوصفتك بعض الناشطات بالفقيه الذي يَمْتَحُ من مرجعية متخلفة ورجعية. ألم يكن أجدر بك أن تنأى عن هذا النقاش، خصوصا أن المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم العربي تقتضي تعبئة الحداثيين والأصوليين لمواجهة أخطار الإرهاب، والانقلاب على نتائج الربيع العربي، وأشكال الاستعمار الجديد؟».
فلا نتصور أن الأستاذ لم يفهم السؤال!
< (توضيح: إسقاط الطائرات يعني عندنا التعسف، وليس الكذب. وقد تعسف الأستاذ كثيرا في «تنزيل» الطائرة الأولى، وتسامح كثيرا في ضبط السند في «تنزيل» الطائرة الثانية، والله أعلم).
هذا عن السياق والمسار الذي لا راد لقدره، ما شاء الله فعله. أما بالنظر في المآلات ـ وخواتم الأمور ـ فنجد أن المجتمعات الأكثر تأنيثا اليوم، مثل دول شمال أوروبا وألمانيا، وجهات ومدن من الولايات المتحدة، هي المدن التي تسود فيها القيم الإنسانية السامية، في حين تسود الوحشية والهمجية في المجتمعات الأكثر ذكورية، وأنت تعرفها، وأتمنى ألا تتصالح معها بأي ثمن! يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
عشتُ شهرين من أسعد أيام حياتي (الصيف الماضي) في مدينتين مؤنثتين: هل تعرف ما الذي بهرني فيهما؟ بهرني خلوهما من «الذباب» والكذب، الذباب الطائر والذباب الزاحف على بطنه، والذباب الذي يمشي على رجلين، الكذب الصريح الوقح والكذب المقنع والمنافق…الخ. وأنت تعلم أن حياتنا مُرة ومنغصة بالذباب والكذب. الناس في هذه المدن لا يفكرون في السرقة، في كل صباح نجد المشتريات بأبواب الشقق، أو مرمية ببهو العمارة، أو حتى في مدخلها من الخارج. لا أحد يفكر في أخذ ما ليس له. هذا رأيتُه في مدينة على بعد 14 ساعة طيران من عالم العرب والمسلمين (إلى الغرب)، وفي مدينة أخرى رابضة في السفح الشمالي لجبال البرانس. في المدينة الأولى لم أرَ طوالَ شهر غير ثلاثة مدخنين منعزلين في مكان محاط بسياج، ولم أر شرطيا ولا دركيا (وقد قطعت مئات الكيلومترات في طول الولاية وعرضها)، رأيت حراس الحدائق والغابات (الرينجرز)، لم أرَ ورقةً ساقطة على الأرض ولا قطعة بلاستيك، لا في المدينة ولا في البادية والغابة. في الحداثة هناك التربية وهناك القانون الذي لا يعرف التدخلات، إذا نَسيتَ الدرسَ عالجَكَ القانونُ، ألف دولار لرمي القمامة في الغابة، تجدها مكتوبة أمامك في كل منعرج. هذه إشارات وقطرات مرئية معاشة من السعادة التي حققتها الحداثة للإنسان في أكثر أماكنها تجليا وممارسة، ولو فتح الباب للعرب والمسلمين لنزحوا رجالا ونساء كالنمل إلى أكثر البلاد حداثة، ولا يبقي في بلاد العرب غير الذباب والكذابين.
***
الآن نعود لاختبار المنهج الذي اتبعته في إدانة الحداثة، ونسألك هل تقبل نتائج تطبيقه على القدامة؟ ما دُمت تتحدى فالأكيد أنك ستقبل، لأنك تعلم ــ حسب ظني ـــ أن من شروط المنهج العلمي أن تكون نتائجه قابلة للتعميم، وللاختبار والدحض أيضا. نبدأ من الجزء، من إحدى أغرب «أفكارك» التي تحديتنا بها، وهي سَحْبُ حال بعض الفنانات على الحداثة حيث قلت:
«وهناك صنف مدلل [صنف من نساء الحداثة]، ولكنه مبتذل، وهو صنف «الفنانات « [انتبه!: يقول الفنانات على الإطلاق]، ويخصص غالبا لتجميل «الفنون» القبيحة الرديئة وستر قبحها ورداءتها، فمتى ما حضرت فيها أجساد النساء بمختلف استعمالاتها، وبجرأة وجاذبية، وبكثافة ووقاحة، فالعمل الفني سيصبح ناجحا رابحا».
