بمناسبة ذكرى  اختطاف واستشهاد  القائد الوطني الكبير المهدي بنبركة نعيد نشر …وثيقة


الاختيار الثوري بالمغرب



تقرير للسكرتارية العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية / المؤتمر الوطني  الثاني (ماي 1962)

بقلم: المهدي بنبركة

المهدي

تقديم


اسمحوا لي أن أذكركم بأهمية هذا المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالنسبة لمستقبل بلادنا. لأن هذا المؤتمر سيمكن حركتنا من أن تخرج منه بتنظيم أقوى وأكثر إحكاما، وأفق أشد وضوحا لنكون على مستوى مهامنا التاريخية. وان الغرض من هذا التقرير هو أن أعرض عليكم بعض الملاحظات حول المهام الملحة، والمهام البعيدة المدى التي تنتظرنا، وأن أستعرض الوسائل الكفيلة لتحقيق أهدافنا على أكمل وجه.
إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بوصفه حزبا ثوريا، سوف يعطي لهذه الصفة مدلولاتها ابتداءا من هذا المؤتمر. وقد كان ولاشك قد حدد أهدافه منذ نشوئه سنة 1959. إذ انبثق من حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير، وقام على الجماهير الكادحة في المدن والقرى، وعلى الشبيبة العاملة والطلابية، وأخذ على نفسه أن يواصل نضال الحركة التحررية في المغرب لكي يعطي الاستقلال مدلوله الحقيقي.
وقد بدا من الضروري أن نبعث في نفوس الجماهير، في إطار نشاط نضالي، ذلك الإيمان، وذلك الحماس اللذين أخذ يضعفهما التهافت على المصالح، والتسابق على الامتيازات عند بعض مسيري الحركة الوطنية، كما أخذت تنال من قوتهما مناورات التقسيم والتفسيخ التي بدأ يحوكها المستعمرون وعملاؤهم غداة إعلان الاستقلال. إلا أن مهمتنا العاجلة الأولى كانت هي الحيلولة دون امتصاص تعبئة الجماهير ومعالجة فقدان الثقة الذي بدأ يتسرب إلى نفوس المناضلين ومسيري الحركة الوطنية، وكذلك قطع الطريق على الخيبة التي أخذت تحل محل آمال فترة النضال.
وكانت دعاية محكمة التوجيه تعمل على تمهيد السبيل لاحتكار السلطة بيد القصر، مدعية أن نظام الأحزاب كأسلوب للتنظيم والبناء الاقتصادي باء بالفشل، رغم أنه اتيحت له كل الفرص. بينما الحقيقة أنه لم تعط أي حزب فرصة ممارسة الحكم. وكانت هذه الدعاية التي جندت لها الصحافة والاذاعة كل يوم، انما تنقل بعض النظريات السياسية الممسوخة أو غير المهضومة والمحرفة تحت دعاوي ضرورة إقامة نظام قوي كطريق لإخراج البلاد من التخلف.
أمام هذه الحملة التي كانت تهدف إلى بلبلة عزائم المناضلين، وتجميد طاقات الجماهير، غدت مهمة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هي إقامة الدليل على أن الشعب يستطيع تجنيد نفسه بنفسه دون الحاجة إلى وصي، كما جند نفسه خلال الأزمة الكبرى من سنة 1952 إلى 1955.
وقد تحقق هذا الهدف الأول حيث أن المغرب اليوم رغم نظام القمع والاستبداد يمتاز في القارة الإفريقية بظاهرة فريدة، كبلاد تفرض فيها الجماهير احترام منظماتها وصحافتها بل وتجعل الحكم يستعير منها شعاراته التي يمسخها بعد ذلك.
على أنه يجب علينا أن نعترف بأننا لم نستطع إيقاف الانقلاب الذي حصل في ماي 1960، والذي صفى ما تبقى من مظاهر المشاركة الشعبية في الحكم، ولو أن هذا الإنقلاب كان نتيجة لضغط الجماهير التي فرضت على حكم اتخذ أسلوب القسر والتحكم أن يزيل القناع عن وجهه، وأن يظهر على حقيقته. نعم يمكن أن نجد لهذا الانقلاب جانبا إيجابيا إذ مكن من توضيح الوضع السياسي في البلاد، ومن إبراز القوى المتقابلة، قوى التقدم وقوى الرجعية، أنصار المستقبل المشرق، والمتشبثين بعهود الماضي المظلمة. من جهة القوى الشعبية، ومن جهة أخرى عناصر الإقطاع وفلول القوى التقليدية والأحزاب السياسية المتفسخة، وكذلك السماسرة ذوو المصالح المرتبطة مع الاستعمار.
وإذا أردنا أن نحدد مهامنا الأساسية منها والملحة، تعين علينا أن نقوم بتحليل لتناسب هذه القوى المتقابلة، طبقا لأساليب العلم الموضوعية. وفي مقدمة هذا التحليل يجب توضيح محتوى النظام القائم، وتحديد دوره في المرحلة الحاضرة. إذ لا يمكن الاكتفاء بوصف أسلوب الحكم دون الوقوف على حقيقة القوى التي يستند عليها. وإلى الآن فإنه يظهر أن اقتصارنا على وصف أسلوب الحكم ومواطن ضعفه العديدة جعلنا نستغني عن تحليل سياسي عميق لأصوله. فإذا كان صحيحا أن نظام الحكم في المغرب هو الحكم الفردي، فإن هذا التعريف وحده لا يكفي، ما لم نوضحه بتحليل متطلباته الداخلية والخارجية. فإن الاكتفاء بالحديث عن الحكم الفردي، قد يفيد استقلال هذا الحكم في اختياراته السياسية، بينما نحن نرى مطابقة واضحة وبسيطة لسياسة النظام مع خطة الاستعمار في بلادنا. ومن هنا وجب إلقاء بعض الضوء على المقومات الخفية التي تمكن هذا النظام من البقاء رغم ضعفه وعجزه وتناقضاته.
لا مراء أن النظام القائم يستفيد من ظروف داخلية وخارجية علينا أن نقيمها بموضوعية، إذ كثيرا ما ارتكبت أخطاء في التقدير إمّا بسبب التقليل من أهمية هذه الظروف المساعدة للحكم، وإمّا بسبب المبالغة في مواطن الضعف التي تكون مع ذلك عميقة وحقيقية. وإن تتبع هذا التوازن المتطور مع الزمن بين العوامل الداخلية العميقة المهددة لكيان النظام، وبين العوامل الطارئة المساعدة له سواء كانت داخلية أو خارجية، هذا التتبع هو الذي نستطيع بفضله في كل وقت تحديد استراتيجية نضالنا وتكتيك خطتنا السياسية المرحلية الملائمة.
ولذلك سنتناول في أول الأمر استعراض الظروف الحالية التي تعيشها بلادنا في الداخل والخارج.

تحليل الحالة الراهنة


ما هي الظروف التي ينعقد فيها المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟

أولا: الظروف الخارجية.


