تعتبر مسألة تجديد النخب مسألة محورية في مسار أي مجتمع على اعتبار أنها تمثل إرهاصا معنويا وماديا يترجم بشكل أو بآخر حركية المجتمع من جهة ومعيارا تأطيريا للحظة تواجدها من جهة أخرى؛ فالحديث عن النخبة يبقى مؤشرا قويا يترجم مدى حيوية المجتمع ومدى قابلتيه لبلورة مشروع حداثي لكونها مشتلا سياسيا يبلور منظومة من القيم ومشاريع الأفكار التي تطبع هوية ذلك المجتمع ؛ ذلك أن النخبة تبقى في نهاية المطاف مصنعا لانتاج أفكار ومشاريع المجتمع.
فإلى أي حد يصدق هذا التصور على واقع النخب بالمغرب؟
إن طرح هذا السؤال المركزي يقودنا إلى البحث في أسئلة نوعية من قبيل:
ماذا نعني بالنخبة؟ ما هي حدودها وامتداداتها في النسق السوسيوسياسي المغربي؟ ما الذي يحدد إمكانات الانخراط في النخبة أو الخروج منها؟ هل نتوفر على نخبة مغربية فاعلة تخطت مرحلة الخصاء واللافعل؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن أزمة لا تجديد النخب؟
لمعالجة هذا الموضوع سنخصص المحور الأول بغية الوقوف عند إجرائية المفهوم فيما سنتطرق في المحور الثاني للحديث عن المسار التاريخي للنخب؛ أما المحور الثالث فسنتحدث فيه عن نمذجة النخب بالمغرب على أساس أن نفرد المحور الرابع للتسليط الأضواء على أسباب وخلفيات لا تجديد النخب فيما سنعالج في المحور الخامس بالدرس والتحليل رصد تجليات أزمة النخب بالمغرب.
المحور الأول: في إجرائية المفهوم
تتجاوز مسألة النخب كونها قضية مركزية من قضايا علم الاجتماع السياسي بشكل أفضى بها إلى احتلالها موقعا مركزيا في المسائل المرتبطة بالسلطة السياسية و آليات الحكم في علاقة بالثقافة السياسية من جهة وبالمجتمع في أساسه الثقافي من جهة أخرى .
أولا: في إشكالية التسمية :
1- تدل المعاني الاشتقاقية للفظ “نخبة” في لغات مختلفة على الندرة والقلة إذ هي تحيل على الاصطفاء و الاختيار والانتخاب والقطف و الانتزاع من رأس الشيء أو من أساسه؛ وتمتد تلك الإحالة إلى ما يمثل خصيصة الشيء الأكثر تمييزا له عما عداه وعلى أساس التميز والنقاوة والصفاء والرفعة و عدم الاختلاط مع ما هو عام ومبذول و مبتذل وعادي.
2- ففي العربية يستخدم مصطلحان أولهما أن “النخبة” من نخب الرجل الشيء نخبا وانتخبه أي اختاره وانتقاه وأخذ نخبته، وتأسيسا على ذلك تكون النخبة و جمعها نخب المختار من كل شيء، بحيث تجمع النخبة وجمعها نخبات المنتخبين من الناس في مجال ما؛ لذلك يشير ابن منظور في كتابه (لسان العرب) “النخبة. نخب. انتخب. الشيء اختاره ونخبة القوم ونخبتهم خيارهم”. [i]
ثاني المصطلحين هو الصفوة وهو ينحدر اشتقاقا من صفا فلان القدر أي أخذ صفوها واستخلص ما فيها، فالمصطفى هو المختار، والصفي هو النقي من كل شيء.
3- أما في غير اللسان العربي فأصل الاشتقاق في الفرنسية يرقى إلى اللفظ اللاتيني الشعبي Ex Legere الذي يعني قطف واختار وجمع، و حسب القواميس الفرنسية فإن لفظ Eslere يشير إلى نفس المعنى، ومنه اشتقت الكلمة الحديثة Elite.
أما في اللغة الإنكليزية فقد شهد اللفظ نفس مسار النحت والاستخدام تقريبا في ما يسجل الاستخدام الألماني هو أيضا نفس ما نجده في الفرنسية رسما ومعنى؛ فيما اللغة الإسبانية تحيل أصل الاشتقاق إلى Lo mas selecto وهو نفس المعنى الوارد في اللغة الفرنسية.
