وزارة العدل ومن ورائها الحكومة تنظر للمحاماة والمحامين بنظرة لم يكن أحد يتصورها
إن مشروع قانون المسطرة المدنية يسير في اتجاه معاكس لسياسة تحديث الدولة وإعمال قواعد الحكامة. فبدل أن تخلق الحكومة الوسائل المادية والمالية لتمكين المواطن من الولوج لخدمات المحامي عن طريق دعم الأخير، ها هي تلغي دور المحامي وتترك المواطن في مواجهة مع المحكمة ومع القضاء. علما أن القاضي لا يمكنه أن يشرح لكل مواطن يقف أمامه قواعد المسطرة، وما يتعلق منها بالنظام العام، وما يتعلق منها بالاختصاص النوعي، وما يتعلق منها بالطعن بالزور الفرعي وما يتعلق منها بالإقرار.
إن واجب استقلال القاضي وحياده، يلزمه بأن لا يقدم الفتوى أو الاستشارة القانونية لطرف على حساب آخر من أطراف الخصومة الواقفين أمامه، وإنما من واجبه عدم الإفصاح عن رأيه، حتى ولو كان يعلم أن من يقف أمامه لم يعرف كيف يدافع عن مصالحه.
فالتقليص من مجال عمل المحامي، هو ضربة موجهة للمواطن الذي سيجد نفسه أمام محكمة معقدة المساطر، وهو ضربة موجهة كذلك للقاضي، الذي سيجد نفسه في وضع صعب، إما أن يعطي الفتوى لإصلاح مسطرة للطرف الواقف أمامه أو أن يسكت ويحكم ضده فقط لأنه لم يعرف الدفاع عن نفسه. كما أنه سيفسح المجال للوسطاء الذي سيسيئون للقضاء و لمواطن بدون أي إمكانية للتعرف عليهم أم محاسبتهم.
فوزارة العدل، ومن ورائها الحكومة، كان عليها أن تخلق الوسائل المادية والمالية لكي تخفف وتسهل على المواطن الاستعانة بدور المحامي، باعتباره الأداة الوحيدة التي تساعد القاضي القيام بواجبه على أحسن حال وتساعده على الاجتهاد في إصدار الأحكام. وليس أن تحمل القاضي دورا جديد وهو أن يفتي ويشرح للأطراف تعقيدات المسطرة والقانون الواجب التطبيق، بينما هذا دورالمحامي، وليس دور القاضي. لأن المحامي هو من يتولى شرح التعقيدات القانونية لموكله وليس القاضي.
الإجهاز على مهنة المحاماة
ينظر البعض إلى ما يحمله مشروع قانون المسطرة، وكأنه انتقام من المحامين بسبب المواقف التي اتخذوها أخيرا .
ويدعم هذا الرأي، بالإضافة لما سبق بيانه من تقليص في مجال عمل المحامي، التعديل غير المفهوم الذي تحمله المادة 62 من مشروع قانون المسطرة الذي توجه مباشرة للمحامين.
ذلك أن الفصل 44 من قانون المسطرة المدنية الحالي، أتى ينص على أنه إذا صدر من المحامي ما قد يعتبر إهانة، فان القاضي يحرر محضرا ويبعث به للنقيب.
بينما مشروع المادة 62 ألزم القاضي ألا يكتفي ببعث المحضر للنقيب، وإنما يجب أن يبعث للوكيل العام والأخطر من ذلك أن المادة تنص على أن يتخذ الوكيل العام ما يلزم.
وإذا كانت إرادة مشرع المادة 62 من مشروع قانون المسطرة من إحالة تلك التقارير على الوكيل العام، تعني أن هذا الأخير ملزم بتحريك الدعوى العمومية، فان الأمر سيهدد استقرار العلاقة القائمة اليوم بين القضاة والمحامين.