إن أهم حدث بلا شك هو المد السريع لحركة تحرير الشعوب المستعمرة. فقد اتسعت آفاق بلادنا كإحدى الأقطار التي تحررت حديثا من الحكم الأجنبي. إلاّ أنه يتعين التذكير بأن حركة عظيمة التي تقوض أركان النظام الاستعماري لا يمكنها أن تتخذ شكل موجة عارمة، تحطم كل ما يعترض سبيلها، فهي لا محالة تخضع لقوانين المد والجزر، وتسجل بعض التوقف إثر فترات الزحف والنصر. وفي رأيي ان فترة سنتي 1961 و1962 تميزت برد فعل رجعي من طرف الاستعمار في قارتنا الإفريقية.

أ- الاستعمار الجديد في إفريقيا


دخلت أفريقيا مع سنوات الستين في مرحلة جديدة من تاريخها، ومن نضالها في سبيل التحرير والتقدم.
ففي ظرف سنتين التحقت أغلبية بلاد القارة بركب الدول القليلة التي كانت قد استرجعت استقلالها الوطني، واحتلت مقعدها في الحياة الدولية. وبدأ يلوح لنا اليوم الذي سينمحي فيه من وجه القارة كلها أثر السيطرة الأجنبية المباشرة، رغم المآسي التي تعانيها شعوب جنوب إفريقيا، ورغم العناد الأخرق الذي تتصرف به حكومتا البرتغال واتحاد جنوب إفريقيا اللتان لن تفلتا من مصيرهما الحتمي. هذه الظاهرة وحدها ذات أهمية خطيرة، إذ أنها تحدث لا محالة تغييرا جوهريا في التوازن الدولي الاستراتيجي والسياسي. ومع نمو حركة التضامن بين القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتضافر الجهود مع سائر القوى التقدمية في العالم، فإن هذا التغيير سوف يؤثر تأثيرا عميقا على تيارات التبادل الاقتصادي الدولي، وبذلك يلغم الاستعمار من أساسه.
وليست حركة الهروب إلى الأمام التي تقوم بها الدول الاستعمارية الأوربية بانتهاجها سياسة الاستقلالات الشكلية الممنوحة، سوى خطة دفاع للاستعمار عن نفسه، تحمل اليوم اسم الاستعمار الجديد.
والاستعمار الجديد عبارة عن سياسة تعمل من جهة على منح الاستقلال السياسي، وعند الاقتضاء إنشاء دول مصطنعة لا حظ لها في وجود ذاتي، ومن جهة أخرى، تعمل على تقديم مساعدات مصحوبة بوعود تحقيق رفاهية تكون قواعدها في الحقيقة خارج القارة الإفريقية.
وليست هذه بالظاهرة الجديدة، لأن هذه السياسة تدخل في صلب مفهوم الاستعمار، وهو نفس الأسلوب الذي كانت تسلكه أكثر الدول الرأسمالية تقدما. إنما الجديد بالنسبة للعلاقات القائمة بين الدول الاستعمارية الأوربية وبين إفريقيا هو العدول عن السيطرة والاستغلال المباشرين، وإعادة النظر في الاستعمار الاستيطاني نفسه.
ولم يكن هذا الاتجاه الجديد مجرد اختيار في السياسة الخارجية للدول الأوربية، بل هو تعبير عن تطور عميق في أسس الرأسمالية الغربية ذاتها نتيجة لما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من تغيير في أوروبا تحت تأثير مشروع مارشال، والتدخل المتزايد للاقتصاد الأمريكي مع الاقتصاد الأوربي. مما جعل هذا الأخير يفقد خصائص القرن التاسع عشر التي كانت تميزه، ويحاول التشبه برأسمال الولايات المتحدة. فمن الطبيعي إذن أن ينهج نفس الأسلوب فتبحث أوروبا عن «أمريكا لاتينية» خاصة بها.
ونحن مقتنعون أن ظاهرة الاستعمار الجديد ليست سوى محاولة لتوقيف المد الثوري ولو إلى حين. وهي لذلك لن تفت في عضد القوى الثورية، ولن تمنعنا من أن نواصل مع سائر القوى التقدمية مهمتنا التاريخية لتصفية الاستعمار والقضاء على الإمبريالية.
غير أننا في حاجة إلى جهود متواصلة لتعميق أسس نضالنا الأيديولوجية، ولتسليط الأضواء على كافة مظاهر هذا الاستعمار الجديد، من أجل تشخيص خصائصه واستقصاء علمي لوسائله، وتحقيق دقيق لأدواته وركائزه.
وقد كان الفضل للمؤتمر الثالث لمنظمات الشعوب الإفريقية المنعقد بالقاهرة في مارس 1961 في الشروع في هذا التحليل والتشريح واستخلاص نتائجه في قراره الشهير حول الاستعمار الجديد الذي جاء فيه:
« ومتى بدا أنه لا مناص للاستعمار من الاعتراف بالاستقلال القومي، فإن خطة الاستعمار الجديد تسعى إلى إفراغ هذا الاستقلال من مضمونه التحرري الصحيح، إمّأ بفرض اتفاقيات غير متكافئة في الشؤون الاقتصادية العسكرية والفنية، واما بتنصيب حكومات عميلة عن طريق انتخابات مزورة، واما باختراع أشكال دستورية بدعوى تنظيم تعايش القوميات المختلفة، بينما هي في الحقيقة ضمان للسيطرة العنصرية لفائدة المستعمرين.»
«وعندما لا تجدي هذه المناورات في النيل من نضالية المنظمات الشعبية التحررية وتصميم عزمها، فإن الاستعمار وهو في النزع الأخير يعمد إلى التستر وراء الشبه شرعية والتدخل الموجه للأمم المتحدة، أمّأ لبلقنة الدول الحديثة، وأمّا لتقسيم قواها الحية السياسية أو النقابية. وقد يصل به اليأس، كما حدث في الكونغو إلى اللجوء لحبك المؤامرات، وتنظيم القمع البوليسي والعسكري، وتدبير الانقلابات بل وإلى السفك والاغتيال».


ب – الوضع الجديد للقضية الجزائرية.


