أود بداية أن أشير هنا إلى أنني في نقدي هذا للآراء الواردة في كتاب الدكتور البوطي (نقض أوهام المادية الجدلية) لم يأت من باب الكره لشخصه أو لأفكاره أولاً… ثم أنا في دفاعي عن الجدل الماركسي, لم يأت هذا الدفاع أيضاً من باب أو جهة أنني شيوعي ثانياً.. فأنا لست شيوعياً, ولم أنتم يوماً لأي تنظيم شيوعي, وهذا ليس من باب الفخر, فهناك الكثير من الشيوعيين العرب الذين ضحوا بحياتهم من أجل قضايا هذا الوطن, وفي مقدمتها, حرية وعدالة ومساواة أبنائه, من أجل أن يكونوا مواطنين لا رعايا…. ومن أجل سيادة العقل على كل ما هو امتثالي واستسلامي وجبري.
لذلك أقول : إن ما دفعني لهذه القراءة النقدية الأولية لهذا الكتاب, هو إيماني بدور العقل وحرية الإرادة الإنسانية, وأن من حق الإنسان أن يكون سيد نفسه ومصيره من جهة, ثم دفاعاً عن العقل والعقلانية (الحقيقة) التي طالما حاول الكثير من الكتاب والباحثين طمسها بإسم الدين من جهة ثانية.
عندما قرأت كتاب الدكتور البوطي (نقض أوهام المادية الجدلية “الديالكتيك”) أول مرة في عام (1995), شعرت يومها وكأن ماركس وإنجلز ولينين هم علماء فيزياء, وأن الماركسية عندهم قد وجدت لتشتغل على (الذرة) وعالم حركتها وانشطاراتها وتحولاتها, وأن قوانين المادية الجدلية التي تقول بها (الماركسية), هي متعلقة إلى حد كبير بهذه الذرة, وليس بالمجتمع وصراعاته الطبقية, وتطوره وحركته, وطبيعة العلاقة بين بنائيه الفوقي والتحتي والعمل على تنميته. وذلك بسبب تلك الحفاوة التي أولاها البوطي للذرة في نقده للجدل الماركسي وفقاً لمقارنته بالجدل الهيجلي, بهدف تحقيق ما يريد الوصول إليه. كما لفت انتباهي أيضاً في موقف البوطي النقدي للمادية الجدلية, إضافة لإقصائه (المادية التاريخية) عن عنوان كتابه من جهة, هو ابتعاده عن تناولها وتطبيقها بما تتضمنه من قوانين على المجتمع بشكل موضوعي كما تناول مسألة الذرة في مقارنته بين الجدل الهيجلي والماركسي, من جهة ثانية. علماً أن (المادية الجدلية والتاريخية) كلاهما يشكلان (الأسلوب) الذي تتعامل به الماركسية في تحليلها للموضوعات الحياتية بشقيها الطبيعي والاجتماعي, ووضع الحلول المناسبة والمتاحة لإشكالاتها بشكل عام. أو بتعبير آخر: إن قوانين المادية الجدلية ومقولاتها التي تختص بدراسة الطبيعة, هي بمعظمها التي تشتغل عليها المادية التاريخية في دراسة قضايا الإنسان والمجتمع.
أقول : إضافة إلى ما أشرت إليه هنا, وجدت الشيخ البوطي قد ركز كثيراً في كتابه منذ البداية على دراسة نظرية الجدل (الهيجلي), محاولاً بكل ما يملك من فكر ديني (سلفي), وبمكر معرفي عن سابق إصرار وترصد, أن يضرب الجدل الماركسي بالجدل الهيجلي, من خلال تركيزه على أن الجدل الهيجلي ينطلق من (الفكرة) في الحركة والتطور والتبدل التي تصيب الطبيعة والمجتمع, وليس من (الواقع) كما يقول ماركس. وبالتالي فجدلية هيجل المثالية التي تُوصِلِنَا – وفقاً للبوطي – إلى أن الكلمة كانت في البدء, وأن مصدرها “الله”, ومن هذه الكلمة فاضت المادة.وهذا ما يجعلنا نعتقد بان الدكتور البوطي قد توصل في رؤيته هذه إلى أن هيجل ليس إلا تلميذاً نجيباً (لأبي حسن الأشعري). وبالتالي, هذا ما يوصله بالنتيجة إلى أن ماركس وإنجلز ولينين وكل من اشتغل على مسألة الجدل الماركسي, هو كافر وملحد وزنديق, وليس من الفرقة الناجية. وبناءً على هذا الموقف, سأركز في دراستي النقدية هذه على نقد أوهام (البوطي) حول الجدل الهيجلي وعلاقته بالجدل الماركسي, مكتفياً في هذه الدراسة النقدية على هذه المسألة أولاً, وذلك انطلاقا من القاعدة الفقهية التي تقول : (ما بني على باطل فهو باطل.). وثانياً توضيح قوانين ومقولات (الجدل) ودورها في دراسة المجتمع الإنساني الذي جاء الفكر الماركسي أصلاً من أجله.أي دراسة الاجتماع الإنساني في علاقاته ووجوده وما يرتبط بهذا الوجود من قضايا مادية وفكرية أو روحية.
