عن موقع انفاس

“إن الامتثال للقانون الذي نلزم أنفسنا به هو حرية”روسو

أن تكون كائنا حرا، معناه أن تفعل ما تشاء. بيد أن هذا المعنى، يفهم في نطاق معان شتى ومتنوعة. يحيل المعنى في البداية إلى حرية فعل التصرف، أي إلى حرية الفعل. وأي معارضة لها تعد فعلا من أفعال الإكراه أو الإعاقة أو الاستعباد. “فليست الحرية، بتعبير هوبس، شيئا أخر غير كونها غياب كل الموانع التي من شأنها أن تعترض أي حركة، فهي أشبه بماء محجوز في إناء لا يتمتع بحرية الانسياب. لكن ما أن يتم تحطيم الحواجز، حتى يسترد الماء حرية انسياب جريانه. وبهذا المعنى يتمتع شخص ما إلى هذا الحد أو ذاك بحريته وفق فضاء معطى له”. أي أنني أكون حر التصرف، حينما لا يعترضني شيء أو شخص ما. فهذه الحرية لم يسبق لها أبدا أن كانت مطلقة (هناك دوما موانع) ونادرا ما تكون منعدمة. فحتى السجين مثلا، بمقدوره في العادة أن يظل في زنزانته قاعدا أم منتصبا، متكلما أم متكتما، معدا لعملية فرار أو مداهنا لحراسه… فلا أحد من المواطنين، وفي أية دولة يستقر في كنفها، بمستطاعه أن يفعل ما يشاء: فالآخرون والقوانين هي بمثابة إكراهات يستحيل القفز عليها دون مخاطر أو مجازفات. لهذا السبب، نتحدث مرارا، بغاية الإشارة إلى هذه الحرية ذاتها، عن المعنى السياسي للحرية؛ لأن الدولة هي القوة الأولى التي تقيدها وهي، بلا أدنى شك، الوحيدة القادرة على ضمان بقائها. فالحرية تستمد أساسا عظمتها من ديمقراطية ليبرالية أكثر مما تستمدها من دولة كليانية، بل ومن دولة الحق عوض استمدادها من حالة الطبيعة:لأن القانون هو الذي يسمح وحده للحريات أن تتعايش فيما بينها بدل أن تتعارض، ولأَن تتقوى(حتى وإن كان بعضها يحد البعض الآخر بشكل متبادل) أفضل من أن تتهاوى كلها. فحيثما “يغيب القانون، تنعدم الحرية أصلا.

ذلك أن الحرية- كما عاين ذلك جان لوك- تقتضي أن تنأى عن أي فوضى أو عنف يصدران عن الغير: وهذا ما لن يتحقق في ظل غياب القانون”. فهل الدولة بهذا المعنى تحد من حريتك؟ طبعا هذا أمر لا ريب فيه، إلا أنها أيضا تحد من حريات الآخرين، وتظل عملية الحد من الحريات هذه هي وحدها التي تمنح لحريتك حق الوجود. فكل حياة فارغة من القوانين هي أشبه بحياة غاصة بالآلام والمخاوف والعنف. فما جدوى حرية يحيا فيها الفرد باستمرار حياة فزع وتهديد؟
 فأن يكون المرء حرا إذن، يعني أن يفعل ما يشاء: يتعلق الأمر بحرية الفعل، حرية بالمعنى السياسي للكلمة، حرية فيزيائية نسبية.إنها الحرية كما سبك جوهر معناها هوبس، لوك وفولتير:(“الحرية ليست إلا القدرة على التصرف”)؛ و من ثمة، فهي الوحيدة، على ما يبدو، التي لا يمكن أن نجادل في واقعيتها ولا ثمنها.
لكن:هل فعلا نحن أحرار بأن نشاء ما نريد؟ سؤال يقود تفكيرنا توا إلى المعنى الثاني لكلمة حرية، أي حرية الإرادة، الحرية بالمعنى الميتافيزيقي، أو الحرية المطلقة حسب زعم البعض، بله حرية فوق-طبيعية. إن المعنى الفلسفي للحرية يظل أكثر استشكالا وأكثر أهمية.