4- تثار في مجال الاستخدام العلمي الاجتماعي المخصوص التقاربات التي يمكن أن تلاحظ بين مفهوم النخبة من ناحية و مفاهيم الطبقة والفئة والشريحة وخاصة في مجال علم الاجتماع السياسي. ولئن كانت العديد من المؤلفات ذات التوجهات التحليلية الماركسية خاصة تحرص على التأكيد أن المفاهيم المذكورة هي القادرة على الإحاطة بما هو موجود فعلا وواقعا فإن اختلافا واضحا يميز هذه المفاهيم عن مفهوم النخبة؛ ففي حين تكتسب البنى والهياكل والمؤسسات الاجتماعية المقصودة لدى استخدام تلك المفاهيم في سياق ماركسي، وجودا ” تاريخيا اجتماعيا محتما” أي موضوعيا في سيرورة الإنتاج و في بنية توزيع الدخول والثروات مع ما يساوق ذلك من تمثلات رمزية ومتعلقات تتصل بالمظاهر والصيت، يبدو مفهوم النخبة محيلا على موقع غير محتم في حقل مواقع النفوذ وبنية علاقات القوة داخل الطبقة أو الطبقات الحاكمة أو المهيمنة سياسيا، أي موقع لا يكتسب إلا موضوعية حادثة من خلال فعل تاريخي مخصوص، بما يجعله موقعا غير بنيوي أو هيكلي حسب التعابير الماركسية بحيث تبدو النخبة نتاجا لتحولات سياقية محددة بظروف مخصوصة يمكن أن تكون من خارج ما تفترضه “الحتميات المقدرة تاريخيا”.ولئن كان وجودها ذاك مصحوبا هو أيضا بتمثلات رمزية فإن متعلقاته من مظهر و صيت وغيرهما لا تبدو بنفس الوضوح الذي تكون عليه بالنسبة إلى الطبقة أو الفئة أو الشريحة، بل من بين متعلقات المظهر و الصيت لدى النخبة ما يمكن أن يكون خفيا أو مخفيا بقصد حتى تتمكن من ممارسة وظائفها القيادية بأقصى قدر ممكن مما تفترضه من النجاعة الإجرائية.
ثانيا: مفردات التراث النظري العلمي الاجتماعي:
يحفظ التراث النظري العلمي الاجتماعي الأوروبي الحديث مساهمات عديدة في التنظير للنخب السياسية خاصة ومنها:
1– الارث الفكري الإيطالي:
1-1- فيلفريدو باريتو (1948 – 1923) : بعد أن تبنى في مرحلة أولى من حياته الفكرية و السياسية توجهات ومواقف ليبرالية، اقترب تدريجيا من الأطروحات المحافظة حيث أعلن مساندته الرسمية لموسوليني وتميز بنظرة فلسفية اجتماعية متشائمة منكرا التقدم، معارضا كل الإيديولوجيات وموجها نقدا لاذعا للأوساط المثقفة، إذ بين في كتابه” الأنظمة الاشتراكية ” أن المذاهب الاشتراكية تهب فرصا للعمل السياسي المتحمس على أساس القيم النبيلة والأساطير الخلابة، ولكن كلا الليبرالية و الاشتراكية يهدفان إلى تمكين الأقليات والنخب من الاستحواذ على الحكم و على الاستمرار فيه.
بيد أن التنظير القوي حول النخبة حمله كتابه ” مقالة في العلم الاجتماعي” الصادر سنة (1916) حيث عرض نظريته حول أفعال الإنسان التي قسمها بين منطقية (يستخدم فيها الإنسان وسائل مناسبة لغاياته) وغير منطقية (تختلف فيها الغاية الحادثة فعلا وواقعا عن الغاية المقصودة من قبل الفاعل)؛ في حين كان العلم الاجتماعي نازعا في توجهاته الغالبة إلى النظر في أسباب الظواهر كان باريتو يلح على المنظور الغائي مركزا على آثار الأفعال معتبرا أن العلم الاجتماعي قائم على قاعدة نظرية تحليلية مفادها أن الفعل المنطقي هو القابل للتحديد في ما يخص غاياته وآثاره المحتملة و القابلة للتوقع وذلك بالاعتماد على التحليل العقلاني.
ولدى معالجته للقضايا التي تثيرها علاقة السلطة بالمجتمع السياسي كان مدار تفكيره هو الجواب على السؤال التالي: “من يحكم المجتمع السياسي؟ أهو الشعب السيد أم الأحزاب أم الطبقة البرجوازية أم السياسيون؟” ويجيب” إنها النخبة”. بيد أن تحديده للنخبة يشمل المجال غير السياسي أيضا” فلنفترض أننا نسند علامة لكل فرد عامل في أحد فروع النشاط البشري تدل على قدراته وذلك على سبيل شبيه بما يسند من أعداد في الامتحانات الخاصة بمختلف المواد التي تتعلم في المدرسة…ولنشكل طبقة من الذين حصلوا على العلامات الأرفع في الفرع الذي ينشطون فيه ولنسند إلى هذه الطبقة اسم النخبة[ii]، علما أنه لا تمييز في فروع النشاط وما يبذله الإنسان فيها طبيعة وقيمة بين خير و شر ومستقيم ومنحرف و مشروع وغير مشروع و أخلاقي و غير أخلاقي. يؤسس ذلك حسب المنظور الباريتي لبحث في النخبة لا شائبة معيارية أو قيمية فيه: “إن المقصود من مفهوم النخبة هذا مرتبط بما يبحث لها من صفات لإسنادها إياها.فمن الممكن أن نجد أرستقراطية من القديسين مثلما يمكن أن نجد أرستقراطية من قطاع الطرق وأرستقراطية من العلماء وأرستقراطية من السراق إلخ…فإذا ما اعتبرنا جملة تلك الخصال التي تيسر ازدهار طبقة ما في المجتمع و هيمنتها عليه كان لنا ما سنسميه ببساطة بالنخبة” ( في الاقتصاد السياسي، 103 )؛ أما كتابه” تحولات الديمقراطية” الصادر في سنة (1921) فقد بين أن المجتمع يشهد ظهور سلاليم قيمية غير متجانسة ولكن لا يقابل ذلك عدم تجانس اجتماعي بل تعارض بين الجماهير و النخب.[iii]
الملاحظ في التحليل الباريتي أنه يقع نوع من التداخل حيث تتداخل النخبة والطبقة الحاكمة الأمر الذي يؤكد مسألة كيفيات إفراز النخب بشكل “تتغذى الطبقة الحاكمة لا في العدد فحسب بل، وهذا هو الأهم، في النوعية من العائلات المنحدرة من الطبقات الدنيا حاملة لها الطاقة… الضرورية لحفاظها على موقعها في السلطة” و يمكن أن تكون حركة النخب هذه كما يسميها ” بطيئة ومستمرة جارية مثل نهر” أو على هيئة” تحولات مفاجئة وعنيفة شبيهة بالفيضانات “[iv]، وبهذا المعنى يكون التاريخ الذي يتخذ عنده اتجاها دائريا ودوريا رتيبا مقبرة للنخب.
