ونحن نقف على تخوم عام جديد، ونودّع آخر لا يمكن لنا إلا أن نفعل كما كل البشر!
ففي مثل هذه الأيام مِنْ كلّ عامٍ، يفرض التاريخ على الجمّ الغفيرِ منْ سكانِ المعمورَة، أن تتشابهَ أفراحهم وتتشابك طقوسهم، فيمسون ويصبِحون وهم يتبادلون التهاني بالعامِ الجديد، وتراهم يخلعون على بضعة أيامٍ في نهاية كلّ عامٍ، رِداء مِن الاحتفالية المزركشَة بكلّ غريب وفريد، لعلها تحمل إليهم ـ ولو وهماً وخِداعاً ـ شيئاً مِن البهجة والمسرّة، وتنسيهم واقِعاً مريراً يعيشونهُ ولو مرّة واحدة في كلّ عامٍ !
فإذا باحتفاليتهم تلك، تبلغ ذروتها في الليلة الأخيرة من السّنة المنقضية، وإذا بهياجهم وهَرَجهم ومَرَجِهم وقد بلغ أوجَه، وإذ بعربدتهم تطاوِل عنان السّماء، فكأنهم قد عادوا أطفالاً من جديد، فلا ساكِن يسكن قلوبَهم حينها، سِوى الرّغبة الجامحة للانفلات من كلّ قيد وتقليد، إلاّ تقليداً واحِداً ليس له ثان، ألا وهو الاحتفال برأسِ السنة والتأهّب لاستقبالِ عامٍ جديد، كانوا وما زالوا يتمنونه مُطِلا عليهم بكلّ مُمَيَزٍ عنْ رفيقِه العامِ المُنصَرِم!
فمِن أمل بأيّامٍ عتيدةٍ تحمل لهم في أحشائِها اليُسر واليُمن والبركة، بدلاً منِ العُسرِ والضّائِقَة والهَوان، ومِن شوقٍ لافح إلى غد تُشرِق شمسه بالأمان والطمأنينة، عوضاً عن الخوفِ والقلقِ، ومنْ حلمٍ وردي بأن يستيقظوا صبيحةَ العامِ المُستجدّ، فإذا بأحوالهم ومعيشتهم تتغير نحو الأفضل!
وكأنها السنوات والأيام تحمل في ذاتِها ألَماً أو فرَحاً، وفرجاً أو ضيقاً، ونجاحاً أو فشلاً!
أو كأنهم الناس بُرءاءُ مِن كلّ ما يمكن أن يأتيهم به العام الجديد، من مفاجآتٍ ـ في نظرِهم ـ وما هي بالمفاجآتِ! وهل العام المنقضي إلاّ إرثاً ثقيلاً أو خفيفاً في أعناقِ الناسِ أجمعين، ولا بدّ سيعود حاملاً إليهم نواياهم وأفكارَهم وشهواتهم وأعمالَهم، فيقضي ما يقضيه، ويُحقّ ما يُحقه طالت الأيام أم قصُرَت!
يخصص البعض للسهرة الأخيرة في كل عام، ميزانية خاصة، تمكّنه من إحضار ما لذ وطاب من أكل وشراب، ولا يخصص من هذه السهرة ساعة واحدة يسترجع فيها ما فعله وأنجزه، أو أين أصاب وأين فشل، ماذا ذكر وماذا نسيَ و…
فكيف بالأحرى لِمَن يزرع الرّيح أنْ يحصُد سوى العاصفة!؟ وهل يقع في ظنّ الناسِ أن يأتيهم عامُهم الجديد بالمنِ والسّلوى، وهميجهدون في زرعِ أيامه ولياليه قبلَ ولادتِها بالإشاعات والنّكايات والمُشاحَناتِ والعصبيّات!؟
فكيف ـ لَعَمري ـ لِمَن يسعى في تجويعِ جارِه أن يطمئِنَّ إلى شِبَعِه في قادِماتِ الأيامِ!؟ وكيفَ لِمَن يجهَد في إذلالِ غيرهِ والحط من كرامتِهِ، أنْ يضمن لِنفسِهِ كرامتها وعزّتَها!؟ أم كيفَ لِمَن يحتالُ لتشريد منافسيه وشركائِه في العيشِ، أن يهنأَ لهُ عيش، أو أن يرتاحَ لهُ بال في العامِ الجديد!؟
بل كيف نركن ونطمئِنّ إلى عالَمٍ كذاك العالَمِ في سنتنا القادمة، أو التي تليها أو التي تأتي بعدَ تاليتِها، وفراعنة الفساد الجُدد يجهدون في ليلِهم ونهارِهم، لتوسيع شقة الطبقية في المجتمع، وتعميق هوّة الأحقادِ بين المواطن وأخيهِ المواطن، وليخلقوا لهُ من حاجاتِ بطنه وظهره غايات مُزيّفة في الحياة، دون غاياته الفعليّة، فيزيدون من اغترابِه عن نفسه ومن حولِه!؟
للأسف الشديد أنّ هؤلاء القلة من الفاسدين، اليوم، يصوّرون لأبناء مجتمعهم، أنّ البُغضَ أخيَر لهم منَ المحبّةِ، وأنَّ الكذب أحلى مغبّة منَ الصّدقِ وأحمدُ عاقبة، وأنَّ الغشَّ والتدليسَ والمحسوبيات، أجدى نفعاً منَ الاستقامة والأمانة، وأنّ العدلَ لا يُصان إلاّ بالقانون، والقانون لا يكون إلاّ على هوى أصحاب الأرصدة الخرافية، فهذه الفئة من الفاسدين، تتصرف بمنتهى الجهلِ والغباءِ! وعالَمها أحقّ بالتعازي منه بالتهاني في العامِ الجديد!
لكني وإن يئِسْت منْ أمثال هؤلاء المفسدين، ما يئِسْتُ يوماً، ولن أيأس مِن الإنسانِ نفسِهِ، الذي ائتمنته الحياة على كلِّ أسرارِها وأودعت فيه جلَّ طاقاتِها، وصاغته أعجوبةَ الوجودِ وغايته، وهيأت لهُ إلى ذلك كله السّبلَ والوسائِلَ لتحقيق ذاتِه والعودة إلى مصدرِه، لأنه من معدن لا يصدأ ونورٍ لا يخبو!
فالعام الجديد يخبرنا، ويريد منا أن نراجع ذواتنا التي أرهقها المرض، وزين لها الأشياء فصارت محور الكون في دهشة من الجنون، وهي لا تعدو أن تكون جسداً متعباً قد يطوله الانتهاك ذات لحظة، فيتحول إلى كومة من دهن وشحم لا تلوي على شيء، وكل ما تملكه نظرة زائفة هنا وهناك ترجو مغفرة من الوجوه المحيطة، وكل الوجوه تغفر إلا تلك الوجوه التي أساء إليها وهي بعيدة عن نظراته الزائغة التي لا تلبث أن تنزل في أقرب حفرة وحيدة أو مع الآخر الذي لا يشعر بها!
فإلى كلّ مَن يعين إنساناً في رحلته الطويلة والشّاقة تلك، وإلى كلّ مَن يكشحُ الظلماتِ عن عقول وقلوب الناس ليُبصِروا طريقَهم القويم، وإلى كلّ مَن يُسهِم في تخفيف عذابات الإنسان في صِراعِه المريرِ مع غرائِزهِ وحاجاتِ بقائِهِ… أقول: ”عاماً سعيداً”.