ما هي نتائج فهم البوطي للجدل الهيجلي؟.
من خلال فهمي المتواضع لهذه المقتبسات الفلسفية –الأحجية -لهيجل التي قدمها لنا البوطي, أجدها تفتقد كما رأينا إلى الوضوح المعرفي والتوثيقي, وبالتالي المصداقية, بل إن بعضها منقطع تماماً عن سياقه العام في النص, بحيث أن ما خفي منه قد لا يدل على ما توصل إليه فهم البوطي من نتائج, ومع ذلك فقد توصل البوطي حسب فهمه هو لها, أو كما أراد في فهمه لها, أن يقرر قضايا لا يريد هيجل ذاته أن يقولها, أو هو قَوَلَ هيجل ما لا يريد قوله, اما النتائج التي توصل إليها البوطي من خلال فهمه لهيجل وجدله بالرغم من أن بعض هذه النتائج لا تخلوا من الغموض أيضاً. فهي التالي:
1- إن بين الفكر والوجود المطلق وحدة حقيقية تتسامى على كل ما يبدو من مظاهر التغيير بينها.(19) .
2- إن حقيقة الشيء الموجود إنما تبرز إلى ساحة التشخيص, خارجة عن عالم الفكر – الوجود المطلق – عن طريق تلاحق الذرات الصغيرة للمادة أو الشيء هاربة من العدم, لاجئة إلى الوجود, وهو تلاحق مستمر. (20) .
3 – يترتب على ما سبق أن جميع الوقائع والموجودات الحسية المتناثرة حولنا, بكل ما قد يكتشفه الإنسان فيها من التحليلات والقوانين الطبيعية, ليس في حقيقته أكثر من ظواهر سطحية متناثرة, وقد تبدو متناقضة لها من ورائها جذور كلية عامة هي في الحقيقة روحها وباعثها والجامع المؤلف بين أشيائها, وهي كامنة فيه حيث يكمن “الوجود المطلق”. أي في أعماق الفكرة. (21).
4- إن أبرز ما يمتاز به منطق هيجل, هو (الديالكتيك), في كل من
المنهج والحقيقة, في الوسيلة والغاية. إن الديالكتيك يساوي عند
هيجل كما يراه ” البوطي”, (الحركة المتغيرة), ممتدة من أعمق أعماق الشعور ودنيا المجردات … لتنتهي عند علاقة ما بين الماهية والجوهر…فالديالكتيك إذاً, قانون لا بد من اعتباره في (القول), ولا بد من اعتباره في حركة الفكر والروح, ولا بد من أخذه بعين الاعتبار بصدد فهم الطبيعة. (22).
5- إن رحلة الكشف عن أي حقيقة تكمن في ساحة الطبيعة, أو تتجلى في علياء الروح, إنما تبدأ بنظر هيجل كما يرى البوطي من أطروحة مجردة تنشأ في أعماق الفكر “الوجود المطلق”, وتلك هي مرحلة نظام الشيء في ذاته – أي نظام الشعور – ثم تنعكس إلى الواقع لتتحول إلى (ماهية), و تلك هي مرحلة نظام الشيء من أجل ذاته. إذ يتولد من ذلك الوجود المطلق حقيقة ذات حدود وتعيينات خارجية تتشخص وتستبين بوساطة نقائضها التي تلامس أو تحتك بأقصى حدودها المحيطة بها من سائر أطرافها, ثم ترتد هذه الماهية إلى الفكر لتتركب مع الوجود الذهني, فتغدوا “مفهوماً”. وتلك هي مرحلة نظام الشيئ من أجل ذاته وفي ذاته معاً.(23) .
6- يتساءل :البوطي” ما الذي نصل إليه إذا ما فهمنا جيداً هذا المنطق الذي ينادي به هيجل؟. فيجيب: نصل إلى نتيجة هي : إن
الفكر الإنساني عامل كبير – بنظر هيجل – في إقامة بنيان متماسك للحقائق بأشكالها الطبيعية وفي إقامته روح الحركة والنمو في الموجودات, غير أن هذا الفيلسوف لا ينكر وجود الموضوعات الخارجة عن وعي الإنسان … بل ليشدّ على تقرير أن الطبيعة موجودة وجوداً حقيقياً بذاتها. والفيزياء التي تنشئها علماً هي من نظام الموضوعية.. وبهذه الملاحظة يظهر جلياً بين مثالية هيجل, والمثاليين الذاتيين, وهم الذين يرون أن الموجودات إنما توجد في إحساس الإنسان. فإذا لم يدركها الإنسان بحواسه, فلا وجود لها. (24). إن البوطي في الحقيقة يريد القول هما: بأن هيجل من أصحاب التيار الذي يقول بالمثالية الموضوعية, وهي المثالية التي تقول إن العالم ينشأ أو يخلق بفعل قوة موضوعية خارج نطاق الوجود المادي المحسوس أو المعاش, أي ما وراء الطبيعة. أي الخالق هو الله. وهذا ما قرره أخيراً بقوله:
7- ( ومن هنا, فإن هيجل مؤمن بالدين, ومؤمن بالله تعالى ولا ريب, ولكنه يؤمن به على طريقته الخاصة التي اكتشفها في منطقه وحدسه الفريدين.). (25)..
