لو نظرنا إلى المشاكل التي تتخبط فيها الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني (أو بعض هذه الهيئات على الأقل)، بمنظار المحلل الموضوعي، المجرد والمحايد، لوجدنا أن سبب هذه المشاكل (أو على الأقل أعمها)، يعود، أساسا، إلى طغيان الميول إلى الانتفاع الشخصي. وحتى نكون أكثر وضوحا، نزعم أن السبب الرئيسي فيما يحدث من مشاكل، يعود إلى نوع من الريع الذي أصبح يستفيد منه البعض إما بحكم الموقع الذي احتله أو يحتله (سواء في الهياكل التنفيذية أو في المؤسسات التمثيلية…) وإما بحكم ظروف معينة، بوأته مكانة خاصة بالهيئة التي ينتمي إليها. ويتساوى في هذا اليمين واليسار، وإن بنسب متفاوتة؛ وتعاني منه، أيضا، النقابات، المركزية منها والقطاعية، وكذا الجمعيات سواء كانت وطنية أو محلية.
وبحكم غياب تطبيق مبدأ ربط المسئولية بالمحاسبة؛ ونظرا لسيادة العلاقات الزبونية عموديا وأفقيا، مما يشجع على ممارسات منافية للقانون والأخلاق…، فقد أصبح الريع نوعا من الثقافة (ثقافة الريع) السائدة. ونحن لا نتحدث هنا عن الريع بمفهومه الاقتصادي فقط، بل بمفهومه السياسي والاجتماعي والرمزي… أيضا. فكم من واحد يستفيد ماديا من الموقع الذي يحتله إما في الحزب أو في النقابة أو في الجمعية أو فيهما معا. ويعض على ذلك بالنواجد. لكن هناك آخرون لا يبحثون إلا على “البريستيج” الذي تمنحه المواقع. لذلك، تراهم يجتهدون في عرقلة كل عملية تجديد حتى يظلوا في مواقعهم؛ بل هناك من يغدق الأموال في سبيل ضمان موقع له في المشهد السياسي أو الاجتماعي، يتيح له الظهور “والتبنيدة”.
وكم من مرة تساءلت مع نفسي (وأنا أرى البعض يعمل على إضعاف التنظيم الذي هو فيه، سواء تعلق الأمر بالحزب أو النقابة، من أجل الحفاظ على موقعه بهدف الحصول على التزكية بدون منازع لتمثيله في استحقاق م، مثلاا): بأي قوة سيواجه هذا الشخص منافسيه في التنظيمات الأخرى وهو لا يألو جهدا في العمل على إضعاف الهيئة التي سيتقدم باسمها لذلك الاستحقاق؟ وكان الجواب بل الأجوبة التي تلح علي هي كالتالي: إن من يأتي مثل هذا السلوك، فهو، إما لا يهمه من العملية غير الظفر بشرف الترشيح (وهذا هو أقصى طموحهمن العمل السياسي أو النقابي) وإما أنه لا يقدر أهمية ما هو مقبل عليه وما يتطلبه ذلك من تعبئة لكل الطاقات وكل الإمكانيات (أُو”شوف تشوف”) وكأنه يكفي أن يترشح لكي يفوز؛ مما يعني أنه إما قصير النظر وإما معتمد على شراء الذمم أو على خدمات الجهة التي كانت تصنع الخرائط السياسية في الدهاليز المظلمة… وكيفما كانت الأسباب ومهما كانت المبررات، فإن رائحة الريع، المادي والمعنوي، تنبعث من هذا النوع من السلوك.