لا يمكن أن نتصور أن الكفاح المرير والبطولي الذي يخوضه الشعب الجزائري يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتهي بالفشل، نظرا للوضع الدولي، وبالأخص نظرا لتصميم الجماهير الجزائرية الباسلة. ولكننا إذا نظرنا إلى توازن القوى المتصارعة، قوى الشعب الجزائري من جهة، ومن جهة أخرى الجالية الاستعمارية والجيش الفرنسي ومن ورائهما منظمة الحلف الأطلسي، فإن نتيجة الصراع لا يمكن أن تخرج عن أحد الأمرين:
إمّا التقسيم بحكم الأمر الواقع ولو مؤقتا، وإمّا النصر الكامل للثورة، وانسحاب كل وجود فرنسي من الأراضي الجزائرية. ولكن أيا من الحلين لم يتحقق، رغم أن كليهما ما يزال ضمن الاحتمالات التي تخبئها أحداث المستقبل القريب.
وان الاتفاقية التي انتهت إليها مباحثات إيفيان، يمكن اعتبارها حلا وسطا ثوريا، بمعنى أنه يمكن الحصول على مكسب أكيد هو الاعتراف باستقلال الجزائر دون أن يحجب الرؤيا عن آفاق الثورة الجزائرية.
إلاّ أنه رغم الضغط الذي سوف تباشره الجماهير الجزائرية، وفي طليعتها جيش التحرير لاختصار مراحل الاستقلال التام، فإنه لا مناص من انتظار فترة من الوقت لقيام أجهزة الدولة الجديدة، وتصفية مخلفات الاستعمار، كما أن عامل الزمن سيدخل في عملية تحويل الأداة المسلحة إلى حركة سياسية مثلما حصل في كوبا نفسها. وخلال هذه الفترة يجد الاستعمار الجديد فسحة من الوقت لاسترجاع أنفاسه.
لذا فإن المعارك القادمة في الجزائر للاستفتاء من أجل تقرير المصير، ولإقامة حكم ثوري، ولمقاومة نشوء قوة ثالثة قد تستغل كركيزة لتسرب الاستعمار الجديد، وللمحافظة على وحدة الشعب حول قوته المسلحة جيش التحرير الوطني، وحول حزب جبهة التحرر الوطني، كل هذه المعارك تقتضي جهودا متواصلة جبارة ومنتهى العزم والصلابة من طرف إخواننا المناضلين بالجزائر، كما تستلزم منا نحن التضامن المطلق معهم، وبذل كل المساعدة غير المشروطة لهم لتحقيق النجاح.
إن مستقبل الثورة الجزائرية لا يهم الجزائر وحدها، وإنما يهمنا نحن أيضا كمغاربة، ويهم مصير المغرب العربي بأسره.
ومن واجبنا كذلك ألا نتسامح مع أنفسنا فيما ارتكبناه في الماضي من أخطاء وسوء تقدير، حتى نساعد بتجربتنا المتواضعة إخواننا الجزائريين الذين يتوفر لديهم رصيد ثماني سنوات من التجارب ومقومات التماسك الثوري، ذلك الرصيد الذي هو العامل الأهم لنجاحهم في اجتياز مرحلة تصفية الاستعمار وتلافي الفخاخ التي ستنصب في طريقهم لا محالة، مثلما نصبت في طريقنا نحن.

إننا في هذا الاستعراض السريع للظروف الدولية اقتصرنا على عاملين أساسيين، قد يكون لهما تأثير مباشر على المعركة الدائرة عندنا بين القوى الشعبية والمصالح الاستعمارية:


العامل الأول: الصراع بين الاستعمار الجديد وحركة التحرير الوطني في إفريقيا.
العامل الثاني: استيلاء جبهة التحرير الوطني على الحكم.


وسوف يكون لكلا العاملين تأثير على توازن القوى بالمغرب. وقد رأينا النظام الذي وجد نفسه منغمرا مع الاستعمار في مؤامرة الكونغو، يجتهد في محاولة تبرئة ذاته عن طريق تبني شعارات مؤتمر الدار البيضاء، والوقوف الشكلي في صف الدول الإفريقية التقدمية التي تتولى الحكم فيها منظمات شعبية متحالفة مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مؤتمر الشعوب الإفريقية، وفي منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية.
ومما لا ريب فيه أن الوضع في الجزائر هو الذي سينتج عنه توضيح أكبر لنوعيات القوى المتقابلة في المغرب، وهو الذي سيؤثر في اتجاه إيجابي أو سلبي على أي من هذه القوى حسب ما ينتهي إليه من فشل أو نجاح دور الاستعمار الجديد في تكييف حل مشكلة السلطة في الجزائر. ولابد للاستعمار من أن يبذل جهده لتركيز دعائمه الاستراتيجية في المغرب وفي المشرق، كما في المجموعة الإفريقية الآسيوية تبعا للتهديد الذي سوف تواجهه قواعده، بسبب قيام نظم شعبية تقدمية أصيلة.


ثانيا: الحالة الداخلية.


لقد قلنا آنفا أن الجانب الإيجابي للانقلاب الذي حدث في ماي 1960 كان هو تبلور القوتين الأساسيتين في المغرب. فلم يعد مجال للقصر لكي يقف موضوعيا موقف الحكم أو الوسيط. وليست القوى المساعدة التي تدور في فلكه، من الشخصيات الباقية على رأس أحزاب خلت من محتواها الشعبي، وكل همها تمجيد ماضيها والافتخار به، أو من العملاء الذين يستمدون وجودهم من الخارج، أو من جماعة كبار الموظفين الذين يوهمون أنفسهم بأنهم تقنوقراطية البلاد، كل أولئك إنما هم في الحقيقة ظل للنظام نفسه، ويحافظون على بقائهم بتسخير أنفسهم لخدمته وللاستسلام لإرادته.
وهذا هو السر في تسرب النفوذ الأجنبي شيئا فشيئا واستفحاله. وهذا هو الذي يشرح أيضا البون الشاسع بين النتائج الهزيلة التي حققتها الحكومة القائمة بعد سنة ونصف، وبين خطب التهاني التي يمتدح بها النظام نفسه.
لقد أراد النظام القائم أن يبني مشروعيته على عجز التجارب السابقة، التي يدعي أنها تجارب حكومات الأحزاب التي فشلت في وضع سياسة تنمية صحيحة للبلاد, فالمبرر الوحيد إذن لبقائه، لو كتب له البقاء، هو في تنفيذ أهداف جزئية على الأقل لخطة التنمية الاقتصادية.


ولكن ماذا نرى الآن؟


إن الظاهرة الأولى هي أن ما من مشروع تتناوله وسائل الإعلام بالدعاية والتزمير، الا وهو اما امتداد لأحد المشاريع التي وضعتها الحكومة السالفة، واما مجرد تهويش لا يكاد يبين حتى يدخل في طي النسيان.
وليس المهم أن يتبنى النظام لحسابه شعاراتنا وأفكارنا بل وحتى خطوط برنامجنا، مدعيا أنه يريد تحقيقها من دوننا، بل المهم هو أن يستطيع ذلك.
فها هي الدعاية الرسمية قد استحوذت على المشاريع والدراسات بل والانجازات التي سهر عليها إخواننا (في مؤسسة الدراسات والمساهمات الصناعية) مدة توليهم مسؤولية وزارة الاقتصاد الوطني.
ولكن تلك المشاريع لا تلبث في أغلب الأحيان أن يصيبها المسخ فتصبح غير كفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة هذا إذا لم تتحول إلى مجرد عمليات مقامرة واختلاس، مثلما حدث في مشروع آسفي. وإذا افتضح هذا المشروع قبل سواه فذلك لأن تطوره روج بالخارج، واستطعنا كشف النقاب عنه قبل فوات الأوان.


أ- نتائج السياسة الاقتصادية والاجتماعية.