لنضرب على ذلك مثلا: في دولة كالدولة الديمقراطية الجديرة بأن تنعت بهذا الاسم، فأنت حر في التصويت على من تشاء من المرشحين أثناء لحظة الانتخاب. بل أنت حر حرية كاملة ومطلقة في التصرف، أثناء عملية الاقتراع السري(التي تبقى خاضعة للائحة المرشحين في حضورهم)؛ فأنت تتمتع فعلا بحق التصويت على من تشاء. فالحرية السياسية تعني حرية التصرف.
لكن:هل تملك أيضا حرية الإرادة في التصويت على هذا أو ذاك؟ فإذا كنت منتميا إلى معسكر اليمين، فهل لك حرية الإرادة في التصويت على قوى اليسار؟ وإذا كنت، في المقابل، منتميا إلى معسكر اليسار، فهل إرادتك حرة في التصويت على قوى اليمين؟ أما إذا كنت لا تنتمي إلى أي جبهة يسارية كانت أم يمينية، فهل أنت حر في اختيار أحد منهما؟ وهل تمتلك القدرة على أن تختار، بشكل حر، آراءك، رغباتك، هواجسك، ومتمنياتك ؟ وكيف يكون كذلك، مادام هذا الاختيار يصعب أن يتحقق- ما عدا في حالة السقوط في اختيار اعتباطي خالص والذي لن يكون اختيارا واحدا- إلا باسم أراء أخرى، رغبات أخرى، مخاوف أخرى، ومتمنيات أخرى؟ فأن يكون تصويتك تصويتا من قبيل الصدفة، معناه أن تصويتك هذا فاقدا للحرية. أوليس التصويت على من نريد، يعد بمثابة سياج للإرادة و خضوعا لحتمية الأسباب (الاجتماعية والنفسية والإيديولوجية ….)؟ فنحن نختار بتأثير من آرائنا. لكن من يختار آراءه ؟
 كتب سبينوزا في هذا الصدد:“يتصور الناس أنفسهم أحرارا لكونهم واعون بما يريدون وبما يرغبون دون أن يفكروا قيد أنملة، حتى في أحلامهم، عن الأسباب التي تدفعهم إلى اللهاث وراء رغباتهم وإراداتهم دون أن تكون لديهم أي معرفة بها”. فهل أنت فعلا تقوم بما تشاء؟ بكل تأكيد! لكن، لماذا تشاء ذلك؟ فمن البين، أن إرادتك تعد جزءا من الواقع؛ لأنها بدورها خاضعة ، مثلها في ذلك مثل باقي الأشياء الأخرى، لمبدأ السبب الكافي (لاشيء موجود دون سبب: فالأشياء كلها قابلة للتفسير)، وكذلك خاضعة لمبدأ العلية (لاشيء يولد من عدم)؛ففي النهاية تبقى الكائنات الماكروسكوبية خاضعة لمبدأ الحتمية العام. وبما أنه لا يمكن أن ينطبق هذا المبدأ على الكائنات الميكروسكوبية، لأن ما يوائمها هو مبدأ الارتياب التام (مبدأ سبق أن اعتقدت به الأبيقورية وأثبتت صحته اليوم فيزياء الكوانطا)، فلن تكون أقل حتمية، على المستوى البيو-عصبي، من خلال الذرات التي تتركب منها. فإن ثبت علميا أن حركة الذرات خاضعة للصدفة، فمن المستبعد أن تخضع لإرادتك. بل إن الإرادة هي بالأحرى من سيتعلق بها.و بما أن الصدفة ليست حرة؛ فكيف يحق لإرادة خاضعة للصدفة أن تكون حرة؟
 هناك سر يقاوم النفاذ إليه أكثر من مخدع التصويت: إنه سر الدماغ الذي ليس بمقدور أي أحد، حتى أنت نفسك، أن ينفذ إلى تجاويفه. فأي ورقة من أوراق التصويت التي ستضعها في الغلاف؟ فهل يوجد لديك الخيار للإدلاء بالتصويت على من تريد؟ هذا أمر مؤكد، لكن هل أنت على دراية بالآلية العصبية التي منحتك فعل الاختيار؟