إذاً إن كل الذي توصل إليه الدكتور البوطي أو فهمه من قراءته لتلك المقتبسات الغامضة عن فكر هيجل التي جئنا عليها قبل قليل, هو أن “هيجل” رجل مؤمن بالله, وإنه استخدم فكرة جدله المعروف في المثل الذي أعطاه لتوضيح هذا الجدل وهو مثال (حبة القمح وساقها ثم ثمارها), هذا الجدل الذي قسمه في حركته (نفي النفي) إلى الأطروحة والطباق والعرض, للوصول عبر الاستنتاج المنطقي (لفهم البوطي) لعلاقة المادة والفكر وفقاً لهذه الأطروحة والطباق والعرض, التي قرر البوطي أن هيجل قد توصل من خلال عرضها إلى أن هناك فكرة مطلقة هي “الله”, فالخلق عند هيجل كما يراه البوطي يأتي من العدم , أي أن الواقع بكل مفرداته المادية والفكرية هو ناتج من العدم بقدرة الله.
عموماً لا أريد هنا أن أعلق كثيراً على نظرة هيجل تجاه العلاقة القائمة ما بين الواقع والفكر. أي ما بين الوقع والفكرة المطلقة, فكل الذي استطعنا معرفته في هذه المسألة, أن هيجل ينطلق من الفكر إلى الواقع, وهذا ما اقره البوطي وغيره الكثير ممن درس الجدل الهيجلي, بينما الحقيقة الهيجلية في هذه المسألة غير ذلك.
لا شك أن هيجل هو مؤسس الجدل “الديالكتيك” منهجياً, وأهم عنصر في هذا الجدل هو “الحركة”, والحركة تعني نفي للثبات, أي المطلق (الثابت), وبالتالي هذا يدفعنا للتساؤل هنا رداً على ما توصل إليه البوطي: كيف تتوافق الحركة مع الإطلاق عند هيجل؟. وهذا السؤال يفضي بنا بالضرورة إلى تساؤلات عدة آخري إذاً هي: ماذا يعني هيجل بالفكرة المطلقة التي جعلت البوطي يتوصل إلى أنها الله؟. هل هي فكرة مجردة خارج التاريخ؟. أم هي الله جل جلاله؟. أم هي هويّة الوجود, التي يصبح الوجود ذاته يُعرف بها؟, أي هي صورة هذا الوجود بكل معطياته.
فإذا كانت “الفكرة المطلقة” فكرة مجردة محض… فكرة خارج الوجود المادي للإنسان والطبيعة, وهي من يتحكم بتاريخ هذا الوجود كما فسرها البوطي, فهذا أمر لا يقره هيجل نفسه, الذي خرج من عباءته كما أشرت في موقع سابق, (الهيجليون الشباب مثل شتراوس وشتيرنر وفيورباخ وماركس ..) وغيرهم الكثير, ممن أسسوا للفلسفة المادية.
أما إذا كانت الفكرة المطلقة هي “الله”, فإن قانون الحركة في الجدل الهيجلي ذاته ينفي عملياً ونظرياً هذا الرأي أيضاً. أي: (إن الله يتطور ويتبدل دائماً كـ “فكرة مطلقة” وبتطوره وتبدله (أي تطور وتبدل الفكرة المطلقة) يتطور ويتبدل الواقع في كل مرة. فهذه الرأي ينافي حقيقة مسألة ثبات الله الذي (ليس كمثله شيء الذي يقول به التيار السلفي ومنه الأشاعرة الذين ينتمي لهم البوطي). هذا بالرغم من أن (اليمين الهيجلي) أي من درس هيجل على أساس الرؤية المثالية التي تبناها البوطي, حاول تفسير تعاليم هيجل بروح مسيحية أرثوذكسية كما فعل “فرانسوا شاتليه” الذي اعتمد عليه البوطي في رؤيته هذه, مستفيداً –أي فرانسوا شاتليه – من التناقضات وعدم الاتساق بين الفلسفة والدين في المذهب الهيجلي, وهذا ما اشتغل عليه “البوطي” ليخرج منها بتأليف بين العقل المطلق والدين. (26)
إن من يتابع فكر هيجل بوعي عقلاني مجرد, يجد أن الفكرة المطلقة) هي شيء آخر عنده, ربما نستطيع الوصول إلى حقيقتها في مقولة هيجل التالية :
(ليس الوجود والماهية إلا لحظتين من لحظات الفكر…ومعنى ذلك أن الفكر هو حقيقتهما, وهو أساسهما, لأنه الهوية التي تجمعهما معاً, … ومعناه أيضاً, أن الوجود والماهية تتضمنا البذور الأولى للفكرة الكلية. بمعنى آخر أن الفكرة الكلية ظهرت ضمناً في صورة الوجود, ثم تطورت في صورة الماهية, وبعد ذلك ظهرت في صورة الفكر. والفكرة الكلية في النهاية تظهر في صورة الفكرة المطلقة, والفكرة المطلقة وجود, وهي الطبيعة .).(27)
إذاً إن الفكرة المطلقة وفقاً لرؤية هيجل ذاته ليست هي (الله كما قرر اليمين الهيجلي ومن بعدهم (البوطي). بل هي الطبيعة بعد أن انعكست فكرة كلية (صورة), ثم راحت الطبيعة وفكرتها (صورتها) تلتحمان مع بعضهما لتشكلان ماهية الأشياء الموجودة في الطبيعة, وأخيراً لتظهر الفكرة الكلية في صورة الفكرة المطلقة التي هي الوجود, أي الطبيعة. ولكي نوضع هذه الفكرة بمثال مدرسي بسيط نقول: البرتقالة وجود طبيعي. والبرتقالة تنعكس في ذهن الإنسان لتشكل فكرة (صورة البرتقالة) وهي الفكرة الكلية. والبرتقالة كوجود مادي تلتحم مع فكرتها الكلية (صورتها) لتشكل الماهية, التي تعني أن كلمة برتقالة إذا ماذكرت أمامنا يخطر في ذهنا مباشرة صورتها حتى لو لم تكن موجودة, وأخيرا فإن مجموع (الماهيات) التي تعبر عن مفردات الكون (الطبيعة والمجتمع) تشكل الفكرة المطلقة..