2- الارث الألماني ومسألة النخبة:
2-1- روبارت ميشالز (1876 -1936): حمل كتابه الأهم عنوان في سوسيولوجيا الأحزاب السياسية في الديمقراطية الحديثة(1911). حيث بحث فيه الاتجاهات الأوليغارشية للديمقراطيات وكانت تلك مساهمته الأساس في التفكير في النخب و علاقتها بالأنظمة السياسية وخاصة الديمقراطية منها.
لقد اتسم تفكير ميشالز بالتخصص في المسائل السياسية المرتبطة بواقع المنظمات النقابية و السياسية وبنى نظرية في الأسلوب الهرمي لإدارة المنظمات البيروقراطية كانت قريبة من نظرية ماكس فيبر في البيروقراطية. وحسب هذه النظرية، ينتصر المنطق الأوليغارشي داخل المنظمات حيث تتمكن أقلية ضئيلة العدد من فرض آرائها و مواقفها مؤمنة ديمومة سيطرتها على مقاليد القيادة في المنظمات و الأحزاب. وعادة ما تتكون تلك الأوليغارشيا من القادة المحترفين الذين يصطفون أنفسهم عبر المركزة الإدارية ومراقبة مصادر الإعلام والانضباط الحزبي.
2-2- كارل مانهايم (1893-1947) في كتابيه” الإنسان و المجتمع في عصر يعاد بناؤه“( 1935) و” تشريح زمانن”ا (1950) يضع مسألة النخب في معرض البحث في مسألة المثقفين.
رأى في كتابه الأول أن:” صياغة السياسة مهمة النخب ولكن ذلك لا يعني أن المجتمع ليس ديمقراطيا… ففي مجتمع ديمقراطي يمكن دوما للمحكومين أن يتحركوا من أجل تغيير حكامهم أو إجبارهم على اتخاذ قرارات تكون لفائدة الأغلبية…إننا نفترض مصادرة أن ما يميز الديمقراطية ليس غياب كل شرائح النخب بل ظهور نمط جديد لانتقائها وتمثل ذاتي جديد تبنيه لنفسها…إن ما يتغير على الأخص في سياق الديمقراطية هو المسافة الفاصلة بين النخبة و الجمهور” (الإنسان و المجتمع في عصر يعاد بناؤه ).
وبالإضافة إلى أنه ميز بين نخب القيادة والتنظيم والنخب المنبثة في المجتمع و التي تباشر المسائل الروحية و الثقافية و الأخلاقية فإنه صنف النخب صنفين:تلك التي تسعى إلى إدماج العدد الأكبر من الناس في جسم اجتماعي واحد والأخرى التي تسعى إلى إظهار القوى النفسية التي لا يتمكن المجتمع من الوصول إلى قاعها. ولكن ظهور المجتمع الجماهيري يدفع في اتجاه تحولات عميقة تمس النخب و منها أن هذه تتكاثر ويتناقص احتكارها للإبداع الثقافي وتتحلل آليات الانتقاء داخلها و ذلك بفعل تفشي” الديمقراطية” بحيث تنفتح على الطبقات الوسيطة و البرجوازية الصغيرة، وهو ما يفسح في المجال أمام مصير كوارثي ثقافيا.
3- المكون الأمريكي:
3-1- شارلز رايت ميلز( 1916 – 1962): استنادا إلى منظوره النقدي في علم الاجتماع اعتبر أن كل علم اجتماعي سياسي بالضرورة وأن عليه أن يغير المجتمع وأن يكافح الأحكام المسبقة؛ ففي كتابه” نخبة الحكم” ( 1956) درس نظام الحكم السياسي في الولايات المتحدة عارضا نظرية في النخب استند فيها إلى ما كان طوره موسكا من أن الأقلية هي التي تستحوذ على الحكم في المجتمع بحيث يمكن أن نفسر كل التاريخ الحادث على ضوء مصالح تلك الطبقة الحاكمة.
إن مفهوم النخبة عنده يحوم حول “نخبة القوة”(سياسية رسمية واجتماعية واقتصادية وعسكرية). والنخبة الحاكمة هي كل الجماعات المؤثرة في توجيه السياسة التي تدخل في تحالفات مع جماعات النفوذ وتلجأ في نفس الوقت و بالتوازي إلى سلطتها المؤسسية لتفادي الاضطرابات الناجمة عن تضارب مصالح الشرائح الاجتماعية.