 إن اختيارك هذا يظل في النهاية، إن افترضنا أن تصرفك تصرف حر، خاضعا لما تكونُه. كما أن بإمكان ملايين من الناس، أن يختاروا التصويت على نحو مختلف.والحال، متى اخترت أن تكون أنت عوض أن تكون آخر؟
إنها بلا ريب المشكلة الأكثر استعصاء على الحل.ذلك أنه إذا لم أختر الذات التي تختار الـ“أنا”، فإن جميع الاختيارات التي أقوم بها، تظل محددة بما أكونه، والتي لم يكن لي دخل في اختيارها، وبالتالي لن تتاح لي أبدا الحرية في صناعة تلك الاختيارات. لكن كيف بإمكاني أن أختار ما أكونه، مادام أن كل اختيار متوقف على هذا الاختيار، ومادام أني غير قادر على أن أختار أي شيء إلا شريطة أن أكون سلفا إما إنسانا أو شيئا؟
 إن هذا الأمر يصب في المسألتين اللتين يطرحهما ديدرو في كتابه “جاك القدري”وهما:“هل بالإمكان ألا أكون أنا؟ و انطلاقا من كوني أنا، فهل بمقدوري أن أريد شيئا أخر غير ذاتي؟”لكن، إذا كان الأنا سجنا، فكيف يستطيع، والحالة هذه، أن يكون حرا؟
 لن نتسرع في أن نستنتج مما سبق عدم وجود حرية الإرادة، أو أنها مجرد وهم محض. أن يكون المرء حرا، كما قلت، معناه أن يتصرف وفق ما يريده. أن يمتلك المرء حرية الإرادة، يعني أن يريد ما يريد. إني أضمن أن لا تنعدم هذه الحرية أبدا، لأنه كيف بالإمكان ألا نريد ما نشاء أوأن نريد شيئا أخر؟
 وبعيدا عن القول بعدم وجودها، فإن حرية الإرادة ستؤول بالحري، وبحسب هذا المعنى، نوعا من اللغو: فكل إرادة مآلها الحرية كما ذهب إلى ذلك الرواقيون، وبهذا المعنى، تغدو الكلمات الثلاثة الآتية“حر وتلقائي وإرادي”كلمات مترادفة (كما قال ديكارت عن الفعل الذي هو في طور الإنجاز). إن هذه الحرية، والتي اعترض على وجودها قلة من الفلاسفة، هي التي يمكن نعتها بتلقائية الإرادة. إنها الحرية عينها كما حدد معناها فلاسفة أمثال: أبيقور، إبكتيت، بل أيضا، وعلى نحو أساسي، معنى أرسطو، ليبنيتز، و برغسون.فهي، بهذا المعنى، حرية الإرادة أو هي بالأحرى ، الإرادة نفسها من حيث إنها لا تتعلق إلا بأناي (و حتى هذا الأنا ذاته سيكون خاضعا لإشراطات محددة):فأنا حر في أن أريد ما أشاء، لهذا السبب أكون كذلك بالفعل.
هل أأتمر بأوامر دماغي ؟فليكن؟ لكن إذا كنت أنا و دماغي شيئا واحدا، فهذا معناه أن ذاتي إذن تأتمر بذاتها. فإذا كنت محكوما بما أكونه، فهذا أمر يبرهن على أن حريتي غير مطلقة أكثر مما يبرهن على انعدام وجودها: فالحرية ليست شيئا أخر، بحسب هذا المعنى، سوى سلطة محكومة بأن تحدد نفسها بنفسها. فالدماغ، حسب ما ذهب إليه علماء البيولوجيا العصبية، هو عبارة عن“جهاز تنظيم-ذاتي مفتوح”. هب إني متعلق به، فالأمر سيان بالنسبة لي. غير أن الخضوع لما نكونه (لا لشيء أخر)، هو التعريف نفسه لمعنى الاستقلالية! فلنا الحق في الكلام عن إرادة خاضعة لمحددات معينة، وذلك من أجل الإشارة إلى أنها غير موسومة لا بالخضوع ولا بالهشاشة.فالحتمية ليست ذلك الوجه الآخر المتعارض مع الحرية: إنها الحرية بالفعل.
