هناك حوارات نجريها أحيانا مع غرباء نلتقيهم في المطعم أو المقهى تأخذ فجأة شكل استغاثة، وأخرى تتحول إلى ما يشبه جرعة هواء نحتاجها جميعا لكي نرى الأمور بمنظار مغاير.
نحتاج بين فينة وأخرى تلك النظرة الخارجية على الأشياء، على البلد، وعلى مواطنيه. هناك آراء يمكن أن نتفق معها، وأخرى يمكن أن نختلف معها كليا، لكن هناك آراء أخرى تثير لدينا السؤال أكثر مما تقدم إلينا الإجابة.
ومؤخرا تطورت لدى فئة من المغاربة حالة مزمنة من القرف بسبب الانفصام الذي نعيشه في البلد. البعض يريد أن يفهم كيف وصلنا إلى وضعية أصبحت فيها بعض المطالب الغريبة حقا تتجند له الجمعيات والمناضلون في هذا البلد. كيف يمكننا بناء نظام سياسي يحتل فيه الدين مكانة متميزة بيد وباليد الأخرى نهدم ذلك، بإعطاء هذه المجموعة المتحررة من القيم الأخلاقية الحق في المطالبة بمثل هذه الحقوق.
هؤلاء الذين يريدون للمغرب أن يصبح منبهرا أمام الأجنبي، بحيث يفرشون البساط الأحمر للغرب ولو كان ذلك على حساب أجساد وكرامة مواطنيه.
«المغرب يسير» يقول المتفائلون، لكن إلى أين، والأهم من ذلك لحساب من؟
متى سنتوقف عن تلبية خطط الاستعماريين الفرنسيين، تلك التي فشلوا في تطبيقها عندما كانوا يحتلون أراضينا؟
لماذا ضحينا بكل هؤلاء الشهداء من أجل الاستقلال؟
الإسلام الذي نرى اليوم هو إسلام الدروشة و«تابوهاليت»، الإسلام الذي لا يدعو الفرد سوى إلى الاهتمام بنفسه، والإعراض عن النظر في من حوله. أن يمشي المسلم حافي القدمين ويأكل «البيصارة» أمام عدسات المصورين حتى يقولوا عنه إنه بسيط ومتواضع، بينما هم والآخرون، الذين يعتبرون المغرب لهم لا لغيرهم، يسيرون على متن «الرونج روفر»، و«الهامر» التي تستهلك أكثر من 20 لترا من الكازوال في كل 100 كلم.
ويبدو واضحا اليوم أن هناك أطرافا تستثمر أموالا ضخمة لتدمير قيمنا، والدليل على ذلك هو هذا الإنتاج «الفني» الذي ينتجه التلفزيون العمومي المفروض فيه أن يساعد أطفالنا في المحافظة على حبل السرة مع قيم البلد، والذي تحول مع مرور السنوات إلى معول يدمر النواة الأساسية للمجتمع التي هي الأسرة، وتحديدا الأم.
ومع وصول دراويش العدالة والتنمية إلى الحكومة يبدو أن «الدروشة» وجدت لها أخيرا محتضنا يعرضها كثقافة مغربية خالصة. لا أعرف إن كان هؤلاء الناس قد فقدوا البوصلة أم ماذا، وهل هم واعون بأنهم يبنون مغربا بإسلام يشبه إسلام الكاتدرائيات، إسلام فلكلوري بدون عمق فكري، إسلام «تقدمي» كما كانت تقول في فرنسا فضيلة عمارة، وزيرة ساركوزي. هل هذا ما يريدونه لهذا البلد، يريدون الفلكلور، لأنه سيعجب الغربيين والسياح. إذن، «فلكروا» الإسلام، ولا تستغربوا بعد ذلك لماذا تعامل الحكومات الغربية المهاجرين المغاربة بهذه الطريقة التي تعاملهم بها الآن.
وبعد دخول دراويش الحكومة سنتهم الرابعة من التسيير والحكم، ها نحن نرى كيف استفحلت الفوارق بين الطبقات، فأصبح لدينا بهذا الشكل مغاربة «درجة أولى» يحظون بالتسهيلات الضرورية، ومغاربة «درجة اقتصادية» يعانون يوميا مع البنوك والإدارة والمحاكم، ومغاربة في «الكاطريام» قطارهم متوقف في الخلاء.