حاول النظام الهروب من المشاكل الفلاحية بالبوادي بما سماه مشروع الإنعاش الوطني. وقد كانت نتيجة هذا المشروع هي سخرية كل الاخصائيين في ميدان التشغيل الجماعي للفلاحين. لأن الكل يعلم أنه لم يستطع أحد قط تجنيد الجماهير القروية قبل البدء بكسب ثقتها، ودون إعطائها وسائل الرقابة التي تمكنها من الشعور بأن المشروع في صالحها وفي خدمة أغراضها.
ومن الوجهة الاقتصادية البحتة، فإن مشروع الإنعاش الوطني ليس سوى مجموعة أوراش لتشغيل العاطلين مؤقتا، حسب إمكانيات تمويله بالقمح الأمريكي المقروض. وأن إسم المشروع وحده ليذكر باشباهه من مشاريع الرجعية المعروفة في عهد «فيشي» أيام المارشال بيتان بفرنسا. على أنه ما لبث أن فقد كل مدلول اقتصادي، وتحول في النهاية إلى أسلوب «التويزة» المستعمل أيام الحماية الفرنسية، لتنظيم الخدمة الإجبارية لصالح الحكام والاقطاعيين.
وقد سجل معنا بعض الاخصائيين الأجانب فشل هذا المشروع الدعائي بل وكذلك بعض المشرفين عليه أنفسهم.
وتتوالى الاجتماعات تلو الاجتماعات تحاول عبثا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكل ما تنتهي إليه هذه الاجتماعات هو شرح جديد لأهداف المشروع في الزراعة، وكان أربابه ما يزالون في طور تعريف وتمهيد ولادته. غير أن أبلغ دلالة على فشل النظام هي عدوله النهائي عن كل محاولة تخطيط اقتصادية بعد تبنيه مشروعنا لخطة الخمس سنوات الذي كان جاهزا سنة 1959، بعد أن عمل على إفراغه من مدلولاته الثورية، لاسيما ما يتعلق بالإصلاح الزراعي.
وبعد سنة ونصف من إعلان الخطة، يمكن القول بأنها لن تتحقق حتى في أهدافها الجزئية، ولو أن المسؤولين ما يزالون ينتبهون للمفعول السحري التي تحدثه عبارة «خطة الخمس سنوات» فهم لذلك لا يغفلون عن حشرها في خطبهم وتصريحاتهم من حين لآخر.

ومن بين هذه الأهداف الجزئية التي عجزت الحكومة الملكية عن تحقيقها، نورد مثالا واحدا يتعلق بميدان التعليم. فقد كانت الخطة قد حددت الأهداف المطلوب تحقيقها في كل سنة، مع بيان عدد الأقسام المنتظر بناؤها وعدد المعلمين الواجب تكوينهم. ولم تنتبه الحكومة أنه لم ينفذ شيء للاستعداد لحاجيات السنة الدراسية 1961-1962 إلاّ خلال عطلة صيف 1961، بحيث كان يستحيل عليها أن تواجه طلبات الالتحاق الجديدة المترتبة على زيادة المواليد وحدها، بقطع النظر عن الذين تجاوزوا سن الدخول في المرحلة الابتدائية، وليس لنصفهم أي مقعد بالمدارس. نعم، لقد ارتجلت الإدارة إذ ذاك ما سمي «بمشروع المدارس« لبناء عدد من الأقسام الجديدة خلال أشهر العطلة. ولكن مثل هذه «العمليات» ولو تم إنجازها – وهذا أمر مشكوك فيه – لا يمكنها أن تكرر كل سنة بهذا الشكل المرتجل. هذا مع العلم أنه يستحيل ارتجال مشروع تكوين المعلمين، كما يرتجل بناء الأقسام الدراسية.
ولم نتحدث في هذا المثال إلاّ من ناحية الكم، إذ المصيبة أدهى وأمر لو نظرنا لتنفيذ خطة التعليم من ناحية الكيف. ويكفي للدلالة على ذلك أن المغرب التجأ مرة أخرى هذه السنة إلى فرنسا برجاء إرسال ألفي مستشار من رجال التعليم، ومن بينهم 1200 للمرحلة الابتدائية، مما يجعل المغرب أكثر البلاد احتياجا للأجانب في التعليم حتى في المدارس الابتدائية.
والحقيقة المرة هي أنه، ولو أن أهداف الخطة في ميدان التعليم قد تحققت، فلن يكون لذلك أي معنى ما دامت الأهداف الاقتصادية بعيدة عن الدخول في مجال التحقيق. إذ ما الفائدة من أفواج المتخرجين الجدد إذا لم تتوفر لهم ظروف العمل في اقتصاد مزدهر.
ذلك أن نتائج سياسة النظام في الميدان الاقتصادي متجلية في الحالة السيئة التي يعرفها الجميع، من غلاء في الأسعار يمس على الخصوص جماهيرنا الكادحة، واستفحال في الضرائب يهدد مصير صغار التجار والحرفيين. وإذا كان النظام قد استطاع حتى الآن أن يتلافى أزمة اقتصادية خطيرة، بفضل الرصيد الذي تركناه في الخزينة عند مغادرتنا للحكم، وكذلك بفضل المساعدات والقروض الفرنسية والأمريكية، وإذا كان النظام ينتظر مهلة لأخذ نفس جديد من وراء المحصول الفلاحي الجديد المترقب هذه السنة، فإن تصرفاته الحالية في الميدان الاقتصادي والمالي، لو استمرت على ما هي عليه، فإنه لا يمكنها أن تؤذي إلاّ لنتيجة حتمية واحدة وهي العجز الفادح في ميزان المدفوعات الخارجية.
ولذلك نرى اليوم وزير الاقتصاد السيد محمد الدويري، وهو من حزب الاستقلال، يوجه النداء تلو النداء لجلب الاستثمارات المالية الأجنبية لمواجهة هذا العجز في ميزان المدفوعات، ولمحاولة الحصول على حقنة إنعاش الاقتصاد. فهو لا يكتفي بإعطاء كل التطمينات من أجل استرجاع المستثمرين لأرباحهم ولرؤوس أموال، بل ويطلب من الحكومة الفرنسية أن تمنح لرؤوس الأموال الفرنسية ضمانات استثنائية عن طريق قروض خاصة. وفوق ذلك كله فهو يمنح لرأس المال الأجنبي امتيازات جديدة في بلادنا، تحت ستار ما سماه «الصندوق الوطني للاستثمار».
وحتى إذا كتب النجاح لهذه السياسة – وهذا بعيد الاحتمال- فإنها لن تؤدي إلى تنمية اقتصادية سريعة ومنسجمة، وإنما ستكون نتيجتها تركيز طبقة من السماسرة غير المنتجين الذين سيكونون الوسيط بين الاستغلال الاستعماري في أسلوبه الجديد وبين الشعب المغربي، وسيصبحون العدو الألد لمغربة الاقتصاد القومي.
كل هذه المحاولات لتلافي الفشل، لا يمكن أن يكتب لها النجاح، لأنها مشكوك فيها من الناحية الفنية، ولأنها رجعية من الوجهة الاجتماعية.
فليس للنظام أدنى وسيلة لتحقيق ما يتبجح به، بالرغم من سرقته لشعاراتنا وبعض من برامجنا، لأنه عاجز عن ذلك. ومرجع هذا العجز وهذا الفشل هو أن الشعب ابقي مبعدا عن سائر المشاريع، وهذا ما لا يريد النظام إدراكه رغم ما يمكن أن يتعلمه عند غيرنا من دروس التجارب المتعددة.