 فما تبقى ليس ذا أهمية. فسواء تعلق الأمر بالدماغ أو بروح لامادية.فالكائن الحر، يبقى في كلتا الحالتين دوما متوقفا على ما نكونه. و لا يتوقف، من حيث المبدأ، إلا على هذا الوضع. وبتعبير برغسون:“نكون أحرارا، حينما تنبع أفعالنا من شخصيتنا بكاملها، وحينما تعبر عنها، وحينما تغدو وحدة الشخصية وأفعالها متشابهة تشابها غير قابل للتحديد كما نجده أحيانا بين الفنان وعمله”.فمما لاشك فيه، أن الفنان رفائيل ليس له خيار أن يكون رفائيل أو ميكائيل آنج. لكن بعيدا عن هذا كله، من يمنعه من أن يرسم بحرية، بل إن ذاك الشيء المخالف هو الذي يتيح له أن يبدع.كيف بالإمكان أن يصير العدم شيئا حرا؟ كيف يحق لكائن مجرد أن يكون قادرا على الاختيار؟ وفي عبارة أخرى ل“برغسون”: سنزعم أننا سنستسلم للتأثير القاهر لمزاجنا“، ليلاحظ بعد ذلك مباشرة أن هذا الاعتراض غير ذي جدوى؛”لأن مزاجنا هو نحن“؛ وأن يكون المرء متأثرا بذاته(وكيف لا يكون كذلك؟) معناه بالتحديد أن يكون حرا. ، ويستنتج برغسون قائلا”وبإيجاز، ، إذا جاز لنا أن ننعت كل فعل حر، هو ذاك الفعل الذي ينبع من أناي، ومن أناي وحدها، فإن الفعل الذي يحمل علامة شخصنا، هو في الحقيقة فعل حر؛لأن أناي وحدها من يحق لها أن تطالب بأبويتها لذلك الفعل“. وهذا ما أسميه بتلقائية الإرادة. وإذا كانت خاضعة لمحددات معينة، فهذا لا يمنعها من أن تكون هي نفسها محدِدة لغيرها:لأن ليس بمقدورها أن تكون محددة لغيرها، إلا لأنها هي ذاتها محكومة بإشراطات معينة. فأنا لا أريد أي شيء؛ وإنما أريد ما أريد.وهذا ما يشعرني بأني حر في أن أريده.