ما ينتظره المغاربة من الحكومة هو أن تدافع عن الهوية الثقافية وليس الفلكلورية للمغاربة، أن تدافع عن القيم التي ضحى أجدادنا بدمائهم من أجلها، وأن يقدم إلينا إعلامنا ما يخدم صورتنا الحقيقية وصورة ثقافتنا الأم، لا القشور والمظاهر السطحية والتمادي في تمويل الأعمال «الفنية» التي تخدش الحياء والذوق السليم.
المغاربة محتاجون إلى مكتبات بلدية يستطيعون أخذ أبنائهم إليها نهاية كل أسبوع، لكي يطالعوا ويشاهدوا ثقافة وطنهم ويحضروا ندوات ومحاضرات تربطهم بتاريخ بلدهم العريق وبقضايا عصرهم كشباب مغربي. هذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يجب أن تنخرط فيه البنوك والمؤسسات الرسمية حتى يجد أبناء المغاربة مكانهم مستقبلا في التاريخ.
عندما قال رئيس الحكومة أمام رجال الأعمال في ندوة بالدار البيضاء، مخاطبا إياهم بكونهم هم من يصنع السياسة في البلد، فلأنه يعرف أن ثروات البلاد تدبرها طبقة لم يتم انتخابها ولم يكلفها الشعب المغربي بهذه المهمة. وهكذا فالارتقاء الجديد لبرجوازية جديدة تتقرب من دوائر القرار، على غرار ما حصل سنوات الستينيات والسبعينيات، وما خلفته وراءها من خسائر وكوارث في ما يخص اقتصاد المملكة وقيم السلم والعدالة والأخوة وحتى العنصرية، ظهرت هي الأخرى مع هذه الفئة التي استغلت بداية الاستقلال لوضع يدها على ثروات البلاد، وقادت سياسات عنصرية داخل المجتمع المغربي لم تنجح سوى في توسيع الهوة بين الطبقات، بحيث الأغنياء ازدادوا غنى والفقراء ازدادوا بؤسا.
ونحن نعلم أن المستوى الأكاديمي لمنتخبي هذه البرجوازية ليس بالعالي، وخصوصا العلمي منه والتقني. وهو سبب بقاء الاقتصاد الوطني اقتصادا تقليديا منذ الاستقلال.
وهؤلاء البرجوازيون المتسلقون والوصوليون والانتهازيون استغلوا خوصصة الشركات لفائدة الأجانب والبرجوازية المتسلقة، دون أن يكون لذلك أي أثر فعلي على عملية التحديث وتحسين الشركات «المخوصصة».
هذه البرجوازية التي تدير القطاع الخاص منذ الاستقلال، تقوم بتوريث إدارة القطاع الخاص لأبنائها، وهو ما يترتب عليه تعميق الفوارق أكثر داخل المجتمع ويترك أقلية تستغل خيرات المملكة.
والكارثة أن العدالة التي يجب أن تكون الحكم والفيصل بين هؤلاء البرجوازيين المتنفذين، لا تطبق في حالات الغش المختلفة التي يتسبب فيها هؤلاء، فالمفاصل الأساسية لهذه العدالة يتحكم فيها، منذ الاستقلال، المقربون من هذه البرجوازية.
والطامة الكبرى هي أن الاتفاقيات السرية التي فرضتها الإمبريالية الاستعمارية على المغرب، هي اتفاقيات تضع عددا من العراقيل والصعوبات أمام الاقتصاد الوطني، هذا دون إغفال أن المغرب لم يمسك بعد بمصيره بيديه بسبب تبعيته لاقتصاديات وتمويلات القوى العالمية، وعلى رأسها ذراعها المالي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
إن الاستقلال الحقيقي سيحدث عندما سيتقدم تعليمنا نحو الاتجاه الصحيح، التعليم العلمي والتقني ذو القيمة الكبيرة، مع قدرة كبيرة عند إعادة بناء وتحديث اقتصادنا وكذا آليات الدفاع العسكرية، لكون بلادنا توجد في مواجهة مباشرة مع قوى إقليمية مسنودة بقوى عالمية تؤمن بقيمة واحدة هي قيمة المصلحة.
17 نونبر2014