ب – دعائم النظام


وحيث أن هذا النظام لا يمكنه أن يعتمد على ثقة الجماهير الشعبية والتفافها الإرادي حوله، فإنه محكوم عليه بأن يبقى تحت رحمة العون الخارجي، وأن يظل معتمدا في الداخل على عناصر أقل ما يقال عنها أنها فاقدة لكل فعالية، وهي الأجهزة الإدارية العليا والمتوسطة إلى جانب الجيش والشرطة.
أمّا فيما يخص الجهاز الإداري فقد عمد النظام إلى شراء موظفيه بكل ما في هذه الكلمة من معنى، منعما عليهم بامتيازات غير متناسبة البتة مع كفاءتهم وانتاجيتهم. ولكن لسوء حظ هذا الأسلوب من الحكم ، فإن الامتيازات بالطبع محدودة، بينما شره بعض الناس لا حد له. مع العلم أن الجهاز الإداري يقوم بالفعل على جمهور صغار الموظفين لا على الفئة الصغيرة من كبار الموظفين. وما دامت أغلبية الموظفين تجد أن وضعيتها تستفحل كما وكيفا، فإنها لا ترى وازعا يحثها على التضحية، بينما رؤسائهم غير متورعين عن ارتكاب الفضائح لتكديس الثروات الطائلة بحكم وظائفهم.
ولذلك لم يلبث الجهاز الإداري أن سرت فيه روح الاهمال واللامبالاة وتفشى فيه التعفن والفساد، كنتيجة حتمية لفقدان الرقابة الشعبية. وإن خطب الرسميين لا تجدي فتيلا لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها الإدارة فغدت أداة متعفنة ومشلولة.


فأي فائدة ترجى والحالة هذه من إدارة منخورة متغنغرة؟


أضف إلى ذلك التنافس المستحكم بين الفئات التي تؤلف زبائن النظام، والتي تتسابق على المناصب الإدارية، بعضها يريد وظائف وزارة العدل والبعض الآخر وظائف وزارة الداخلية، وفئة ثالثة ترشح نفسها لاحتلال مناصب إدارة القطاع العام. وقد بلغ الأمر إلى حد أقلق المسؤولين وحلفائهم الأجانب وبعض المتعاونين مع النظام.
أما الجيش والشرطة فإنهما جهازان يستمدان قاعدة المشتغلين فيهما من أبناء الشعب، فإن الجنود والضباط الذين كانوا يشتغلون في فرق عهد الحماية الأجنبية، والذين تشكلت منهم القوات الملكية المسلحة غداة الاستقلال، ما كان يدفعهم للانخراط في الجيش الفرنسي أو الإسباني سوى الهروب من سياسة الظلم أو عامل البطالة. بحيث أننا نجد في نفوسهم كما نجد عند فرق جيش التحرير التي حلت وأدمجت في صفوف القوات الملكية المسلحة في غشت 1956، نفس المطامح الشعبية التي تجيش بها نفوس عائلاتهم التي ما تزال مقيمة بالقرى، أو التي نزحت للأحياء الفقيرة بضواحي المدن الصناعية. هذه حقيقة يجب ألا نغفل عنها أبدا.
ولكن هناك حقيقة أخرى يتعين علينا كشفها هنا، وهي أننا باعتبارنا الجيش والشرطة الدعامتين الأساسيتين للنظام القائم، فلأن هذا النظام لم يسمح لهما قط بأدنى ارتباط مع الشعب، وظل يمانع في إصرار قبول أي شكل من أشكال التجنيد الشعبي للخدمة المدنية أو العسكرية التي من شأنها أن تخلق الرابطة الضرورية بين الجيش المحترف، وبين الشعب الذي وجد هذا الجيش مبدئيا لخدمته.
وكانت نتيجة هذا الحرص الذي يبديه القصر الملكي، في احتكاره للجيش كملكية خاصة به معزولة عن الشعب وفي إطار مغلق، أن تكونت شبه إقطاعية قوية التسليح، ومهددة بشتى أنواع المؤثرات الأجنبية والمصالح المشبوهة، دون أية وسيلة لحماية هذه القوات المسلحة من الأخطار، أو لاخضاعها لرقابة شعبية. فأصبح يخشى على النظام نفسه بسبب سياسته العمياء اللاشعبية أن يفقد سلطته على تسيير هذه الأداة. وقد كشفت تجربة الكونغو أن بعض المسؤولين على رأس القوات الملكية المسلحة، قد ينهجون سلوكا مناقضا للسياسة التي يعلن عنها النظام.
فالاحتمال قائم إذن في أن الدعامة التي يظن النظام أنه مرتكز عليها، لا اتفلت من يده فقط، بل إنها قد تصبح تهديدا خطيرا لبقائه.
ونحن عندما كنا نطالب بتأميم الجيش، فلأننا لم نكن نقصد الأشخاص المشتغلين في هذا الجيش، وإنما كان يعنينا كشف المهام التي يشغلونها والإدارة السياسية لجيش وما يحيط بها من الشبهات والأخطار المهددة لسلامة الأمة.
وليست هذه الأخطار سوى ما سبق أن تحدثنا عنه من نتائج سياسة الاستعمار الجديد في القارة الإفريقية بأسرها. وأن الظروف التي تسهل خضوع النظام لمناورات الاستعمار الجديد، لهي بقاء المؤسسات الاستعمارية التي خلفها نظام الحماية، والتي يشخصها مليون هكتار من الأراضي الزراعية المملكة للأجانب كما تعبر عنها سيطرة الاحتكارات الأجنبية على وسائل الإنتاج الأساسية ونظام التسليف والتجارة. ومما يزيد خضوع النظام القائم للرغبات الأجنبية، ضعفه وعجزه اللذان يضطرانه لإستجداء المساعدة المالية والفنية، تلك المساعدة التي تصبح والحالة هذه وسيلة لتركيز مصالح الاستعمار الجديد، ومصالح حلفائه الإقطاعيين والسماسرة البرجوازيين.

ثالثا – التناقضات الاجتماعية


لم تكن التناقضات الاجتماعية سنة 1955، أي قبيل اعلان الاستقلال السياسي قد برزت حدتها في شكل صراع طبقي، لكنها ما فتئت بعد ذلك أن تبلورت فأدت إلى تحول في الحركة الوطنية، انتهى سنة 1959 بظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي فصل قيادة حزب الاستقلال الرجعية عن قاعدة التحرير الشعبية وقد تبع هذا التحول تحول مواز في الحكم بحدوث الانقلاب الرجعي سنة 1960.
فإن البرجوازية الكبرى الفلاحية والتجارية، مع نسبة ضئيلة منها في النشاط الصناعي، قد ربطت مصيرها منذ الاستقلال مع عناصر الاقطاعيين، ومع المؤسسات الاقتصادية الموروثة من عهد الاستعمار، بل انها وقفت دون ما كان الرأسمال الليبرالي الأجنبي مستعدا لمنحه اياها من مراكز بحكم سياسة الاستعمار الجديد. وكان هذا الموقف المتقاعس للبرجوازية ناشئا عن ضعفها كما وكيفا، وعن خوفها من الحركة العمالية وزحف الجماهير الشعبية.
فوضعها الراهن اليوم هو استسلامها المطلق للإقطاع والاستعمار الجديد. ونحن نرى نتيجة لذلك الموقف المتخاذل للمتكلمين باسمها في المسألة الدستورية، مع أن مصلحتها الطبقية كانت تفرض عليها الوقوف في وجه سيطرة القوى الحاكمة، وبذاك فقد حكمت على نفسها بالعبودية والتبعية بدون قيد ولا شرط.
نعم، مقابل هذه التبعية تستفيد البرجوازية الكبرى من السياسة الاقتصادية الحالية. فمما لا شك فيه أن مصالحها الأساسية في المدن والقرى قد امتدت وتحصنت بفضل الإجراءات القانونية المتعلقة بنظام التجارة والجمرك والضرائب. ولكنها لن تلبث أن تجد نفسها في النهاية – بحكم هذه السياسة – أمام أحد احتمالين لا مفر لها من اختيار أحدهما.