 حسنا، فليكن الأمر كذلك. لكن: هل أنا أيضا حر في أن أريد شيئا أخر غير ما أريد؟ هل يمكن اعتبار إرادتي سلطة تلقائية للاختيار(وبعبارة أخرى، سلطة لا تخضع إلا لما أكونه) أو لسلطة غير خاضعة لأي محددات للاختيار(هي سلطة غير خاضعة لأي شيء، بل حتى لما أكونه).فهل هي إذن، بهذا المعنى، حرية نسبية(في حالة بقائها متعلقة بذاتي) أم مطلقة(حتى وإن كانت أناي تابعة لها). فهل أنا فقط حر الإرادة، على سبيل المثال، في الإدلاء بصوتي لقوى اليمين، إذا كان انتمائي السياسي يمينيا أم الإدلاء بصوتي لليسار، إذا كان توجهي السياسي يساريا(تلقائية الإرادة:أختار من أريد)، أوأنا حر أيضا في الإدلاء بصوتي لليمين أو لليسار، مما يفترض، ما عدا في حالات خاصة، بأن أختار، وبشكل حر، أن أكون يمينيا أو يساريا؟ إن هذه الحرية الثانية للإرادة ذات المسحة الغريبة طبعا (مادامت في ما يبدو خارقة لمبدأ الهوية: قد تفترض بأني قادر على ابتغاء شيء أخر غير ما كنت أريده)هي تلك الحرية التي كان الفلاسفة يسمونها أحيانا حرية اللامبالاة، أو الإرادة الحرة في أغلب الأحيان.مارسيل كونش يصيغ تعريفا تاما لها:”إنها السلطة التي تقرر ذاتها دون أن تكون محددة بأي شيء أخر“إنها الحرية بالمعنى الذي كان يقصدها ديكارت، كانط وسارتر.فهي تفترض بأن ما أفعل(وجودي) غير محدد بما أكونه (ماهيتي)، بل أبدعه وأختاره اختيارا حرا.” فما فهمه ديكارت فهما جيدا، كتب سارتر، هو أن مفهوم الحرية يطوق مطلب استقلالية مطلقة، وأن فعل الحرية كان إنتاجا جديدا كل الجدة، بحيث لا يستطيع الأصل أن يكون متضمنا في حالة سابقة عن العالم، وبالتالي تغدو الحرية والإبداع شيئا واحدا“لهذا الأمر، فإن هذه الحرية لن تكون ممكنة، كما رآها سارتر، إلا في حالة أن يصير”الوجود سابقا على الماهية“. فكون الإنسان كائنا حرا، يعود إلى كون”وجوده أولا لاشيء“حسب تعبير سارتر. ولا يصير كذلك إلا بما”يصنعه بذاته“. فأنا لست حرا، إلا بشرط – وهي مفارقة بلاشك- أن أمتلك قدرة على ألا أكون ما”أكونه“وعلى أن أكون ما”لا أكونه“، أي شريطة أن أختار ذاتي بنفسي على نحو مطلق. وكما جاء في كتاب سارتر”الوجود والعدم“:”فأي شخص مهما كان، هو اختيار مطلق لذاته“.
فاختيار الذات لذاتها، الذي بدونه ستؤول الحرية ضربا من المستحيل وغير قابل للتفكير فيه، هو ما أضاءه أفلاطون من خلال أسطورة”إير“في نهاية محاورة الجمهورية، (حيث نرى نفوسا تختار، بين تناسخين، أجسادها وحياتها). وهذا ما نعته كانط بالخاصية العقلية أو ما أسماه سارتر، من منظور إشكالي مغاير، بالحرية الأصلية، التي تسبق كل اختيار، بل إن كل الاختيارات تتعلق بها.إن هذه الحرية ، إما حرية مطلقة أو حرية لا وجود لها. فهي سلطة غير محددة لتحدد نفسها بنفسها.و بعبارة أخرى، هي سلطة حرة لإبداع ذاتها بذاتها.لهذا السبب، فالحرية لا تنتمي إلا للإله كما اعتقد بعضهم، أو أنها تصنع منا آلهة إذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
 نحن إذن أمام وجود معنيين للحرية:حرية الفعل وحرية الإرادة. فهذه الأخيرة، يمكن أن تقسم بدورها إلى قسمين: تلقائية الإرادة والإرادة الحرة.
هل هذا كل ما في الأمر؟ لا نعتقد ذلك. لأن الفكر يعتبر أيضا فعلا: فأن نتصرف فيما نريد، معناه، أن نكون قادرين قطعا على أن نفكر فيما نريد.لهذا سيطرح مشكلة حرية الفكر أو حرية العقل كما جرت العادة أن نقول.
إنها مشكلة تضم معا حرية الفعل وبالتالي الحرية بالمعنى السياسي:إذ تعد حرية الفكر(وكل ما تفترضه من حريات:حرية الحق في المعلومة، حرية التعبير، حرية المناقشة..) جزءا لا تتجزأ من حقوق الإنسان ومتطلبات النظام الديمقراطي.