دعونا بداية أن نسلط الضوء على بعض الأفكار التي جاءت في مقدمة كناب البوطي (نقض اوهام المادية الجدلية), قبل أن ندخل في صلب موضوعاته المتعلقة بنقض أوهام المادية الجدلية. وبخاصة علاقة الجدل الهيجلي بالجدل الماركسي, والفرق بينهما.
لقد جاء في الصفحة (7) من كتابه, وفي العبارة الأولى من المقدمة : (ينفرد المذهب “الشيوعي” من دون المذاهب الأخرى بأن له جذوراً في الفلسفة الشاملة التي تتبنى تفسيراً معيناً للوجود والحياة بأسرها, وفروعاً من التطبيقات الاقتصادية والاجتماعية التي تنهض على أسس من تلك الجذور.). (1)
إن نظرة أولية إلى عبارة (المذهب الشيوعي) التي أوردها في هذا المقطع, و(الملغومة) قصداً من قبله, تجعلنا نسأل مباشرة: لماذا ربط البوطي الشيوعية بالمادية الجدلية؟. علماً أن المادية الجدلية وحتى التاريخية كقوانين ومقولات ليس لها في ظهورها أي ارتباط تاريخي مع الشيوعية, أي هي ليست وجهها الآخر الملازم لها منذ ظهور النظرية الماركسية كما يقرر البعض, فقوانين الجدل المتعلقة في الحركة والتطور والتبدل وغيرها, وجد بعضها أو أكتشف منذ بدأ الإنسان يفكر ويبحث عن ذاته. فهذا الحكيم “أوتنابتشيم يقول لـ”جلجاميش” في ملحمته بعد أن عجز”جلجاميش” في بحثه أن يحصل على نبتة سر الخلود, مجسداً في هذه المقولات قوانين الحركة والتطور والتبدل:
(هل نشيد بيوتاً لا يدركها الفناء؟.
وهل نعقد ميثاقاً لا يصيبه البلى.
فمنذ القدم لا تُظهر الأمور ثباتاً.).(2)
وهذا “هيراقليطس” يقول في “الحركة” قولته الشهيرة, وهي أهم قانون من قوانين الجدل :(كما أنك لا تستطيع أن تستحم في مياه النهر مرتين, فكذلك هي الحياة). هذا دون أن ننسى المادية المبتذلة أو الساذجة لـ (فيورباخ وفورباخ) مثلاً, وغيرهما ممن لم يكن ينتمي لأي فكر اشتراكي أو شيوعي. مثل ابن خلدون مثلاً, و ما طرحه من قوانين ومقولات الجدل في مقدمته المشهورة قبل أن يفكر فيها ماركس وإنجلز, فهي برأي من أهم المواقف الفكرية ذات الطابع الجدلي التي استطاع من خلالها أن يدرس مسألة العمران البشري بكل معطياته في عصره. حيث جاء في هذه المقدمة قوانين الحركة والتبدل ونفي النفي وتأثير العلاقات الاقتصادية (المعاشية) على حياة الناس العملية والفكرية..إلخ. (3) الأمر الذي جعل لينين يقول عن ابن خلدون: (ألا يوجد لدى العرب مفكرون آخرون كابن خلدون؟.).
