بعد أربع سنوات من الأزمة السورية تبين أن السلطان التركي الجديد الحالم بعودة الخلافة الإسلامية العتيدة عبر مشروعه ألإخواني, أنه على درجة عالية من الغباء الذي تجلى واضحاً في فهمه للتاريخ والسياسة والدين معاً,
فغباؤه على مستوى التاريخ: تبين بعدم قراءته للتاريخ جيداً, فهو لم يعرف أن أوربة (القوية), هي من خلق المسألة الشرقية في إمبراطورية أجداده إلى أن حولوها لرجل مريض, بعد أن استنزفوا كل مكامن قوتها عبر القروض المالية, وخلق الفتن القومية داخل أراضيها, وتأليب الأقليات الدينية عليها بعد ممارسة أجداده على هذه الأقليات كل وسائل القهر والاضطهاد بسياستهم المليّة القميئة. كما أنه لم يتعلم من تجربة محمد علي باشا الذي حرضه الغرب آنذاك على الخلافة العثمانية حتى أوصلوه إلى حدود الأستانة, وعندما نسي نفسه بأنه صنيعتهم وراح يفكر وأبنه إبراهيم باشا بإقامة دولة قوية بصبغة عربية, بعد أن صرح إبراهيم باشا بها بشكل غير مباشر عندما وصل إلى بلاد الشام عندما خاطب أهلها: (أنا عربي وشمس مصر صبغتني بالصبغة العربية), عندها كانت معاهدة لندن 1840 التي عرف فيها محمد علي باشا قدره ومكانته وحدوده أيضاً. كما أن أردوغان لم يقرأ جيداً تجربة البيت الهاشمي في ما سموه بالثورة العربية الكبرى التي استغلتها أوربة, بل هي من صنعها بقيادة لورنس (العرب) لتفتيت سلطنة أجداده العظماء, فكانت اتفاقية سايكس- بيكو. كما أنه لم يقرأ التاريخ جيداَ كي يعرف كيف اشتغل الغرب على إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين منذ إصلاح مارتن لوثر, مروراً بفشل نابليون بونبرت باحتلال مصر ومروره بسورية واتفاقه مع يهودها حول إقامة دولتهم الموعودة مقابل الوقوف معه ضد بريطانية التي فشل في قطع طريق الهند عليها في مصر, وصولاً إلى وعد بلفور الذي كان المحطة التي كُشفت فيها الحقيقة لأغبياء العرب والمسلمين آنذاك.
أما قراءته لتاريخ تركيا المعاصرة, فهو الأكثر غباءً, حيث لم يجيد قراءة علاقة تركيا الحديثة والمعاصرة مع الغرب وأمريكا, وبخاصة في ضمها للحلف الأطلسي ووعد قادتها السابقين واللاحقين ومنهم هو بالانضمام إلى المجموعة الأوربية… إن الغرب وأوربة قد عرفوا أهمية مكانة تركيا الاستراتيجية من حيث وقوعها على البحر الأسود والمتوسط و وجود البسفور, ثم امتداد حدودها على العديد من الدول التي تشكل مناطق حيوية لمصالح الغرب وأمريكا وعلى رأسها خطوط النفط والغازمن تلك الدول المجاورة لتركيا , لذلك فتركيا بالنسبة لهم هي الأداة التي يمكن أن تسخر للضغط على هذه الدول المجاورة لها, وهذا ما كان تاريخياً منذ الحلف الإسلامي وحلف بغداد حتى هذا التاريخ. فتركيا لم تكن منذ سقوط الخلافة حتى هذا التاريخ سوى أداة بيد الغرب وأمريكا لتحقيق مصالحهم, وما وجود أردوغان وحزبه الإخواني في السلطة إلا بناءً على تحقيق هذه المصالح.
أما غباؤه السياسي: فقد تجلى في توريطه للتدخل في ما سمي ثورات (الربيع العربي), من قبل قطر والسعودية والغرب وأمريكا, وذلك بتحويل تركيا إلى ممر لكل متطرفي الدين الإسلامي في العالم لإسقاط الدولة في سورية والعراق, حيث وجدوا عنده هوى في هذا التدخل أيضا وهو ألإخواني الذي راح يطمح إلى إقامة الخلافة الإسلامية المنهارة على يد أجداده.
إن تدخل أردوغان السافر في شؤون جيرانه في سورية والعراق مع (فئران الأنابيب) من أمراء الخليج تحت ذريعة الديمقراطية والحرية, في الوقت الذي كانت أهداف التدخل معروفة لأمريكا والغرب والكيان الصهيوني وأمراء النفط العربي ذاتهم, وهي القضاء على التواجد الإيراني في المنطقة, ومحاصرة روسيا, وضرب المقاومة, والفسح في المجال واسعاً أمام مصالح الكيان الصهيوني والغرب وأمريكا.
إن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به الكيان الصهيوني أولاً ثم أمريكا والغرب ثانياً, هذا المشروع الذي هلل ورحب به أردوغان عندما قال بان تركيا هي من ستعمل على بناء هذا الشرق الأوسطي الجديد, فمشروعه الشرق أوسطي الطامح إلى بناء شرق إسلامي جديد بروح إخوانية, هو غيره الذي تبشر به القوى الأخرى المعادية للشرق عموماً وهو تفتيت ما تبقى متحداً من العالم العربي والإسلامي في المنطقة بما فيها تركيا. فأمريكا والغرب ليسوا على تلك الدرجة من الغباء الذي يتمتع به أردوغان, فهم لن يسمحوا له أن يقيم خلافة إسلامية بعد أن هدموها سابقاً, لذلك عندما شعروا بأن مشروعه بدأ يأخذ أبعاده مع وصل الإخوان إلى السلطة في مصر وتونس, إضافة لتركيا, بدأوا يظاهرونه العداء من خلال أدواتهم في المنطقة وعلى رأسهم آل سعود, الذين عملوا على إسقاط حكم الإخوان في مصر ووضعوا الإخوان تحت قائمة الإرهاب, وهذا ما قامت به الإمارات.
