أحمد عصيد

 

ما زال بعض المغاربة في النقاش العمومي يتداولون صيغا بلاغية جاهزة اعتمدت منذ عقود سابقة، بينما من بديهيات هذا النقاش الحيوي عدم العودة إلى الوراء، أو التشكيك في المكتسبات.
لقد كان السبب الذي يجعل الكثيرين يغرقون المطالب الأمازيغية اللغوية والثقافية في متاهات موضوع الأصول العرقية، التي لم تكن قط موضوعا لمطالب، هو صرف النظر عن أشكال الميز الثقافي التي كانت تمارسها الدولة في الفضاء العام.
ومن بين نتائج هذا الربط “الذكي” بين الأمازيغية وأسطورة العرق والأصل، أننا كنا نواجَه من قبل زعماء سياسيين بخطاب فحواه أنّ الأمازيغ قد شغلوا ويشغلون المناصب العليا للدولة حيث منهم الوزراء والمدراء والجنرالات والأغنياء، كما أن المغاربة قد تمازجوا وتزاوجوا فيما بينهم مما يجعل طرح مطالب أمازيغية غير ذي معنى سوى المزايدة، إلى غير ذلك من الكلام الساذج الذي يقصد به التعمية وخلط الأوراق. والحقيقة أن هذا الأسلوب في الالتفاف على مشكل حقيقي قد دشنه بعض رواد الحركة الوطنية الذين كانوا يعترفون بوجود “البرابر” بوصفهم عنصرا بشريا دون أن يعترفوا بوجود لغة خاصة بهم. إذ لغتهم هي اللغة الرسمية للدولة، ولعل مقالة الزعيم الاستقلالي الراحل علال الفاسي المنشورة بمجلة “اللسان العربي” العدد الثالث سنة 1965 تحت عنوان “فعالية اللغة العربية”، تعبر عن هذا التوجه خير تعبير.
واليوم وبعد أن مرّت مياه غزيرة تحت الجسر المغربي، وانتقلنا إلى اعتراف دستوري يقرّ اللغة الأمازيغية لغة رسمية للبلاد بجانب اللغة العربية، نرى من اللازم إيراد الملاحظات التالية حتى نضع في الصورة بعض مواطنينا من الذين مازالوا يطرحون إشكاليات متقادمة:
ـ أن الفاعلين المدنيين والسياسيين والحقوقيين الذين رفعوا المطالب الأمازيغية منذ عقود لم يعتبروا قط أنّ من أهدافهم أو مطالبهم أن يكون تولي المناصب العليا بالأصل والعرق والنسب، وإنما كانت مطالبهم مركزة حول فكرة المساواة ورفع الميز بجميع أنواعه.
ـ أنّ السلطة كانت تختار لمناصب الحكم والترؤس من هو أكثر امتثالا لتوجهاتها وخدمة لها من كل الإثنيات والأعراق والأصول الأمازيغية أو الأندلسية أو العربية أو اليهودية أو الإفريقية، غير أن الجانب الثقافي كان يتمّ تدبيره وفق سياسة مرسومة سلفا تتحدد في الشعار العام الذي هو “العروبة و الإسلام”، وليس حسب أنساب الوزراء والمدراء والجنرالات، ولهذا كان الأندلسي يستطيع أن يخدم ثقافته العربية الإسلامية داخل دواليب الدولة بميزانية الشعب بينما لم يكن الأمازيغي يستطيع ذلك، لأنّ الغلبة للذي تنسجم ثقافته مع ثقافة الدولة المركزية، و لهذا فضّلت النخبة الإدارية الأمازيغية ـ التي كانت انتهازية ـ أن تندمج في الإختيارات الرسمية على الإنتحار والتعرض لانتقام “المخزن”. هذا ما جعل تولّي الأمازيغ للمناصب العليا لا يغير شيئا من سياسة الدولة تجاه ثقافتهم و هويتهم.
وقد ظلت النخبة الثقافية الأمازيغية وحدها تحمل الخطاب المعارض لتوجهات السلطة في موضوع الهوية والتاريخ واللغة والثقافة، وهو إشكال جوهري ولم يكن مفتعلا أو مجرد قناع لطموحات سياسية كما يعتقد ذوو النظر السطحي. فإذا كان محمد أوفقير قد استطاع بلوغ قمة هرم السلطة فلأنه أظهر طوال الستينات براعة في التقتيل والفتك والتعذيب لصالح النظام و ليس لأصله البودنيبي، و إذا كان الوزير “العروبي” ادريس البصري قد استطاع بدوره أن يتربع على رأس “أم الوزارات” فلأنه أظهر حنكة نادرة في الولاء والتزوير وتولي الغسيل الوسخ للسلطة، وإذا كان “أهل فاس” أو من يسمّون كذلك قد تمكنوا قبل ذلك من الإستيلاء على معظم مناصب السلطة ومراكز النفوذ والثروة منذ بداية الستينات فلأنهم قرروا التحالف مع السلطة ضدّ المعارضة اليسارية في تمرير دستور 62 أصل الكثير من النكبات والمصائب.
ـ أما فكرة التمازج العرقي فهي حقيقة لا تحتاج إلى بحث أنثروبولوجي لإثباتها، غير أنها غير قابلة للإستعمال ضدّ الحقوق الثقافية واللغوية أو ضدّ الخصوصيات التي هي أيضا حقائق دامغة، فإذا كنا قد تمازجنا فإنّ ذلك ليس دليلا على عروبتنا الخالصة أو أمازيغيتنا الخالصة، أو إسلامنا الذي لا تشوبه شائبة، و إنما ينبغي أن يصوغ التمازج وعينا بانتمائنا المتعدّد المستويات، بوصفه مرتكزا سوسيوثقافيا لسنّ سياسة عادلة في تدبير التنوع تدبيرا عقلانيا واستثمار الخصوصيات بوعي حداثي منفتح.
ينبغي الإنتباه إلى أن الخطاب الأمازيغي لا يطرح الإشكال العرقي أصلا عوض الاستمرار في اللجوء إلى ذرائع العرق والفتنة والتقسيم للتشكيك في مطالب عادلة.
إنّ المقارنة بين منطق البعض وما وصل إليه الفكر الحقوقي وطنيا وعالميا يظهر مقدار ما ينتظرنا من عمل حتى يفهم الناس معنى الديمقراطية، ومعنى أن تنتقل الأمازيغية من الهامش المنسي إلى مقام الترسيم، والسؤال المطروح هو كيف يمكن إقناع السلطة بإنجاح الانتقال الشامل نحو الديمقراطية، وبحسن تدبير التنوع، إذا كان سياسيون وجامعيون ومواطنون من خارج مواقع المسؤولية، والذين استفادوا من قدر من التعليم غير مقتنعين بالحلّ الديمقراطي، ويهدفون على عكس ذلك إلى الحفاظ على وضع غير عادل، وإنكار الحقائق وإخفاء الواقع ؟

أحمد عصيد

عن موقع اش بريس

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…