إن ما يمكن أن يعرف النخب حسب نظره هي أنها مجموعة من المواقع الاجتماعية التي تتكون وتتفكك في علاقة بالسلطة السياسية والتي تترابط على أساس قواعد يمكن أن تكون ضمنية أو بادية للعيان ولكنها تبقى دائما غير معلنة؛ فتتكون هذه النخب ذات مصالح مشتركة من جهة و ذات استعداد وقدرة على التفاهم ويعتبر أفرادها أنفسهم منتمين إلى عالم مشترك بعينه ذي أساس معياري واحد تبنيه العائلات والمدارس وأنظمة التوجيه الثقافية؛ ومما يجمع هذه النخب سمات مخصوصة منها النزعة نحو التداخل المؤسسي تيسر تبادل الأدوار من جهة وتسطير سلوكات موحدة على المستوى الفردي و الجماعي من جهة ثانية واستعداد متماثل للإدارة بمتابعة صارمة الدقة و التفصيل للقرارات الكبرى المتخذة. [v]
3-2- رالف ميليباند: يرى أن النخبة السياسية الحاكمة تتحالف مع شرائح اجتماعية بعينها هي التي تمثل أصولها الاجتماعية. وتكون وظيفتها هي توطيد مصالح تلك الشرائح، وهذه هي نخبة الدولة أي مجموعة من الأشخاص يشغلون المناصب العليا في مؤسسات الدولة المختلفة ويسيطرون على عملية صنع القرار وتوجيهه لصالحهم ولصالح الجماعات التي ينتمون إليها؛ وعلى خلاف ذلك تنأى جماعات المصالح و النفوذ بنفسها عن تولي السلطة السياسية مباشرة وتحرص على تأمين مصالحها عبر ممثليها؛ وتحكم نخبة الدولة بواسطة شرعيتها المؤسسية وركيزتها الاقتصادية والاجتماعية.
4 مقارنات حول المفهوم
يتميز السياق التاريخي العلمي الاجتماعي الحديث الذي ابتدع فيه مفهوم النخبة والمفاهيم المجاورة و البديلة سواء بالنسبة إلى السياق الأوروبي أو السياق العربي الإسلامي بالخصائص التالية :
4-1- اندراج المطارحات النظرية العامة الأولى حول مسألة النخب في سياق التأزم الاجتماعي الشامل الذي كانت تعيشه أوروبا في منتهى القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين، وارتباط تلك المطارحات بما سيعرف لاحقا بالمدرسة العلمية الاجتماعية النخبوية ومكونيها الإيطاليين.ولئن كانت الخلفية التاريخية فاعلة في ذلك فلأن ما كانت تشهده فرنسا مثلا من محاولات بناء الديمقراطية كان على أرضية نوع من تراتب الأحقية المرتبط بالتكوين المدرسي و الانتماء الاجتماعي السياسي في حين كانت إيطاليا تشهد نوعا من صراع كل الطامحين من السياسيين ضد كل المتنفذين من الحاكمين من أجل الريادة و تحريك الجموع السياسية. وبالتوازي مع ذلك كانت مواطن عديدة من البلاد العربية الإسلامية تشهد خلخلة لآليات إفراز القيادات وإضفاء الشرعية عليها في علاقة بآثار الاستعمار العثماني القديم وبدايات الاستعمارين الجديدين الفرنسي و الإنكليزي من جهة و بحركة النهضة العربية من جهة أخرى.
4-2- اندراج تلك المطارحات في نطاق الصراعات الإيديولوجية التي كانت تشق صفوف المثقفين والمنظرين ومؤسسي العلوم الاجتماعية بين اليسار و اليمين و التقدميين و المحافظين والقائلين بوجود الطبقات والقائلين بوجود انقسامات اجتماعية و لكنها غير طبقية في أوروبا، وبين دعاة الإصلاح التحديثي ودعاة التجديد الديني بتلويناتهما المختلفة وعلاقاتهما المتداخلة مع نواة الحركتين الوطنية و القومية في البلاد العربية الإسلامية.
في على المستوى الأول طور مفهوم النخبة ونظر له بوصفه ردة فعل على التصور الماركسي للسلطة السياسية، إذ كان يرى أن الانقسام الاجتماعي يرتكز على وجود مجموعات اجتماعية غير متجانسة وهو ما يؤسس لحكم الأقلية على الأغلبية ولنفوذ المجموعات الضيقة الحاكمة و الأوليغارشيات و دوائر المتنفذين أي النخب؛ أما المستوى الثاني فقد تبلور كنتاج للتشويش الذي اعترى البنى الاجتماعية وعدم تبلور الانقسام الطبقي في البلاد العربية الإسلامية الأمر الذي أثر في ظمور التفكير في تشكل القيادات السياسية و الاجتماعية وفق منظور طبقي صريح وسيادة الاستلهام من أطر التفكير السلطانية التقليدية مطعمة ببواكير التفكير التاريخي و الاجتماعي الحديث مفاهيم و أدوات.
4-3- كان التفكير في النخب تفكيرا سياسيا إلى حد بعيد في بداياته على الأقل، ونرجح أن يكون مرد ذلك انفتاح آفاق التغيير السياسي إما بفعل الثورات السياسية العنيفة أو نتيجة للتوسيع السلمي لمجالات المشاركة الجماهيرية و اعتماد أساليب الحكم الديمقراطي في تسيير الشأن العام أو حتى بفعل التراخي التدريجي لقبضة الحكم المركزي.لقد كان من نتائج ذلك في ما يهمنا إفساح في المجال لفعل آليات اقل انغلاقا للتغيير الاجتماعي وما يستتبعه ذلك من فعل آليات التدوير والتحرك والتبدل في الفئات القائدة مثلما تدل عليه السياقات التاريخية الفرنسية و الأمريكية مثلا .