أما لجهة قول البوطي بأن الشيوعية (مذهب), فهذا في الحقيقة ينم عن جهل معرفي فاضح في تفريقه بين المذهب و(النظرية) التي تشكل في تطبيقاتها العملية والفكرية نظاماً اقتصادياً اجتماعياًسياسياً وثقافياً, كالنظرية البرجوازية أو الاشتراكية أو الشيوعية. فمن المعروف لدى دارسي الاشتراكية والشيوعية, أن الاشتراكية هي نظام اقتصادي اجتماعي سياسي وثقافي, والشيوعية هي المرحلة العليا من الاشتراكية, وهي المرحلة الحلم التي لم يستطع أي مجتمع أن يحققها وجوداً حتى الاتحاد السوفيتي سابقاً قبل انهياره. أما المذهب – أي مذهب – فهو جزء من نظرية عامة أو إيديولوجية, والمذهب أكثر انغلاقاً على بنيته الفكرية من النظرية, كأن نقول على سبيل المثال لا الحصر: (العقيدة) الإسلامية نظرية أو أيديولوجية يتفرع عنها مذاهب وطوائف دينية إسلامية كالمذهب الشافعي والحنفي والحنبلي والجعفري والمالكي. أو الطائفة الإسماعيلية أو الموحدين..إلخ
أما علاقة الشيوعية مع الماركسية في هذا السياق – أي مدى علاقاتها مع الماركسية, أو المادية الجدلية – وكما أراد لها البوطي, فهذه معطيات التاريخ تشير إلى خطأ رؤيته في هذا الاتجاه, حيث تبين تاريخياً أن الكثير من النظريات الشيوعية قد طرحت قبل الماركسية, كالشيوعية المشاعية التي طرحتها الديانة (التاوية) في الصين على سبيل المثال لا الحصر. وهذه الاشتراكية وهي المرحلة الدنيا من الشيوعية كما هو مقرر, فهناك الاشتراكية التي طرحت من قبل القرامطة. وهناك الاشتراكية الخيالية لـ”سان سيمون وروبرت أوين”, وهناك أيضا الاشتراكية الفابية…وغيرها الكثير. فكل هذه الاشتراكيات لم يكن لها أية علاقة في الحقيقة مع الماركسية أو جدلها. وهذا يدل على أن الشيخ البوطي بربطه ما بين الشيوعية والمادية الجدلية ومحاولته تفنيد معقولية الديالكتيك الماركسي, يريد القول: بأن تبني المادية الجدلية سيؤدي إلى الكفر والإلحاد والإساءة للإسلام والقيم الإنسانية, وهذا ما توصل إليه كما سيمر معنا.
أما علاقة الماركسية بالمادية الجدلية والتاريخية, فهي علاقة ذات طبيعة منهجية… الماركسية ليست نظرية أو مذهباً, فالماركسية في تبنيها للمادية الجدلية والتاريخية, أصبحت منهجاً في التفكير, وغالباً ما استفاد من هذا المنهج المفكرون البرجوازيون المعادون للماركسية, وذلك من أجل تلافي الكثير من العقبات والأزمات التي تصيب النظام الرأسمالي.
إن الشيخ البوطي في موقفه النقدي هذا من مسألة ربطه مابين الجدل الماركسي والشيوعية, يدل على جهل أو مكر معرفي في هذا الاتجاه أولاً. ثم إطلاق أحكام تقريرية مسبقة تجاه الماركسية أو الشيوعية عندما ألبسهما الثوب الذي يريده هو, بناءً على قناعة مسبقة لديه ثانياً. وهذا ما أكده بقوله:
( إن مبعث الخطورة في المذهب الشيوعي أنه يجر كثيراً من الناس ذوي الثقافة المحدودة بدافع نفسي مجرد… لقد كانت ثمرة قراءاتي الدقيقة لجذور هذا المذهب, أنني لم أعد منه إلا بخفي حنين, وأنا أحمل معي جعبة العقل والمنطق فارغة .. ). (4) .
وهنا أنا أسأل الشيخ البوطي: عن أي عقل ومنطق هذين اللذين حملهما معه عبر إبحاره في عالم الشيوعية والماركسية؟, ونحن نعرف أن الفكر الذي يحمله البوطي هو الفكر السلفي الأشعري الاستسلامي ألامتثالي الجبري الذي يحارب حرية الإرادة والعقل على حساب النقل؟!!.
وهذا ما يؤكده بنفسه بقوله : ( عدت لأجد يقيني بالله وصفاته أتم رسوخاً, وأقوى ثباتاً, في تربة المنطق الموضوعي الصافي الذي يستعلي على كل عصبية أو تقليد… والله يعلم ويشهد الموازين نفسها التي استعملتها ذات يوم للبحث في القيمة العلمية الموضوعية لليقين بوجود الله وخلقه للكون.). (5).
متناسياً هنا – البوطي طبعاً – عصبية الفرقة الناجية التي يقول بها مذهبه الأشعري, وتكفيره للمختلف معه من الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى كما نرى على الساحة العربية, حيث راحت الدماء تسيل بإسم الدين بسبب من يحاربون بإسمه زوراً اليوم ضد كل من يؤمن بدور العقل, وعلى رأسهم من يؤمن بقوانين ومقولات الجدل.
كاتب وباحث من سورية
d.owaid50@gmail.com
1- د.محمد سعيد رمضان البوطي- نقض اوهام المادية الجدلية- دار الفكر ط1- 1978- ص 7
2- قراءة في ملحمة جلجاميش- فراس سواح- ط1 – العربي للطباعة والنشر والتوزيع- دمشق ص 203
3- في علمية الفكر الخلدوني- مهدي عامل- مجلة الطريق- عدد خاص عن مئوية ماركس – شباط 1984. ص 182
4- نقض اوهام المادية الجدلية- المرجع السابق. ص10
5- نقض أوهام المادية الجدلية- المرجع السابق- ص 10.
………...
لنشرة المحرر / الدكتون عدنان عويد
الاربعاء 19 نونبر 2014