فإما أن تصبح برجوازية أعمال وإنتاج فتضطر لوضع مسألة تحقيق تحرر الاقتصاد الوطني.

وإما أن تكتفي بدورها الطفيلي كسيدها الإقطاع، تاركة كل الامتيازات الرئيسية بيد الأجانب المستغلين للبلاد.


ومهما يكن، فإن هذا السلوك المتميز للبرجوازية الكبرى الطبقية، وضع فاصلا بينهما وبين البرجوازية الوطنية، المتوسطة والصغيرة. التي يزداد فقرها يوما بعد يوم بسبب السياسة الاقتصادية القائمة وتتسع الهوة بين هذه الطبقة الوسطى وبين حفنة المنتفعين بالامتيازات التي يمنحها لهم النظام، بقدر ما يربطون مصالحهم بمصالح المستوطنين الأجانب، وبالرأسمالية الدولية في الميادين التجارية والصناعية والبنكية والفلاحية. وبهذا نفهم الوضعية الغريبة التي أشرنا إليها، وهي أن هذه البرجوازية الكبرى عاجزة عن احتلال المواقع التي يستطيع الاستعمار الجديد السماح بها وتسليمها.
فمن الخطأ إذن أن ننتظر من هذه الطبقة أن تكون وفية، ولو حتى لمطلبها الطبيعي في تحقيق الديموقراطية، فأحرى أن تتولى مهمة تحقيق التحرر الاقتصادي. ومن هنا يتجلى الدور الجسيم الذي ينتظر الطبقة العاملة لتحمل مسؤولية المعركة الاقتصادية.
وأن هذه المعركة الاقتصادية لابد لها أن تتخذ بطبيعة الحال صبغة سياسية حتمية، مادام الحكم القائم هو الوصي على البرجوازية الكبرى، والوكيل المنصرف لخدمة مصالح الاستعمار الجديد، ولرعاية التحالف بين الرأسمالية الدولية والبرجوازية المستغلة. وقد أدركنا هذه الحقيقة بالتجربة المباشرة طيلة سنوات مشاركتنا في الحكومة.
لذلك نرى أن خطة النظام الحالية تجاه كل اصطدام اجتماعي بمناسبة مطلب عمالي جزئي، هي ألا يتجاوز الصدام نطاقه المحدود، علما منه أنه لن يلبث حتما حتى يفضي إلى معركة جوهرية تهدد الأسس الاقتصادية والاجتماعية للوضع بأكمله. فالحكم يتظاهر بالتنازل في معركة عمالية تهم القطاع العام، أو هو على الأقل يجزل في الوعود مثلما حدث عند إضراب عمال البريد في نهاية سنة 1961. ولكن إلى أي حد يستطيع أن يسير في خطة الوعود والتنازلات الشكلية؟ وهل يستطيع أن يسلك نفس الخطة في النزاعات العمالية المتعلقة بالقطاع الخاص؟
وإن هذه التساؤلات هي التي ترسم الإطار الذي يتعين علينا أن نبحث فيه حقيقة ومغزى مظاهر بعض الاعتدال في نضالية القيادة النقابية.
وإن ما يخشاه النظام هو أن تصبح الطبقة العاملة، وهي مجندة في طليعة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنتظمة في الاتحاد المغربي للشغل، الأداة الصالحة لتحقيق التحرر الاقتصادي والثورة الاجتماعية. وهو لذلك يبذل قصارى الجهد لفصل النشاط النقابي العمالي عن حركة التحرر الوطني، بعد أن باءت محاولات تقسيم النقابات بالفشل.
أما طبقة البرجوازية الصغيرة في المدن والقرى، فإنها تشمل قطاعات مهمة من الموظفين وأصحاب المهن الحرة، وكذلك الحرفيين والتجار والفلاحين الموسرين. وقد لعبت هذه الفئات من البرجوازية الوطنية دورا مهما في حركة التحرر الوطني، وهي تزداد مع الأيام شعورا منذ إعلان الاستقلال الشكلي باستمرار الأنظمة الاستعمارية والإقطاعية. كما تتعمق خيبتها نتيجة لسياسة الحكم السيئة والوخيمة العواقب. فنراها تسترجع روح التمرد والنقد، وتقتنع أن حل المشاكل التي تتخبط فيها، وتحقيق مطامحها، لن يتأتى شيء منه إلاّ عن طريق سياسة تحررية حقيقية، وإقامة نظام ديموقراطي كضمان لازدهار البلاد في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والنقابية.
غير أن هذه الطبقة كما هو معروف عنها، قد تميل إلى اختيار الدفاع عن مصالحها في إطار النظم القائمة، مما يجعل موقفها غامضا وغير مستقر، كما تثبت ذلك التجارب في سائر البلاد المتخلفة. فلا غرابة إذا وجدنا بعض العناصر من هذه الطبقة تحاول معالجة مشاكلها بصفة فردية وجزئية خارج الإطار الجماعي الشامل، وحتى في حالة انتظامها على الصعيد المهني، فإنها أميل إلى التعاون مع السلطات المحلية منها إلى دفع نشاطها للمستوى الوطني.
ومع ذلك فإن هذا القطاع الهام من مجتمعنا، يتوفر على طاقات ثورية كامنة، استطاعت أن تتفجر في فترة فيما بين 1953-1955، كما هبت لإعلان تضامنها مع العمال والدفاع عن وحدتهم النقابية بمناسبة إضرابات 1959-1960، وبفضلها حققنا إلى الآن انتصاراتنا الانتخابية البلدية والقروية.
وبقدر ما نكون مخطئين ومجحفين في حق هذه القوة بإهمالها والتنقيص من قيمتها، فإننا نكون واهمين إذا نحن قصرنا كل اعتمادنا عليها من النشاط الثوري لحزبنا.
على أن النظام لا يعير اهتماما كبيرا لهذه الفئات في المجتمع من الوجهة السياسية، اللهم إلاّ ما كان من استغلال رخيص لعواطفها الدينية وتمسكها بالعادات التقليدية، كما أنه لا يكترث لحركة مزاج البرجوازية الكبرى، مثلما هو مهتم على الخصوص بطبقة الفلاحين.
وظاهرة الاهتمام بالفلاحين هذه، جزء من سياسة الاستعمار الجديد الذي استنبط من دروس الثورات الآسيوية والثورة الكوبية على الخصوص بعض الاستنتاجات السطحية التي ينصح بمقتضاها الأنظمة التي تدور في فلكه بألا تكترث بالفئات الحضرية من شعوبها، وأن تجتهد قبل كل شيء في إخماد تذمر الفلاحين والحيلولة بينهم وبين الانزلاق الثوري.
ولا حاجة بنا إلى تحليل جديد لما يسمى بمشروع الإنعاش الوطني الذي استعرضناه من الواجهة الاقتصادية، في القسم الأول من هذا التقرير ولكن من المهم أن نعيد النظر هنا في مغزاه السياسي.
في الواقع أن هذا المشروع يدخل في سلسلة التجارب المتتابعة منذ عهد الحماية الفرنسية، قصد معالجة قضايا المجتمع القروي ومشاكله، دون المساس بنظام الملكية الذي كان يستحيل على الحماية المساس به، دون تهديد وجودها من أساسه، كما كان يستحيل على الحكومات الأولى بعد الاستقلال – ولو مع مشاركتنا فيها – أن تتعرض لهذاالمشكل ما لم تحل مشكلة الحكم من أصله.
وكما قلنا فإن مشروع الإنعاش الوطني ليس سوى صورة كاريكاتورية لتعبئة الجماهير القروية. ولكنها قد تؤدي إلى تضليل هذه الجماهير، وقد يستفيد النظام من ورائها ربح بعض الوقت. وهذه هي الغاية التي يعمل من أجلها. لذا وجب علينا اغتنام فرصة تجميع هؤلاء الفلاحين المحرومين من الأرض، وان لم يكن ذلك قصد أصحاب المشروع، لنعرض على أنظارهم الحلول الأجدى لمشكلتهم، وإقناعهم بأن الطريق السليم ليس هو الذي يسوقهم النظام إليه.