انتبه جيدا! يتحدث الأستاذ هنا عن صنف من «نساء الحداثة»، صنف من «المرأة الجديدة»، وهو «الفنانات» على الإطلاق والاستغراق، وليس عن «صنف من الفنانات». إذا فهمت غير هذا فقد وقعت في الفخ، ولزمك إعادة القراءة.
هذا تعميم مُخِل، أنتجَ حكما فاسدا. من الأكيد أن هناك مغنيات بمواهب صوتية ضعيفة، أو منعدمة، استسمن بعض المضاربين في مجال الفن جاذبية أجسادهن، وأعملوا فيها مشرط الجراح أحيانا، كما استعملوا المؤثرات الصوتية والحركية لترويج بضاعتهم لدى فئة من المتلقين خاصة. ولكن هذا لا يمثل بالنسبة للفن، في كل عصر، غير العرض والمرض والهامش، متدرجا في البعد عن جوهره إلى أن يصير نفايةً ووسخاً لا يُعتد به، هذه تركيبة الأجسام الحية: هناك الجوهر، وهناك العرض والمرض والنفايات. والعبرة بالجوهر.
وإذا جاز أن نُحكِّم الهامشي والعارض والمهمل والنفاية فسنجد في الفقهاء وأصحاب الزوايا والطوائف الدينية من العلل والانحرافات، والنفايات ما يُحَوِّل مُجتمعَ الفقهاء ـــ حسب منهجكم ـــ إلى عالم من الشياطين، نعوذ بالله من أن نُسلِّم بهذه النتيجة، لأننا على يقين من أن المنهج الموصل إليها فاسد. إذا شئتَ أمثلة من العصر الحاضر فاسأل عن «الفقهاء» (أئمةُ مساجدَ وكتاتيبَ في الغالب) المحالين على المحاكم (حاليا، وخلال السنوات الماضية) بتهمة هتك عرض أطفال كانوا أمانة عندهم، وهتك حرمات سيدات غَرَّروا بهن (ومدخلهم أحيانا الرقية الشرعية والبركة الربانية)، وإن شئت من الماضي فاسأل رواد المدارس العتيقة والكتاتيب الملحقة بالمساجد في كل البوادي المغربية، واسأل الفقيه اليوسي عن العكاكزية، وكيف تتم العضوية في زاويتهم؟! هل تشك في شهادة الشيخ اليوسي، وقد تحدى بها المولى إسماعيل جبار جبابرة المغرب؟!،…الخ. وهل في التاريخ جَسدٌ مريض مرض جهاز القضاء عبر التاريخ، وكان بعضٌ من الفقهاء داءَه وعلتَه. وقد اشتهروا بأكل مال اليتامي حتى قال فيهم الناظم:
أتَرى القاضيَ أعمى، أم تراه يتعامى؟!
أكلَ العيدَ! كأن العيد أموال اليتامي!
دعْنا نَخرجُ من هذا النكد الذي يُوجع القلبَ، ونأخذُ مِثالاً عاميا فيه شيء من الهزل والكاريكاتير، ولكنه دال: لو عَرَّفنا الإنسان اعتمادا على نفاياته (البراز والبول والعرق…)، وزوائده (أظافره وما فَقَدَ وظيفتَه من شعره…وأوهامه وحماقاته)، وعوارضه (أمراضه البدنية والنفسية وأحوال ضعفه)، فأيُّ فُرصة نتركها له لكي يتفوق على الكلب الذي نبدأ بإخلاصه، والجمل الذي نبدأ بصبره، والحمار الذي نبدأ بذاكرته…الخ؟
هذا عن «الفكرة» الجزئية، أما التجريب على «جذع أفكارك»، وأساس أحكامك» فيقتضي أن نُحصي لك نفايات القدامة ونرميها (كما فعلت أنت مع الحداثة) في وجه الحضارات القديمة لتوسيخ صورتها في عيون المغفلين. وهذا ما يفعله بعض الحاقدين على الإسلام، أو المدفوعين إلى هذا الحقد نتيجة عنف الخطاب الأصولي الإقصائي. نظرتي مختلفة عن نظرتكما: أنا اعتبر الدعوة الإسلامية دعوة حرية (ممثلة في الوحدانية ورفض الوسيط، أي الصنم)، وعدل (أي تكافؤ الفرص والجزاء من جنس العمل)، وتكافل (رحمة/إحسان). ولا أُمَاهِي بينها وبين إفرازات المجتمعات التي نشأت في سياقها وتحت شعارها، ولا أواخذها بالفقه المتخلف عن مقاصدها.