أما بالنسبة لمثالية هيجل التي اعتقد بها الكثير من قراء هيجل, فهناك الكثير من الآراء والأفكار التي طرحها هيجل نفسه, تدحض هذه المثالية.
يقول هيجل في “فينومينولوجيا الروح” عن الحرية: ( إن حرية الفكر لا تأخذ سوى الفكر المحض على أنه حقيقتها, وهذا ينقضه الامتلاء العيني بالحياة, ومن ثم , فإن حرية الفكر هي مجرد فكرة الحرية, لا الحرية نفسها.) (28), لذلك جاءت الحرية عنده بأنها (وعي الضرورة) أي وعي حاجات الإنسان المادية والروحية… أي معرفة القوانين الموضوعية للوجود المادي (الطبيعة والمجتمع) التي تتحكم بحياة الإنسان وتعيق مسيرة تقدمه الحياتية. وهذه الفكرة قد أخذها عن “سبينوزا”.
ثم يقول أيضاً في “فلسفة الحق” عن الإرادة : ( هذه الإرادة ليست مجرد إمكانية وقدرة, بل هي إلا متناهي في الواقعية.) (29). ويقول أيضاً في ” محاضرات في فلسفة الدين”: إن حرية الإنسان لا
تقوم إلا بمعرفة إرادة الله , أما الله فهو سعينا الأبدي نحو تحقيق
الاكتمال وتجلي الحقيقة الكلية في خاتمة البشري, مع سقوط كل قيد وقسر وجور وظلم واستلاب واغتراب.), (30). وهو بهذا المقولة قد وضع برأيي النقاط على الحروف أخيراً في مسألة الفكرة المطلقة, وتعريفها.
إذاً إن الله هنا وفي هذه المقولة أيضاً, ليس الفكرة المطلقة التي عناها البوطي, أو اليمين الهيجلي وإنما هو سعينا الأبدي الذي يصل فيه الإنسان (البشرية) إلى تحقيق العدالة المطلقة للإنسان .. فالله هو الخير المطلق الذي يحققه الإنسان بنفسه عبر وعيه لنفسه وما يحيط به وعبر ممارسته أيضاً. طبعاً بغض النظر هنا إن اختلفنا أو اتفقنا على مفهوم الله كما ورد عند هيجل, إلا أنه ليس الفكرة المطلقة بصورتها الإسلامية الأشعرية التي يريدها البوطي. مثلما تؤكد هذه المقولات مادية هيجل وتنفي مثاليته وإطلاقيته التي حاول اليمين الهيجلي تشويهه بها, وربما هناك من حاول تشويهه أيضاً من بعض تلامذته الفلاسفة من الهيجليين الشياب, وعلى رأسهم ماركس ذاته, محاولين ادعاء الجدل المادي لهم, بعد أن لمسوا عنده بعض الغموض في توضيح مسألة الجدل ذاته, بسبب شدّة ضغط سلطة الكنيسة في ألمانية التي كانت تحارب الفكر المادي وتقمع مناصريه ومنتجيه من الفلاسفة.
كاتب وباحث من سورية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
19- المرجع نفسه. ص 20.
20- المرجع نفسه. ص 21.
21- المرجع السابق. ص 22
22- المرجع نفسه – ص 25.
23- المرجع نفسه. ص 25.
24- مرجع سابق. ص 27.
25- المرجع نفسه. ص
26- عدنان عويّد- رأسمالية الدولة الاحتكارية- دار التكوين –دمشق- 2009 ص 140
27-. (راجع مجلة الطليعة – العدد – /9/ أيلول 1970 – ص 141.
28- الطليعة – المرجع السابق. ص 146.
29- الطليعة – المرجع السابق. ص 146.
30- الطليعة – المرجع نفسه –ص143