ويمكننا أن نستخلص مميزات المجتمع المغربي الحاضر في الظواهر الآتية:

برجوازية كبرى تنازلت عن مطامحها السياسية، وربطت مصيرها بالإقطاع.

طبقة عاملة تكون القوة الرئيسية، ولكنها في حاجة لأن تضع بوضوح قواعد العلاقات بين مهامها النقابية وبين أهدافها السياسية.

برجوازية متوسطة وصغيرة متذمرة ومتوفرة على طاقة ثورية كامنة، ولكنها مترددة في استئناف النضال لاستكمال التحرر الوطني.

جماهير صغار الفلاحين والمحرومين من الأرض الذين هم في حاجة إلى وضوح الرؤيا لمهامهم، كما هم في حاجة إلى إطار ينظمون فيه نضالهم الخاص إلى جانب نضال الطبقة العاملة.
هذه هي الصورة الموضوعية غير الواضحة المعالم للظروف الاجتماعية التي استطاع معها النظام أن يحافظ على وجوده، متظاهرا ببعض الاستقلال بالنسبة لجميع فئات المجتمع، بينما هو يزداد خضوعا يوما بعد يوم لمصالح الاستعمار الجديد. ومن وراء ذلك صورة خلفية للصراع الهائل الدائر بين الاستعمار وقوى التحرر والتقدم في العالم.

مهدي

نــقــد ذاتــي – ثلاثة أخطاء قاتلة

في هذه الظروف الداخلية والخارجية، توجهنا مهام عديدة ومستعصية لا مناص من القيام بها، ولابد لنا من معالجتها بأساليب جديدة وبسلوك ملائم لخطورتها، مستمدين قوة جديدة من دروس أخطائنا السالفة.
ويظهر لي أننا في الماضي قد انزلقنا نحو ثلاثة أخطاء رئيسية سوف تكون قاتلة لا محالة، ان لم نتداركها في الظروف الراهنة.


الخطأ الأول: يرجع إلى سوء تقديرنا لأنصاف الحلول التي كنا مضطرين للأخذ بها.
الخطأ الثاني: يتعلق بالإطار المغلق الذي مرت فيه بعض معاركنا، بمعزل من مشاركة الجماهير الشعبية.
الخطأ الثالث: نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية وعن عدم تحديدنا لهوية حركتنا.


1- أنصاف الحلول وموقفنا منها


ماذا كان موقفنا من أول «نصف حل» عشناه في نضالنا الوطني وهو حل «اكس ليبان» (Aix – les – bains) ؟
حدث ذلك بعد نضال طويل ظل يتعمق خلاله وعي المناضلين الثوري، وبرزت طوال مرحلة مطامح شعبنا، وهي تزداد وضوحا مرحلة بعد مرحلة.
واسمحوا لي هنا أن استعرض المراحل الثلاث التي مر بها هذا النضال في فتراته المعاصرة.


أ- فقد تميزت المرحلة الأولى من معركة التحرير الوطني، بعد فشل الثورات القروية المسلحة ضد الاحتلال، بانتشار الدعوة الوطنية عند جماهير البرجوازية الصغيرة في المدن التقليدية، وانتقلت الحركة الوطنية كما وكيفا إلى تطور جديد، اثر الحرب العالمية الثانية، بعد أن انخرطت فيها أفواج الكادحين المكدسين في الضواحي الفقيرة المسماة بمدن القصدير. فقد كان للنمو السريع في قطاع الصناعة الاستعماري نتيجة إيجابية، هي نشوء طبقة عاملة ما فتئت أن تسربت إليها تنظيمات الحركة الوطنية.
والظاهرة التي يجب أن نلفت النظر إليها هنا، هي أن البعض كان في أغلب الأحيان ينظر إلى هذه الانخراطات الجديدة في صفوف الحركة الوطنية مجرد نظرة عددية، ولم يكن يعتبر تلك الجماهير سوى وسيلة جبارة للضغط على المستعمرين، بينما كانت هذه الجماهير تشكل بحكم تركيبها التحالف بين العمال والفلاحين المطرودين من الأرض، والنازحين إلى مدن القصدير. وبقي قسم مهم في قيادة الحركة الوطنية غير واع للمعنى العميق لهذا التحول الكيفي، ولما كان ينبغي أن ينتج عنه من تحول في الأهداف وأساليب النضال. ومن هنا ندرك الأسباب العميقة لكثير من التطورات في الحركة الوطنية.
وبكلمة موجزة يمكننا القول بأن الحركة الوطنية كانت تحتوي على حركتين متوازيتين، وبقدر إدراك الجماهير الكادحة لأيديولوجيتها الخاصة بها كطبقة ثورية، استطاعت الحركة الوطنية أن تكسب من هذا الدم الجديد طفرة قوية جديدة.


ب–  ولم تكن المرحلة الثانية للنضال التحرري، تتميز بظهور المقاومة المسلحة في المدن؛ مثلما هي تتميز بقيام جيش التحرير الذي لا يتأتى إلا بالتأييد الفعال من طرف الجماهير القروية، كما أثبتت ذلك التجارب التاريخية المختلفة. ومعنى هذه المرحلة أن دعوة حركة التحرير الوطنية قد بلغت سكان البادية والأرياف.
إن هذا الحدث إذا فهم وفسر على حقيقته يكون له مغزى ثوري عميق، لأنه يطرح مشكلتين هامتين: مشكلة تحالف القوى الثورية، ومشكلة أساليب النضال السلمية والعنيفة.
فالمشكلة الأولى تتعلق بربط نضال جماهير المدن من عمال وصغار التجار والحرفيين بنضال الفلاحين في الأرياف. فكلنا نعلم أن الاستغلال الاستعماري قام عندنا على اغتصاب المعمرين للأراضي الزراعية الذي نتج عنه استفحال البطالة في القرى، وهجرة الفلاحين للمدن. وهؤلاء الفلاحون المطرودون من أرضهم الذين يكونون جمهرة الصعاليك في المدن، وهم الذين دخلوا أفواجا في الحركة الوطنية، بينما منبع سخطهم ومصدر قوتهم الثورية خارج هذه المدن، وفي وسط الأرياف.ولذلك فبمجرد ما تصل حركة التحرر الوطني إلى هذه الأرياف نكون قد أقفلنا الحلقة، وتصبح الطاقة الثورية المتجمعة في كلا القطبين الحضري والبدوي قوة لا مرد لها.
وبينما الثورة تكتسب قوة جديدة، فهي لذلك تجد الطريق لتعليق مفاهيمها الإيديولوجية، فهي إذا أمعنت النظر في مشاكل قوتها الرئيسيتين، فإنها تستطيع الوصول إلى وضوح الرؤيا فيما يتعلق بنظام الاستغلال الاستعماري، وفيما يتعلق كذلك بمشاكل العمال والفلاحين وارتباط بعضها ببعض. وان إدراك هذه العلاقة لهي الدلالة على ثورية المنظمة وثورية برنامجها.
وأمّا المشكلة الثانية التي برزت من خلال هذه المرحلة من نضالنا الوطني، فهي قضية العنف كأسلوب سياسي. ذلك أن النضال الثوري ضد أي نظام اقتصادي واجتماعي لابد أن يكون مزيجا من الوسائل السياسية والعسكرية، وتأرجحا مستمرا بين الأساليب القانونية والأساليب غير القانونية. وكان لزاما علينا، وقد وصلت بلادنا إلى هذه المرحلة، أن ندرك هذه المشكلة على حقيقتها وفي منتهى مدلولاتها، وأن نستخلص منها النتائج الحتمية لتعميق الوعي الثوري للمناظلين.