بل يمكن الذهاب إلى أكثر من ذلك، فلنأخذ على سبيل المثال، مشكلة رياضية: فبأي معنى أكون حرا في حل مغاليقها؟ فهل يراد به معنى حرية الاختيار؟ بالتأكيد لا. فالحل يفرض نفسه علي فيما إذا كنت فاهما للبرهنة، وكذلك ينفلت مني بالضرورة في حالة ما استعصى علي فهمها.و مع ذلك، لا أشعر بأي إكراه خارجي، أثناء البرهنة، يثقل على ذهني: فأنا أفكر فيما أشاء، بمعنى أني أكون على دراية بأن ما أفكر فيه هو عين الصواب.فبدون هذه المعرفة، يستحيل على الحرية أن تكون فعالة. فإذا لم يكن للعقل تشوق، و لو جزئيا، لما هو حق، سيظل سجين ذاته: بل ستغدو استدلالاته مجرد هذيان وأي فكر ليس إلا مظهرا عرضيا. فالعقل إذن هو ما يفصلنا عن هذا كله. لأنه يحررنا من أنفسنا نحو رؤية منفتحة على كل ما هو كوني. و بتعبير الفيلسوف”ألان“:”لا ينبغي للعقل أبدا يكون طيعا، يكفي مجرد دليل هندسي للبرهنة على أهميته؛ذلك أنه إذا ما صار اعتقادك به اعتقادا حرفيا، ستنعت بالأبله؛ وفيها خيانة للعقل“. لهذا السبب لن تجد مستبدا واحدا عاشقا للحقيقة.ولن تجد كذلك مستبدا متشوقا للعقل. لأن المستبدين لا يمتثلون إلا لأنفسهم: ألانهم أحرار؟. ليس من المؤكد ذلك، لأن بمقدورنا أن نفكر في أي شيء. بل لأن ضرورة الحقيقي هي التعريف نفسه لاستقلاليته.
كم يساوي مجموع زوايا المثلث الثلاثة في المكان الأوقليدي؟ كيفما كان جسدي، وسطي الاجتماعي، لاشعوري النفسي، وكيفما كنت أنا نفسي، فأن جوابي لا يمكن أن يكون- في حالة معرفتي وفهمي للبرهنة- إلا” 180°“درجة.و مع ذلك، لم أشعر أبدا بالحرية، وعلى نحو أفضل، إلا أثناء وقوفي طيعا أمام مقام الحقيقة ؛ وبمقدار معرفة بها حق المعرفة أو لنقل حيثما لا أكون خاضعا إلا للعقل.و بعبارة أخرى، عندما لا أخضع إلا لهذه الضرورة الكامنة في ذاتي والتي ليست إياي لكنها تخترقني وأسعى إلى فهمها. هذا و من أجل تقريب الفهم أكثر، نضرب أمثلة أخرى: كم يساوي عدد 3 مضروبا في عدد 7؟ ما العلاقة بين الكتلة و الطاقة؟ من قتل هنري الرابع؟ أيهما يدور في فلك الآخر:الشمس أم الأرض؟ّ. وحده من يجهل ذلك، هو من يستطيع اختيار الجواب، وحده من له معرفة بذلك هو من يستطيع أن يجيب بحرية.
 إن حرية الفكر تعني حرية العقل. وهي حرية لا تعني مجرد حرية اختيار؛ إنها أساسا حرية الضرورة، حرية الحق، أو الحقيقة بوصفها حرية.إنها حرية كما تجلت معناها عند سبينوزا، هيغل، ماركس و فرويد:حرية بوصفها ضرورة مفهومة أو بالأحرى فهما للضرورة.و بتعبير سبينوزا ، فالكائن الحر- بالمعنى الحقيقي للكلمة- هو ذاك الذي لا يخضع إلا لضرورته الخاصة.لهذا السبب يكون العقل حرا و تحرريا.