المحور الثاني: المسار التاريخي للنخب
على اعتبار أن المغرب بلد افريقي الموقع مطل على القارة الاروبية؛ عربي امازيغي الثقافة مضيقي التأثير المتبادل فقد منحه هذا الغنى مميزات انعكست على طبيعة شخصيته من خلال تنوع نخبه ؛ بحيث ظل جدعها مرتبطا بالعمق الافريقي ورأسها مشربا نحو المشرق العربي مغلفا بالتواءات وانحرافات نحو الشمال خصوصا إبان المرحلة الآندلسية ليستمر هذا الوضع إلى حدود نكسة حرب ايسلي التي شكلت صدمة قوية لنخبة تلك المرحلة حيث وضعتها بشكل مباشر مع سؤال انهيار الذات مقابل تقدم الآخر ومن تم سعيها إلى مساءلة الهوية المغربية.
بيد أن التأخر في طرح هذا السؤال سيقود المغرب إلى الانقياد لنظام الحماية الأمر الذي سيدفع بثلة من الفقهاء إلى تقيد مشاريع فكرية في صيغة مشاريع دساتير ليبرز في هذا الصدد كتابات الشيخ علي الزنيبر والشيخ الطرابلسي وجماعة لسان المغرب؛ بيد أن هذه المطالب الاصلاحية لم يكتب لها النجاح بفعل تظافر جملة من الأسباب الذاتية والموضوعية تتجلى أساسا في عدم قدرة النظام آنذاك على مواجهة الأطماع الأجنبية وفساد النظام الجبائي وعدم قدرة المجتمع على الايمان بهذه المطالب [vi] ليلج المغرب مرحلة الحماية التي ستفضي إلى إحداث قطيعة تدريجية مع نمطيته التقليدية في إنتاج النخب وليتولد عن نظام الحماية بظهور شريحتين وموحدتين على مستوى الأهداف إلا أنهما متعارضتي التوجهات ؛اختارت إحداهما الانحسار في الذات التقليدانية فتمسكت بجلباب المؤسسات المخزنية موغلة كلما تطلب الأمر في التاريخ عموديا بغية إعادة إحياء العهد النموذجي فيما اختارت الأخرى ارتداء البذلة الأوروبية والتوجه نحو الحداثة واضعة أعينها على النموذج الأوروبي وبالأخص الفرنسي.
إن هذه التوجهين سيقودان المغرب نحو خلق حالة من التعارض لتصل إلى مرحلة الاصطدام حيث اتضح الأمر بشكل جلي داخل “الحزب الأم” الذي سيبرز فيه تيارين مركزيين الأول قاده علال الفاسي ؛ بلا فريج؛ قاسم الزهيري ؛ أبو بكر القادري… والثاني تزعمه جيل الشباب المؤمن بالاختيار الثوري كالمهدي بن بركة ؛عبد الرحيم بوعبيد ؛ عبد الله إبراهيم…ليتمترس كل فريق خلف قناعته فيما راعى النظام أن يلعب دور الفيصل بينهما على اعتبار أنه حاكم وحكم طبقا لمقتضيات الفصل التاسع عشر من الدستور؛ بل أحيانا كان يتدخل بغية إعادة التوازن من خلال تعديل مواصفات النخبة ومقوماتها بالاستنبات والخلق والاحتضان أو بالتسييج والتحييد وقد أدى ذلك إلى جعل جسم النخبة يعرف تحولات بنيوية من نهاية سبعينات القرن العشرين بصورة أعادت طرح إشكالية المفهوم والماهية والأدوار لاسيما مع استفحال الأزمة التي طالت مختلف الميادين [vii]
المحور الثالث : نمذجة النخب
يصعب على الباحث الجامعي إيجاد نمذجة خالصة لتموقع النخب المغربية؛فالتداخل بين ماهو ديني وماهو سياسي يحضر بقوة مثلما يحضر تداخل بين ما هو إداري مع ماهو اقتصادي بل أحيانا يتحول هذا التداخل إلى تناقض مطلق بين ايديولوجية وتصورات هذه النخب وبين انتمائها إلى فضاءات وتنظيمات متباعدة عنها إذ لم نقل مخالفة لها.