***
في التقويم العام لما سبق الحديث عنه، وفي إطار النص ككل، نسجل ملاحظتين:
1) تبين التحليلات والأمثلة المقدمة في هذا البحث (الذي أضاع علي راحة يوم الأحد 28/12/2014) أن الأستاذ لم يقم بعمل علمي، بل نظم قصيدة هجائية من الصنف الذي مارسه جرير والفرزدق، أي: «قَلْبُ المعاني من السلب إلى الإيجاب والعكس». لقد نظر إلى الموضوع من منظور انفعالي، لا من منظور عقلي نقدي، كما ادعى. ونظرا لأنه لم يكن شاعرا موهوبا (كما هو حالي) فقد جاءت هجائيته زخرفا لفظيا من عنوانها («الحداد على امرأة الحداد») إلى آخر كلمة فيها. لقد اعتقد أن الموازنات الصوتية تشتغل بالتراكم وحده فراكمها بطريقة متكلفة. وعندنا دواء هذا المزلق البلاغي في كتاب: تحليل الخطاب، البنية الصوتية. فَلْ ليعُدْ إليه مأجورا.
2) تُعطي القراءةُ الحجاجيةُ لـمـُجمل المقال نتيجةً غير َالتي حاولَ الأستاذُ صرف الانتباه عنها ببعض الألفاظ العابرة، فهو ليس خائفا ــ كما أعلن ـــ على فشل مسعى السلفيين المستنيرين (الحَداد وعلال الفاسي وبنعاشور والحجوي) لتحرير المرأة المسلمة عبر تحديثها بالتعليم والعمل، بل يقول «لجمهور خاص»: ها أنتم ترون مصير أي محاولة للإصلاح من داخل المرجعية الإسلامية في اتجاه الحداثة وفي إطار مفاهيمها، إنه الفشل! فالحداثة ملوثة، لا تنتج إلا ما رأيتم: تشيئ المرأة وتحولها إلى سلعة. وإن لم نُغلق باب الإصلاح في هذا الاتجاه سنضيع الوقت كما أضاعه هؤلاء الرجال «الطيبون» الذين أَعْشَتْ أبصارَهم أنوارُ الحداثة الخادعة، فأخطأوا في طرح السؤال حين قالوا: «لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟».
أخطأوا في السؤال فكان الجواب مخيبا! والجواب الصحيح هو: نحن لسنا متخلفين عن الحداثة، بل نحن مختلفون عنها. هذا هو فحوى خطاب الشيخ ولازم معناه، والنتيجة هي اللقاء الموضوعي مع الدواعش/ خوارج العصر الحديث! ومع أكثر السلفيين تزمتا، أولئك الذي يتمسكون بكل تفاصيل شكليات الحياة في القرن الأول الهجري، ويتمرغون في خيرات الحداثة التي سخرها الله لهم، كما قال أحدهم.
يبقى هناك سؤال: ماهي العلاقة بين الهجوم على «نساء الحداثة» وبين دعوة السادة القادة: أردوكان وبنكيران والريسوني، ومن يطبل لهم، إلى عودة المرأة إلى البيت للإنجاب والتربية والزينة (الثريات)؟ سؤال يطلب جوابا.
«حدثنا أحد الأصدقاء قبل أيام أنه كان في سفر طويل، توقف خلاله بمدينة دبي الإماراتية. وأُخذ مع غيره من المسافرين إلى فندق لقضاء الليلة، ثم العودة لاستئناف السفر. وصل إلى غرفته، فتوضأ وصلى، ثم ذهب لينام، وإذا بأحد يطرق باب غرفته. أطلَّ صاحبنا من ثقب الباب، فإذا فتاة مزينة بكل ما تستطيعه هي التي تطرق عليه الباب. تركها حتى انصرفت، ثم نزل إلى «الاستقبال»، يخبرهم ويستفسرهم, فأخرج له الموظفُ الاستمارةَ التي سبق له ملؤها باللغة الإنجليزية، قائلا له: عندك هنا خانة «خدمات خاصة»، وأنت لم تكتب عليها «لا»، فلذلك أرسلنا لك هذه المرأة للمبيت عندك…».