 إن أي شخص بإمكانه أن يختار من بين المعاني الأربعة التالية:حرية الفعل، تلقائية الإرادة، حرية الفكر أو العقل..، المعنى أو المعاني التي تبدو له الأكثر أهمية أو الأدق (هذه المعاني لا تقصي بعضها بعضا).لكن: هل سيكون هذا الاختيار حرا؟ في الحقيقة لا يمكن الجزم في جواب معين مادام أن أي معرفة عنه غير كافية و مادام أن أي عرض لجواب ما يفترض هو نفسه اختيارا يتوقف عليه. ذلك أن الحرية لغز، على الأقل كمشكل: لن نستطيع أبدا إثباتها ولا فهمها على نحو أتم. إن هذا اللغز يكوّنُنا؛ لهذا السبب فإن أي أحد منا هو لغز بالنسبة لذاته. إذا اخترت أن أكون ما أكونُه فلن يتحقق ذلك إلا في الحياة الأخرى كما شاء أفلاطون أو في العالم الأخر كما قال كانط أو على الأقل في مستوى أخر كما هو الشأن في القرار الإرادي و ما يصدر عنه من نتائج كما عبر عن ذلك سارتر. لكن تظل هذه الحياة الأخرى و هذا العالم الأخر و هذا المستوى الأخر غير قادرة على تحصيل لدي، بالتعريف، على أي معرفة:لهذا السبب يمكن دوما الاعتقاد بأني كائن حر(بالمعنى الذي تدل عليه حرية الإرادة) دون أن أتمكن بتاتا من البرهنة على ذلك.
يمكن، فضلا عن ذلك، ألا يكمن الأمر المهم هنا. فمن بين هذه المعاني الأربعة توجد على الأقل ثلاثة معاني يصعب رفضها: حرية الفعل، تلقائية الإرادة، الضرورة الحرة للعقل. فما هو مشترك بين هذه الحريات الثلاث هو أنها لا توجد، من أجلنا، إلا على نحو نسبي(فنحن أحرار إلى هذا الحد أو ذاك في الفعل ، والإرادة، والمعرفة)؛وهذا يثبت كفاية الرهان التالي:إن المسألة لا تتعلق بمعرفة ما إذا كنت حرا حرية تامة بقدر ما يتعلق بفهم مدى إمكانية أن تصير حرا على نحو أفضل.إن الإرادة الحرة، والتي تعتبر لغزا، هي أقل أهمية من فكرة التحرير، و التي هي بمثابة سيرورة وهدف وعمل.
 فنحن لا نولد أحرارا و إنما نصير كذلك. على الأقل هذا ما اعتقده، و أن الحرية ليست أبدا، لهذا السبب، مطلقة و لا غير متناهية، و لا نهائية: نحن أحرار إلى هذا الحد أو ذاك، ويتعلق الأمر يعلق بالتأكيد أن نصير كذلك بقدر الإمكان.
حتى وإن أخذنا بعين الاعتبار أن سارتر هو الذي على صواب، ، فهذا أمر غير كاف، حول هذه النقطة الأخيرة، لإثبات أنني على خطأ، وسواء أكنا أحرارا أو غير أحرار سلفا، فهذا لا يعفينا ، بتعبير نيتشه، من أن نصير ما نكونه، وسواء سيكون كل شخص”اختيارا مطلقا لذاته”، برأي سارتر، فهذا لن يعفينا من الفعل و لا من الإرادة و لا من المعرفة.
 ليست الحرية لغزا فقط؛ إنها كذلك هدف و مثال. إن عجزنا عن إضاءة هذا اللغز إضاءة تامة، لا يمنع المثال من أن ينير طريقنا. كما أن عجزنا عاجزين عن بلوغ الهدف تحقيقا تاما، لا يحول دون أن نشرئب في اتجاهه أو ندنو منه.
يتعلق الأمر بأن نتعلم كيف ننفصل عما يعيق ذواتنا: هذه الحرية ليست إلا اسما أخر للحكمة كما نرى ذلك عند سبينوزا.
André Compte-Sponville.Presentations de la philosophe.Editions Albin Michel.S.A .2000.

………………………………………………………………….

 نشر بموقع مجلة انفاس يوم السبت, 15 نوفمبر 2014

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…