لتجاوز هذا الاشكال تسعفنا كتابات جون واتربوري في وضع نمذجة شكلية لنخب المملكة مشيرا في هذا الصدد:” لقد تبنيت مصطلح النخبة السياسية” في هذا الكتاب نظرا لثرائه؛ رغم أن علماء السياسة لم يتفقوا بعد على تعريف مقبول شامل له ومع ذلك يتضمن هذا المصطلح بعض الدلالات التي تعود على الجميع وأعني هنا الأقليات الاستراتيجية” التي يتحدث عنها ريمون أرون حيث يرى أنها توجد في مواقع استراتيجية من المجتمع وتتحكم في السلطة ليس فقط داخل مجالها الخاص، بل وكذلك في مجال الشؤون العامة ويبدو لي أن النخبة السياسية المغربية عبارة عن مجموعة من هذا النوع من القليات الاستراتيجية وسوف أستعمل مصطلح النخبة السياسية هنا لتعيين تلك الفئة من المغاربة الذين يستطيعون لأسباب مختلفة، أن يؤثروا في سلطة القرار على المستوى الوطني كما في مقدورهم التدخل عملة توزيع منافع الدولة وفرض مطالبهم وقد يرتبط نفوذهم هذا بشبكات الأتباع والأصدقاء ذوي المناصب العليا؛ وتضم هذه الشبكات كلا من الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الطلابية والمصالح الخاصة والأسر الكبرى والقبائل والضباط والعلماء والشرفاء وغالبا ما يكون قادتها من الموظفين السامين في الحكومة أو وزراء ؛ وقد تتجاوز النخبة السلطة الحكومية لأنها تشمل المعارضة كذلك وجل أعضائها من المثقفين أو الأثرياء أو هما معا من اجل الانضمام إلى النخبة ومع ذلك ليست الثروة والثقافة بالمقاييس الوحيدة لأن التعيين هو الذي يحدد طريقة الوصول إليها”[viii]
وبغض النظر عن هذه الإشكالية تنقسم النخبة المغربية إلى نُخب فرعية أهمها النخبة الوزارية والنخبة الاستشارية ونخبة علماء الدين والنخبة المثقفة والنخبة البيروقراطية وهناك أيضاً النخبة المضادة أي المعارضة السياسية
أولا : النخب الحزبية ومنطق الاستنقاع السياسي
ثمة سؤال مركزي يفرض نفسه بإلحاح شديد على بلد يواجه إكراهات متعددة؛ مثلما يرتبط بمواعيد دولية حارقة تحتم عليه السير قدما بوثيرة سريعة لكن بتؤدة وهو الأمر الذي يتطلب وجود نخب مستشعرة لطبيعة هذه التحديات الداخلية والخارجية.
وإذا كان هناك شبه إجماع على وجود حالة من الانحطاط القيمي في مكونات النخب المغربية فإن هناك بالمقابل تباينا ملحوظا في وضعية كل نخبة على حدى؛ فالنخب الحزبية لا يمكن أن نموقعها في خانة واحدة لذا ينبغي أن نسجل بأن هناك تفاوتا ملحوظا في تعامل الأحزاب السياسية المغربية مع مسألة استقطاب وإنتاج النخب؛فمن حسنات أحزاب الكتلة الديمقراطية قبل ولوجها لتجربة التناوب التوافقي كونها كانت تشكل مشتلا قويا لاستقطاب وانتاج نخب متعددة المشارب لعبت دورا مركزيا في إنضاج مسلسل النهج الديمقراطي؛ بيد أن إخفاقات تجربة التناوب قادت إلى نوع من الانكماش لدى جانب من هذه النخبة الأمر الذي سيدفع الكاتب الأول محمد اليازغي خلال اجتماع اللجنة الادارية للاتحاد الاشتراكي إلى الافصاح صراحة على تطلعه قائلا: “علينا أن نكون قوة سياسية تجعل من المنهجية الديمقراطية أمرا واقعا” بيد أن تحقيق هذا المسعى لن يكون إلا بعودة الروح في مكونات الكتلة من جهة؛ وذلك بالعمل على استقطاب الأطر المغيبة من الحقل السياسي المغربي من جهة؛ وتدبير ثقافة الديمقراطية الحزبية من جهة ثانية.
في المقابل تبدو أحزاب الوفاق في حالة شرود سياسي على مستوى استقطاب النخب؛ وحتى في حالة وجود نزر يسير من هذه النخب فإننا نجدها تحلق خارج سرب مكاتبها السياسية؛ هذا في الوقت الذي عجزت فيه أحزاب “العهد الجديد “على استقطاب الاغلبية الصامتة من النخب المهمشة.
إلى جانب ذلك تعيش النخبة الحزبية المغربية قدرا كبيرا من الشخصنة عوض المأسسة ، بشكل يغيب الجوانب الموضوعية والمصلحة الجماعية؛ فنجد من بين التعابير الدالة والمتداولة في هذا الإطار، القول مثلا بأن هذا حزب فلان، وليس الحزب الفلاني، أي أننا نشخصه ونختزله في الزعامات؛مثلما يلاحظ أن تصور المجتمع يتموقع حول فكرة معينة تتمثل في المحاباة لصاحبها، وليس قياسا لمضمونها وجوهرها، ومدى الاقتناع بها.
ثانيا : النخب الإسلامية
منذ السبعينيات بدأ تأثير الحركات الإسلامية المشرقية يظهر في المغرب من خلال تأسيس عدة جماعات إسلامية أهمها جماعة الشبيبة الإسلامية بقيادة عبد الكريم مطيع والتي وجدت التربة المناسبة للعمل السياسي لمواجهة المد التقدمي فاستثمر الإندفاع العاطفي الأعمى لتنفيذ عمليات اغتيال المناضل الإتحادي عمر بن جلون بأيد ” إسلامية ” وبعد هذا الحدث اختفى التنظيم رسميا بعد فرار زعيمه من المغرب إلى ليبيا وإدخال البعض إلى السجون وانحناء ما تبقى للعاصفة التي مرت بهدوء ،قبل أن يطل الأعضاء المتبقون من جديد بصيغة أخرى بعد تقديم نقذ ذاتي لتتأسس جمعية الجماعة الإسلامية وتواصل تطورها في سياق دعوي وثقافي لتكشف عن وجهها الحقيقي ممثلا في حزب سياسي وهو حزب العدالة والتنمية بعد مناورات عديدة ،وقبل ذلك كانت جماعة العدل والإحسان قد أعلنت عن بوادرها الأولى من خلال رسالة الإسلام أو الطوفان التي وجهها زعيمها آنذاك عبد السلام ياسين في سنة 1973 إلى الملك الراحل الحسن الثاني.