وبقدر قيمة الريع (المادية والرمزية)، تكون حدة المشاكل التي يتسبب فيها داخل التنظيمات المعنية. فقد يصل الأمر إلى اندثار هذا التنظيم أو ذاك بسبب طغيان الذاتية الفردية على الذات الجماعية؛ إذ يحتد الصراع ويركب كل واحد رأسه لدرجة تنعدم معها شروط الحد الأدنى للاستمرار. وهذا هو حال العديد من الجمعيات التي تظهر وتختفي من على مسرح الأحداث. وقد يحدث أن ينشطر تنظيم ما إلى كيانات صغيرة بسبب غياب شروط التعايش. وفي أحسن الأحوال، يحصل نوع من الإرضاء تجنبا للمشاكل ولدواعي التصدع الداخلي. وهو الدور الذي يضطلع به، غالبا، ما يسمى بالتوافق أو التراضي.
ونعتقد أن ما تعرفه الأحزاب السياسية (أو على الأقل بعضها) من صراعات داخلية طاحنة بمناسبة الاستحقاقات الانتخابية، يعود بالأساس إلى سيادة ثقافة الريع. فالذي يتصارع من أجل الظفر بالتزكية، مستعملا في ذلك الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لا يضع في الحسبان، غالبا، إلا فرضية الفوز؛ وبالتالي فرضية الظفر بالمقعد والتمتع بما يتيحه من استفادة مادية ومعنوية. لذلك، تجد بعض الناس تسيل لعابهم على المهام التمثيلية ليس حبا في خدمة المواطن، بل من أجل الاستفادة الشخصية، إما بتحقيق نوع من الترقي الاجتماعي وإما لضمان وضع اعتباري في التنظيم الذي ينتمون إليه وفي الوسط الذي يعيشون فيه.
وبسبب هذه التطلعات التي تجد سندها في ثقافة الريع، فقد أصبح مألوفا أن تخلف الانتخابات عدة مشاكل تنظيمية داخل الأحزاب السياسية. وتجدر الإشارة إلى أن ثقافة الريع السياسي قد انتشرت بشكل واسع في مجتمعنا. وللدولة يد طولى في نشر هذه الثقافة؛ وذلك بصنع كيانات انتخابية، تتسابق عليها بعض الأحزاب لضمان تواجدها في المؤسسات التمثيلية. وقد تعاملت بنفس المنطق ونفس العقلية مع المجتمع المدني؛ بحث صنعت كيانات جمعوية، تأتمر بأوامر السلطة وتعمل وفق توجهاتها، إما ارتزاقا وإما تزلفا وتملقا. ناهيك عن تلك الجمعيات التي تكونت بهدف وحيد وأوحد، هو الاستفادة من المنح (الريع المالي).
وبالنظر لما أصبحت تتطلبه الانتخابات من إمكانيات مالية، فقد أصبح شبه مستحيل على المناضل دخول غمار هذه الانتخابات، خصوصا حين يتعلق الأمر بالانتخابات التشريعية؛ وذلك بسبب عجزه عن توفير قدر محترم من المال الذي يسمح بالقيام بحملة انتخابية محترمة. و من هذا الباب بالذات، تسلل الأعيان إلى الأحزاب الوطنية والديمقراطية؛ مما أعطى للريع السياسي بعدا آخر، يتمثل في التأثير السلبي على المواقف السياسية وعلى الوضعية التنظيمية للأحزاب.
وقد تكونت، مع الوقت، “لوبيات” مصلحية داخل الأحزاب، حتى الديمقراطية منها، وأصبحت غير قادرة على العيش خارج الريع السياسي المعنوي والمالي والاقتصادي. لذلك، تجدها تواجه بشراسة الشرعيات التاريخية والديمقراطية، خصوصا حين تقترب هذه من مجالها الريعي. وهذا ما يفسر تصرف بعض الأشخاص الذين يفقدون صوابهم حين يشعرون بأن مصالحهم الشخصية مهددة؛ إذ يصبحون من أشرس خلق الله في أفعالهم ويتحولون إلى أوقح عباد الله في أقوالهم وأخبث البشر في أخلاقهم… وتصبح السياسة عندهم بلطجة و”تشرميل” (فكرا وسلوكا)، ولسان حالهم يقول: “قف! لا تقترب من ريعي”، وإلا … !!! ولنا عودة إلى الموضوع.