والمفيد اليوم إجراء مقارنة بسيطة بين الحكومة الحالية وبين حكومة مثل حكومة إدريس جطو، التي كان يوجد على رأس وزارة العدل فيها آنذاك المرحوم محمد بوزوبع . عندما نظمت بصفتي رئيس لجنة العدل والتشريع لقاء بين جمعية هيآت المحامين التي كان يترأسها النقيب إدريس أبو الفضل مع الوزير الأول إدريس جطو، حول موضوع إلزام الإدارة بتعيين محامين ليتولوا الدفاع عن مصالحها، بدل حصر ثقل هذه المهمة في الوكيل القضائي للمملكة الذي لم توفر له الدولة الإمكانيات الدنيا لمواجهة كل الدعاوى التي تكون فيها الدولة طرفا، وكان ذلك بمناسبة مناقشة القانون المنظم لمحاكم الاستئناف الإدارية .
وأسفر الاجتماع على تعهد من قبل الوزير الأول، بأن يطلب من كل الإدارات ضرورة الاستعانة بخدمات المحامي، وهو التعهد الذي ترجمه بمذكرة وجهها لكل الإدارات، وبينما الحكومة الحالية تريد أن تقلص من المجال الذي يعمل فيه المحامي.
ومن المفيد الإشارة إلى أن تقليص مجال المحامي، لن يقتصر على قضايا مدونة الأسرة والحالة المدنية، وإنما مشروع القانون المتعلق بالميثاق الجماعي المعروض حاليا للنقاش تضمن المادة 241، التي أتت لتؤكد رغبة الحكومة في تقليص من مجال عمل المحامي و ي المادة التي أحدثت المساعد القضائي وأعطته وحده أهلية تمثيل الجماعات المحلية أمام القضاء، بل وهذا هو الأمر الخطير، أعطته أهلية الترافع باسمها، أي الحضور أمام المحكمة بالنيابة على الجماعات، وهو ما يعني أن المحامي لم يبق له الحق في النيابة على أي جماعة أمام المحاكم، علما أن الذي سيقوم بهذه المهمة ليس موظفا تابعا للإدارة وإنما شخص يمارس عملا حرا، ما دام أن المادة المذكور تلزم الجماعة بعقد اتفاق معه بخصوص أتعابه. بالإضافة إلى ما يتداول من أن القضايا المتعلقة بنزع الملكية لن يبقى اللجوء للمحامي فيها ضروريا، بدعوى أن مسطرتها لا تحتاج إلى دفاع المحامي، لأن المحكمة تأمر الخبرة لتحديد التعويض المستحق، كما أن مسطرة حوادث الشغل كذلك، لا تحتاج لمحام وسيكتفى بمسطرة الصلح مع شركة التأمين. وهي الأخبار التي تتطلب توضيحا من وزير العدل لتحديد موقفه وموقف الحكومة منها.
وفي الختام من المفيد التذكير، أن مهنة المحاماة والمحامين كانت دائما مكرمة ومحترمة حتى في سنوات الجمر، عندما كان المحامون يواجهون الدولة ويتهمونها بكل أشكال التهم القوية والقاسية، ومع ذلك اعتبرت مزرعة للدولة تختار منها أطرها العالية من وزراء وقضاة في المجلس الدستوري وغيره ومكلفين بالمهام الكبيرة، بينما في المقابل لم نسجل إلى حدود اليوم أن رئيس الحكومة الحالي عين في إطار صلاحياته الدستورية أي محام في منصب سام .غير أن ما ترتاح له المحاميات والمحامون، هو أن التاريخ لم يسجل أن ملك البلاد المرحوم الحسن الثاني أنه أساء لهذه المهنة، بل كان رجالاتها دائما مكرمين لديه، وعندما سئل من قبل أحد الصحفيين مرة إن لم يكن ملكا، فماذا يمكنه أن يكون، فكان جوابه بدون أي تردد أفضل أن أكون محاميا.
كما سجل التاريخ كذلك للملك محمد السادس، ليس فقط تكريمه للمحاماة والمحامين، وإنما ارتداءه بذلة المحاماة، كأقوى إشارة على احترامه وتكريمه لنسائها ورجالها .
واليوم، مع الأسف نلاحظ أن وزارة العدل، ومن ورائها الحكومة الحالية، تنظر للمحاماة والمحامين بنظرة أخرى لم يكن أحد يتصورها.
بقلـم : عبد الكبير طبيح
محام بهيأة الدار البيضاء