= المجالس العلمية : وهي إطارات أصبحت تحتكر الشأن الديني بالمغرب كما تشرف على صلاحيات الإفتاء في القضايا المختلفة سعيا لإنهاء “مشاعية الإفتاء وقد تمت إعادة هيكلتها بعد أحداث 16 ماي كما أنها تحظى برعاية خاصة؛ فرئيس المجلس العلمي الأعلى هو جلالة الملك كما أن أعضاءها يعينون بظهير شريف إسوة بالموظفين السامين …
والجدير بالذكر أن هذه المؤسسات كانت أغلبها مشلولة ،لكن تم بث الروح فيها فأصبحت وسيلة للتعبير عن الإسلام الرسمي ،حيث نستحضر هنا بياناتها وبلاغاتها المنددة بخطة إدماج المرأة في التنمية وبتفجيرات 16 ماي
=الزوايا : تقيم صلحا دائما مع الدولة وليست لها أي مطامح سياسية وهي تحظى بدعم من الدولة بتكريس إسلام شعبي متوافق ومدعم للإسلام الرسمي لذلك كان دعم المواسم المتنوعة وظهائر التوقير والهدايا وسائل مهمة للتأثير على نخب الزوايا التي تنتشر بكل مناطق المغرب لدرجة أصبحت جزءا “من السياسة الدينية الرسمية
ثالثا : النخبة المغربية والمجتمع المدني
يصادف الباحث الجامعي في ميدان علم اجتماع النخب ظواهر متعددة تتصل كلها بالنخبة المغربية سواء في المجال السياسي الديني أو الاداري.؛ ولعل أبرز هذه الظواهر ظاهرة احتكار العمل الجمعوي؛فإذا كان مقعد الزعامة في الأحزاب السياسية لا ينحل إلا بوفاة القائد فإن هذه الظاهرة تبرز بقوة في العمل الجمعوي؛ ويرصد بنحدو في كتابه” نخب المملكة”مسألة احتكار العمل الجمعوي قائلا :”هناك 51% من مسيري النوادي الرياضية هم أصحاب شركات أو أصحاب بنوك أو مفاوضون أو مدراء لشركات و1 % هم موظفون سامون و13% هم رجال أعمال حرة؛ فرجال الأعمال يحتلون مواقع هامة بناء على القوانين التأسيسية لهذه الجمعيات بحيث تتوارث من الأب إلى الابن و56% منهم يحصلون بكيفية متعاقبة على منصب الرئيس25% هم كتاب عامون و10 أمناء المال”[ix]
فهل يحق الحديث عن مجتمع مدني في مغرب لا تزال فئات تتمتع بامتيازات اجتماعية وسياسية بينما تكرس مختلف الدساتير التي عرفها المغرب المستقل على أن المغاربة متساوون في الحقوق والواجبات؟[x]. وهل يحق الاعتماد على النخبة التقليدية التي ورثناها منذ عهد الاستعمار لتسيير دواليب الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
سؤال مركزي يفرض نفسه بإلحاح شديد في مغرب يشكل شبابه ما يزيد عن نصف ساكنته
المحور الرابع أسباب أزمة النخب
يعيب أحد الفاعليين السياسيين على بعض النخبة المغربية كونها تعيش حالة طغيان النزعة الشخصية ، بشكل يغيب الجوانب الموضوعية والمصلحة الجماعية. ومن التعابير المتداولة والدالة في هذا الإطار، القول مثلا بأن هذا حزب فلان، وليس الحزب الفلاني، أي أننا نشخصه ونختزله في الزعامات. يلاحظ كذلك أن الناس تتموقع مع فكرة معينة محاباة لصاحبها، وليس قياسا لمضمونها وجوهرها، ومدى الاقتناع بها.
“إن الصراع السياسي الذي تقوده البروليتارية كطبقة ليس معركة لفصيل العمال ضد باتروناتهم بل إنه صراع للعمال باعبارهم طبقة ضد طبقة الرأسماليين في مجموعها”[xi]
سادسا:المثقف المغربي بين المثقف العضوي و المثقف العضوي
نكاد اليوم نشعر بامتعاض كبير جراء عدم استخلاف مفكرين من طينة محمد عابد الجابري ؛ أو عبد الله العروي؛ فالأحزاب السياسية التقدمية التي أنتجت بشكل أو بآخر مفكرون من العيار الثقيل قد تخلت عن هذه المهمة لصالح الاهتمام باللحظة الانتخابية فيما عجزت الأحزاب الجديدة عن ممارسة هذا الدور بحيث لم نلمس لحد الآن بلورة مشروع أو مشاريع مثقفين جدد؛ بل أكثر من ذلك نسجل حضور” نزعة للاقصاء وسط الأحزاب اتجاه المثقفين غير الحزبيين؛ والغريب أن هذه النزعة تتقوى مع ازدياد الحديث عن الانفتاح والتواصل .
