تعود عبارة النزعة الطبقوية، في ما نعلم، إلى المرحوم ياسين الحافظ في بعض نقده لليسار العربي، فقد استخدمها للتمييز بين التحليل الطبقي، المستند إلى مفاهيم المادية التاريخية، وبين المغالاة والغلو في ذلك التحليل في مناسبات وموضوعات غير ملائمة، أو لا تقبل إعمال مفاهيم الطبقة والصراع الطبقي والموقف الطبقي وما في معناها من المفاهيم.
وواو النسبة المضافة إلى الطبقة إنما هي لوصف تلك المغالاة، وبيان الحد الفاصل بين الدلالة الأصل للمفهوم واستخدامه غير المطابق في الخطاب اليساري، أو – كما يسميه هو تمييزاً له من اليساري- والخطاب اليسراوي.
ومع أن النقد الفكري لهذه النزعة معروف في الأدب الماركسي العالمي، ومتداول في مدارسه النقدية المختلفة الناهلة من كتابات أنطونيو غرامشي، إلاّ أن تسميتها العربية بالطبقوية صناعة حافظية بامتياز.
وُلدت النظرة الطبقوية إلى المجتمع وبناه وعلاقاته في البيئات الفكرية والسياسية الماركسية لسبب معلوم، هو أنها البيئات التي تأخذ بمبدأ التحليل الطبقي للظواهر الاجتماعية، وتتخذ من مفهوم الطبقة الاجتماعية المفهوم المركزي في النظر إلى المجتمع وصراعاته، وليس من حاجة إلى الإفاضة في بيان اتصال مفهوم الطبقة بفكر كارل ماركس وإشكاليته الفكرية، ومساهمته الرئيسة في البناء النظري لهذا المفهوم في سياق تحليله تناقضات البنية الاجتماعية الرأسمالية، كما ليس من حاجة إلى بيان اتصال مفهوم الطبقة بشرط تاريخي- اجتماعي خاصّ هو ميلاد المجتمع الصناعي، المجتمع الذي أعاد تشكيل العلاقات الاجتماعية، وتوزيع الفئات الاجتماعية السابقة، مثلما ولد تكوينات اجتماعية جديدة من أخرى سابقة من خلال البلترة، أو وسع من نطاق شرائح اجتماعية شبه صغيرة وحولها إلى طبقات كبرى مثل الطبقة الوسطى.. الخ، ولكن هناك حاجة إلى القول إن إهمال هاتين الحقيقتين كان في أساس بعض الانحراف الطبقوي في تحليل المجتمع.
الطبقوية تزيد في التحليل الطبقي للظواهر الاجتماعية وتناقضات البنية الاجتماعية، كل شيء في هذه النزعة يرتد إلى أساس طبقي هو “وحده” الذي يفسره: من الصراعات السياسية والنزاع على السلطة، إلى التعبير الأدبي والفني مروراً بالاقتصاد والقيم الاجتماعية والدين والتربية والإنتاج الفكري.. الخ! المجتمع، في هذه النزعة، يتنفس هواءه الطبقي الذي هو بيئته، وظاهرات هذا المجتمع إنما هي ترجمات مختلفة للناموس الطبقي الحاكم فيه، ومن لا يحكم الربط بينها ومبدئها الذي منه تصدر كمن لا يقف على علاقة السببية بين المقدمات والنتائج، يزيد معدل الطبقوية كثيراً حين تكون الظواهر المبحوثة من جنس قريب كالاقتصاد والاجتماع والسياسة، ويخف – من دون أن يضمحل- حين يكون موضوعها الثقافة والفكر والدين، والسبب في خفوت اللغة الطبقوية ليس الاعتراف منها باستقلال نسبي ما للمجال الثقافي والروحي (أو الإيديولوجي كما تسميه) – لأنه عندها مجرد انعكاس للبنية التحتية في نظرة ماركسية مبتذلة من النمط الستاليني- وإنما، فقط، لعسر العثور على الرابط بين التعبير الرمزي والجذور الطبقية.
مع ذلك كله، سادت تصنيفات عديدة، طبقوية للغاية، من قبيل الثقافة البرجوازية والثقافة البروليتارية، والأدب الثوري والأدب الرجعي، والثقافة البرجوازية الصغيرة.. إلخ، وساد الاعتقاد – في البيئات الطبقوية- بأن الدين جزء من منظومة الإيديولوجيا السائدة للطبقة المسيطرة: أي البرجوازية، ووقع التمييز القاطع بين القيم الاجتماعية البرجوازية والقيم، الاجتماعية الاشتراكية، وازدهر نقد أدبي مأهول بمفردات ومفاهيم المادية التاريخية: الطبقة، البنية التحتية والبنية الفوقية، علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، الموقف الطبقي وما في معنى ذلك، حتى أن النص الأدبي – الروائي أو المسرحي أو الشعري- لم يعد يلتفت إلى جمالياته وحبكته وصنعته، وإنما ينظر إليه – مصراً- بما هو فضاء للتعرف على رموز الطبقات والتكوينات الطبقية فيه، وعلى الموقف السياسي للمبدع وموقعه الطبقي.. إلخ!
كلما اتجهنا نحو الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ارتفع معدل الطبقوية أكثر في النظر إلى ظواهرها، لا تحليل يمكن لظاهرة اقتصادية إلا بالطبقات. يستوي في ذلك تحسن الإنتاج ونسبة النمو مع المجاعات أو نفوق الأسواق، إذا نجحت خطة اقتصادية للدولة أو فشلت، فلها تعليل طبقي، وإذا أفلست شركة أو منشأة إنتاجية فتفسير ذلك في أزمة البرجوازية المالكة للمشروع، أو في النضال النقابي للعمال.
إذا انهارت أسهم البورصة، ففي التناقضات الطبقية بين البرجوازية الصناعية أو التجارية والبرجوازية المالية بيان العِلة في ما أصاب “سوق المال”، وهكذا دواليك! وإذا جرت انتخابات، لابد من تحليل نتائجها بصراع الطبقات، وإذا تكونت حكومة، لابد من فحص دمها الطبقي ليعلم من أي الطبقات هي، وكيف قام التحالف فيها بين الفئات. وقل ذلك في الأحزاب التي تتصنف على مقاس الطبقات، وفي برامج السياسة التي هي، في النهاية، بيان للطبقات، حتى الحروب إنما عرفت بكونها حروب البرجوازية على مصالح طبقية، بل حتى الوطن إنما هو – في عرف هذه النزعة- مصلحة طبقية!
صوب أي وجهة وليت وجهك في المجتمع ثمة طبقات تجثم حقيقتها على الوعي: وإن هو عنها ذهل. وما وظيفة التحليل الطبقي – في هذا المنظور الطبقوي- سوى تبديد ذلك الذهول ورفعه، عند من أصيب به، من طريق بيان حاكمية الطبقية والطبقات لكل شيء في الحياة! والتحليل هذا، عند معتنقيه، هو العلم الصحيح بالمجتمع والتاريخ، حيث لا علم يمكن أو يجوز سواه، ومن يدعي غير ذلك فهو يرتل موقفاً طبقياً مناهضاً لفكر التاريخ.
هكذا تحوّل مفهوم الطبقة، مع الطبقويين، إلى كائن ميتافيزيقي، مطلق الوجود في المكان والزمان! في أي ظرف تاريخي يَحُل ضابطاً للواقعات والحوادث، وفي أي موقع من المجتمع يتحيز حيز الفاعل. إنه الروح في بدن المجتمع والتاريخ، والجوهر الذي لا يلحقه التغير.
الأربعاء, 19 نوفمبر 2014
عن التجديد العربي