ينتمي هذا النُّصيص بلاغيا إلى «الاستطراد»، وهو يُستعمل أكثرَ ما يُستعمل في الهجاء، وقوامه أن تكون في موضوع وتعرج منه على موضوع آخر لهجاءٍ يبدو غير مقصود. وهو، أي النُّصيص، يُثير شهية محلل الخطاب الإقناعي في مستويات بلاغية عدة: لسانية، ونفسية، وسياقية …الخ، ولكن الوقت انتهى، كما يقول الصحفيون. سأكتفي بطرح أسئلة:
1) لماذا الإصرار على تحديد معطيات (دبي الإماراتي)، وإخفاء أخرى («أحد الأصدقاء»، «غيره من المسافرين»، «فندق»). فإذا كان الغرضُ ضربَ مثل لعيوب الحداثة، فلا حاجة لذكر البلد، كما لم يذكر الصديق والفندق وطبيعة المسافرين واتجاههم، وإذا كان الغرض هو لمز البلد فلن يثبت ذلك إلا بالتوثيق! وإلا سقط الأستاذ في هجاء مجاني كهجائه للحداثة .
2) ما هي وظيفة الحشو الزائد على مُتَطَلَّباتِ السياق في قوله « فتوضأ وصلى». فهذا تحصيل حاصل إلى أن يكشف لنا الغرض منه.
أما قضية ثقب الباب والاستمارة فتفاصيل يقتضي تصديقُها ذكرَ المؤسسة التي توجد بها هذه المواصفات التي تبدو غريبة عن الفنادق التي تملكها شركات الطيران أو تتعاقد معها: إن توجيه تهمة البروكسينيزم (لا تترجمْها من فضلك!!) إلى مؤسسة ودولة أثقلُ من أن يستطرد إليها من يتقي الله، ويخشى لقاءه، ويرسلها على حناحِ «حدثنا أحد…»!!
لفد ربط المتلقون بسرعة بين هذا الاستطراد المجاني إلى الهجاء، وبين سابقةٍ (فتوى) افترضوا أنها مصنوعة بدورها، لأن المستفتي مجهول وبين إدراج اسم الأستاذ في لائحة الإرهابيين من قبل الإمارات (مع أعضاء من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين). الذي يهمني أنا من هذا الاستطراد هو بيان استسلام الأستاذ للانفعال في الحالتين، في الحالتين كان تحت ضغط يمنع التفكير الموضوعي المحايد. (وأنا معه في تجريم التدخين في الأماكن العمومية، واعتبار موقف الحكومة، وهي تجمد القانون الخاص به وبكلاب البيتبول من سنوات، موقفا متخاذلا، بل متآمرا على صحة المواطنين).
من المؤسف أن خطاب ذ الريسوني (مثل خطاب الشيخ بنحمزة ومن يدورون في فلكيهما من المقسطين والمنفذين) يزرع الألغام في كل المنطقة الممكنة للتعاون (ولو مرحليا) بين العلمانيين والدينسيين. ومِنْ ضِمْن هذه المنطقة تشييئُ المرأة، وتلويثُ الحياة والبيئة بالذباب والكذب. يشعلون الفتنة فيتصارع العلمانيون والدينسيون، وحين يُرهقُ بعضُهم بعضا يَكُرُّ عليهم طرف ثالث لا تهمه النظافة ولا الصدق، فيأتي على الأخضر واليابس.
وهذا المنحى هو الذي يُفسرُ انزياحَ الأستاذ عن سؤال الصحفي الذي دعاه إلى التفكير في هذه المنطقة، وهذا نصه: «أثار مقالك المعنون بِـ»الحِداد على امرأة الحَداد» غضبَ المنظمات النسائية في المغرب، فوصفتك بعض الناشطات بالفقيه الذي يَمْتَحُ من مرجعية متخلفة ورجعية. ألم يكن أجدر بك أن تنأى عن هذا النقاش، خصوصا أن المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم العربي تقتضي تعبئة الحداثيين والأصوليين لمواجهة أخطار الإرهاب، والانقلاب على نتائج الربيع العربي، وأشكال الاستعمار الجديد؟».
فلا نتصور أن الأستاذ لم يفهم السؤال!
3يناير 2015