إن تغيير منظومة القيم بالمغرب الراهن ساهم بشكل كبير في إعادة النظر في أطروحة المثقف العضوي الذي كان ينهض دائما السلطة وينتقدها لتمسي اليوم متجاوزة بفعل ديناميكية التحولات المجتمعية؛ فتموقع المثقف اليوم لم يعد ينظر إليه حسب درجة قربه أو بعده من السلطة فيمكن للمثقف أن يكون فاعلا في السلطة دون أن يؤثر عليها كما يمكنه أن يبتعد عنها دون أن تحد من شغفه العلمي
فدرجة القرب أو البعد لم تعد تجد نفعا بقدر ما أمسى يجدي الانخراط الفعلي لمثقف في محيطه السوسيولوجي بكل ما يحمل هذا المحيط من تعقيدات سوسيولوجية وسياسية بيد أن الغائب اليوم هو الابتعاد الملحوظ للمثقف عن محيطه المجتمعي ؛ فمثقفونا بنوا لأنفسهم أبراجا عاجية ورفضوا النزول منها لمعالجة قضايا مجتمعهم لدرجة دفعت باحثا يقضا من طينة عبد الله الحمودي إلى الافصاح صراحة على أنك” لا تستطيع اليوم أن تجد ولو خمسة كتب لمثقفين عرب عاشوا ولو لستة أشهر مع الفلاحين في البادية؛ فالنخب التي تدعي العقلانية كان ارتباطها بالواقع نظريا وليس عمليا على الأرض”[xii]كما أن هناك نزعة تبخيسية نحو المثقف المغربي لدرجة دفعت فاعلا سياسيا لدرجة دفعت فاعلا سياسيا من طينة محمد مزيان بلفقيه إلى الافصاح صراحة على :” إن بلادنا لا تنتفع الآن وبالقدر الكافي من آراء واجتهادات مفكريها، علما بأن هؤلاء موجودون بجامعاتنا، وفئة منهم ذات مستوى علمي وفكري وثقافي عالمي. [xiii]
فهل الأمر يتعلق بغياب أو تغييب دور المثقف المغربي خصوصا أننا في مرحلة انتقالية مفتوحة على جميع الاحتمالات من المفروض فيها أن يلعب المثقف دورا رائديا؟[xiv]
مجمل القول أن نخب المملكة اليوم مدعوة إلى أن تزيل صورة الانحطاط القيمي التي تولد في ذهنية المجتمع؛فارتكازها على نظام الامتيازات أو المكافآت أمسى اليوم متجاوزا بفعل ندرة الموارد الدولة من جهة وتطلع السلطة الحاكمة إلى الاستناد على معيار الكفاءة وهو الأمر الذي ما زال لم تستوعبه نخبة اليوم ذلك أن منطق العرض والطلب تغير في المعادلة السياسية مع العهد الجديد؛ حيث نلمس الاستناد على الأطر الشابة المتخصصة في مجالات دقيقة عوض فيما المجال التمثيلي المخصص للأحزاب السياسية ما زال يكتنفه قدر كبير من الضبابية بفعل منطق نظام قسمة الغنائم السائد في مخيلة النخب الحزبية لينعكس الأمر بشكل سلبي على المؤسسات التمثيلية؛ فالبرلمان المغربي أمست مناقشاته تتم بأربعة إلى خمسة نواب إلى جانب الوزير المعني بالسؤال فيما يتم التصويت على ميزانية الأمة بربع عدد النواب.
…………………………
1- ابن منظور (لسان العرب)–دار المعارف القاهرة.
[ii] باريتو” مقالة في العلم الاجتماعي …، الفقرة 2027 .
[iii] PARETO Vilfredo, Traité de sociologie générale(éd. originale en italien Florence,1916.Trad .Franç .Payot, Lausanne, Paris )1917-1919).
[iv] مقالة في علم الاجتماع العام، الفقرة 2057 )
[v] MILLS Charles Wright, The Power elite, Oxford University Press, New York, 1956 (red. 1967, trans. Franc. Paris, 1969).
[vi] -للمزيد من التوسع في هذه النقطة راجع دراستنا :تأملات أولية في التفكير الدستوري لمغرب ما قبل الحماية”مجلة فكر ونقد= العدد44 البيضاء ديسمبر 2004 ص60
– [vii] راجع نص الورقة التقديمية للندوة الوطنية في موضوع :إشكالية النخب في تاريخ المغرب ” كلية الاداب والعلوم الانسانية المحمدية يومي5 و4 ‘أبريل 2006
-[viii] راجع جون واتربوري:”أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية المغربية” ترجمة عبد الغني ابو العزم عبد الأحد السبتي عبد اللطيف الفلق ـ مؤسسة الغني ـ مطبعة فضالةـ الطبعة الثانية ـالمحمدية 2004ـص134
[ix] v.Ali Benhadou-Les Elites Du Royaume-p144
-[x] راجع الفصل السادس من الدستور المغربي الذي لم يشمله أي تعديل أو تغيير أو تحوير منذ أول دستور 1962 لسنة
[xi] V a ermakova : ratnikov %qu est ce les classes et la lutte de classes editions du progres moscou 1989 P122; 123
– [xii] راجع :”عبد الله حمودي: مصير المجتمع المغربي” سلسلة دفاتر وجهة نظر العدد5- الرباط 2004-ص9
-[xiii] راجع نص حوار مع مزيان بلفقيه جريدة الشرق الأوسط الاثنيـن 01 محـرم 1427 هـ 30 يناير 2006 العدد 9925
-[xiv] راجع مقالتنا :” تساؤلات حول إشكالية تجديد النخب بالمغرب ” جريدة الصحراء المغربية بتاريخ2006-06-22
……………………………………………….
عن موقع منبر الدكتور مخمد عابد الجابري