مع استفحال داعش وإعلانها دولتها في بلاد الشام والعراق وبدء تهديدها مصالح الغرب وأمريكا بالمنطقة, طلبوا من أردوغان التدخل لمقاومة داعش التي أمروه سابقاً أن يقدم لها كل الدعم اللوجستي لضرب الدولة في سورية والعراق, وهنا أخذ يشعر بالمأزق الذي وضع نفسك فيه بتدخله هذا, فراح يتمرد على أسياده في الغرب وأمريكا’ لعله يجد مخرجاً من هذا المأزق, وذلك بفرض شروط عليهم حتى يتدخل وأهمها إيجاد مناطق آمنة شمال سورية كي يتخلص من اللاجئين السوريين في تركيا الذين ورطوهم بالخروج من سورية لتشكيل ضغط على الدولة السورية عالمياً من جهة, ولكي يحاصر طموحات الكرد السورين في إقامة مشروع الحكم الذاتي في المنطقة ذاتها, ولكن تمرد أردوغان هذا لم يجد له صدى عند أسياده الذين راحوا يمارسون الضغط عليه لتنفيذ رغباتهم في ضرب داعش فكان تصريح نائب الرئيس الأمريكي بأن تركيا أحد من قدم الدعم لداعش والإرهاب لإسقاط النظام السوري. فكانت رسالة له أدرك خطورتها رغم مكابرته ومحاولته إشعار الآخرين بأنه لا يخاف أوربا وأمريكا الذين راح ينعتهم بالصفات اللاذعة, فراحوا هم بدورهم ايضاً يتهمونه بالدكتاتورية والاستبداد مؤخراً بشأن الصحفيين الذين اعتقلهم. ومع زيادة الضغط عليه من قبلهم كانت زيارة بوتين لتركيا التي اراد بها أردوغان تهديد الغرب وامريكا بأن البديل عنهم جاهزاً, وكذلك زيارة رئيس وزرائه للعراق لتصفية بعض الأجواء التي لوثتها سياسته الرعناء فيها, وهي تصب بالاتجاه ذاته. إلا أن الغرب وأمريكا لن يتركوه بعد اليوم آمناً, فها هم يحرضون الأتراك ضده داخل تركيا كجماعة فتح الله غل وأكراد تركيا, وشكلوا مؤخراً وفداً برئاسة “كوشنير” وعضوية سفيرين من أمريكي وإيطالي, قام بزيارة أكراد شمال سورية وتشجيعهم على إقامة حكمهم الذاتي في سورية, لضرب استقرار تركيا وسورية التي مدت له يدها يوماً, إلا أنه عضها بغروره وأوهام مشروع خلافة أجداده. أما من سيحرك الغرب وأمريكا ضده من داخل تركيا أو خارجها مستقبلاً, فالأيام القادمة ستخبرنا بذلك لا محال.
أما غباؤه على المستوى الديني: فقد تجلى واضحاً في عجزه عن فهم التجربة الدينية في تاريخ الدولة الإسلامية عموماً ومنها تجربة أجداده الفاشلة, حيث زادت هذه الآمة تخلفاً. فهو لم يعرف أن القرآن حمال أوجه, وهذا ما ساهم في تعدد قراءات القرآن وتعدد تفاسيره وتأويله, وبالتي تعدد فرقه المتخاصمة تاريخيا إلى /73 / فرقة كل واحدة منها تدعي أنها الفرقة الناجية, وما تبقى فرق كافرة يحق قتل أصحابها. كما أنه لم يدرك أيضاً أن الكثير من الأحزاب الدينية وطرقها, هم صنيعة الغرب وما الحركة الوهابية وتنظيم القاعدة وحزب الإخوان الذي تنتمي ألبه إلا دليلاً على ذلك, وبالتالي من يصنعه الغرب سيظل أداة بيد الغرب, وهذا ما تثبته تجربة ما سموه بثورات الربيع العربي. من هنا نقول ثانية : إن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يبشر به أردوغان وهو إقامة الخلافة الإسلامية العتيدة, هو غير مشروع الشرق الأوسط الحديد الذي تبشر به إسرائيل وأمريكا والغرب وأمراء الخليج, الطامح إلى تفتيت المنطقة ومنها تركيا. لذلك لن يسمحوا له بإقامة مشروعه الواهم حتى ولو كان صادق النية في إقامته, هذا إضافة إلى أن من يعوّل عليهم أردوغان في إقامة هذا المشروع من بعض فصائل القاعدة, هم لن يرضوا به ولا بحكومته, فهي حكومة جاهلية كونها لا تطبق الشريعة الإسلامية (الحكمية) التي يفهمون بأنها لا تقوم إلا بقتل من هو كافر من مواطني تركيا, وفرض الجزية على أهل الذمة فيها… ترى متى يعود أردوغان إلى رشده ويتخلص من غبائه هذا قبل فوات الأوان, بالرغم من قناعتي بأنه قد فات الأوان لعودة الوعي عنده.
كاتب وباحث من سورية
لنشرة المحرر 20دجنبر 2014