ج- وقد دخلت معركتنا في مرحلتها الثانية باندماجها في الأفق الثوري لمجموع بلاد المغرب العربي. وتم ذلك بنفس السرعة التي كان يسير بها تعميق الأبعاد السياسية والإيديولوجية للحركة، وهي تسير بخطى حثيثة نحو أهدافها. وكانت هذه المرحلة تشكل تحولا جذريا، لأنها فتحت مجالا تستطيع معه الأقطار الثلاثة لبلاد المغرب العربي أن تنتقل من أهدافها المرحلية، كعودة الملك أو تأسيس دولة أو استرجاع الشخصية الذاتية، إلى أهداف ثورية استراتيجية. ومن خلال التباين الشكلي للمعارك المختلفة بالأقطار الثلاثة بدأت تظهر وحدة الاستغلال الاستعماري ووحدة النضال المصيري المشترك، وان المغزى الثوري لهذه الوحدة، هو أنها تتجاوز الخصائص الإقليمية المتباينة، الناتجة عن تاريخ الاستعمار واختلاف النظم السياسية والمناورات الذكية للمستعمرين لخلق التقسيمات المصطنعة، لكي تصل إلى وحدة نضالية، يتبدد معها الكثير من الأساطير والأوهام.
وقد تمت «اكس ليبان» عند هذه المرحلة بالذات، أي عند نهاية تطور طرحت فيها موضوعات قضايا جوهرية بالنسبة لمعركتنا، وهي دور وأهداف الجماهير الكادحة الحضرية، مع ضرورة ارتباطها بالجماهير القروية، ومسألة اللجوء إلى العنف لا في إطار محلي ضيق وإنما في مستوى أفقي متسع في النضال ضد الاستعمار.
ففي هذه الفترة من نضالنا الوطني، والتي رغم قصرها أخذت تظهر فيها عوامل التوضيح الجذرية التي كنا سندخل بها – كغيرنا من الثورات – في مرحلة حاسمة، في هذا الوقت بالذات وقع محمد الخامس في طريق عودته من المنفى إلى المغرب اتفاقية «لاسيل سان كلود» la selle Saint – cloud مع الحكومة الفرنسية، كنتيجة لمباحثات «اكس ليبان» والتي أدت إلى الاستقلال السياسي الشكلي.


فهل معنى ذلك أن الخصم كان أكثر خبرة منا، فأدرك قبلنا المغزى العميق لاتجاه سير الأحداث؟


ولماذا لم تدرك حركة التحرر الوطني، التي كنا من مسيريها الأغراض الأساسية للاستعمار؟

ولماذا لم نتول توضيح هذه الأغراض، وما يترتب عنها من مسائل للمناضلين مع ما ينج عن ذلك من تحديد لمتطلبات معركة تحريرية جذرية؟


علينا اليوم أن نجيب على هذه الأسئلة وعلى أمثالها في هذا الباب.


لقد منحتنا الظروف التاريخية الوسائل الكفيلة لكي نقوم بدور التوضيح الذي كانت تفرضه علينا مهمتنا الثورية..

فهل قمنا بتقديم هذه التسوية التي تمت مع المستعمر كأنها حل وسط، أي أنها حل وسط ربحنا بمقتضاه، ولكننا في نفس الوقت سجلنا خسرانا مؤقتا؟
ليس المهم اليوم أن نطرح بشأن هذه الاتفاقية أسئلة مزيفة مثل «هل كان يمكننا رفض الاتفاقية» أو «ما الذي دفع فرنسا إلى قبولها؟»

السؤال الوحيد الذي يهمنا توضيحه هو أثر هذه الاتفاقية على الانطلاقة الثورية لحركتنا الوطنية.


فلا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي لعبه في التحول المفاجيء للسياسة الفرنسية اقتران الحركتين التحريريتين، الجزائرية والمغربية. وما كان سيترتب عليه من نتائج. وأيضا ليس من قبيل الصدفة أنه في الوقت الذي بدأ فيه المناضلون – وان كانوا قد بدأوا فقط يدركون من وراء الرمز المعني العميق للنضال الوطني – في هذا الوقت بالذات فهم المستعمرون المعنى العاطفي لإرجاع الملك من منفاه. ونحن اليوم إذا حللنا هذه المطابقات بعد مرور الزمن عليها، ندرك أن السياسة الاستعمارية بلغت منتهى من الذكاء كنا أبعد ما نكون عن تصوره.
نعم، لقد بدأت تنضج المعالم الميكافيلية لهذه السياسة عندما شرع الاستعمار في تطبيقها على مدى أوسع في مجموع القارة الأفريقية، غير أنه منذ نهاية سنة 1956 أخذت مرارة الخيبة تظهر في نفوس عدد من المناضلين، وخاصة عند قادة حركة المقاومة وجيش التحرير، وكان ذلك بمثابة الشعور الحدسي بأن سير الثورة قد توقف.
فهل نحن أخذنا في حسابنا هذا الشعور بالخيبة، واستنتاجنا منه نتائج إيجابية كما كان يجب علينا؟ وهل شرحنا مغزى حل اكس ليبان بعد أن ظهرت سياسة الخصم جلية واضحة للعيان عندما أعلن الجلاوي تراجعه المسرحي وتوبته الموعز بها له؟
كلا لم يقع شيء من ذلك، بل أخذنا على حسابنا تلك الاتفاقية بما لها وما عليها، وتقدمنا بها كعربون على اندحار الاستعمار الفرنسي. ثم إننا صورنا انحلال «مجلس العرش» الذي نصبه الاستعمار كهزيمة أخرى للسلطة الاستعمارية، بينما لم يكن في الواقع إلا فخا مدروسا للتظاهر بالتنازل. ودخلنا في اللعبة الاستعمارية باستبدالنا الهدف الأساسي لمعركتنا، وقد بدأ يتضح للمناضلين، بهدف آخر قد يظهر لأول وهلة قريب المنال، بينما هو في المدى البعيد بمثابة السراب.

إننا في الحقيقة لم ندرك معنى المنعرج الذي وصلت إليه حركتنا، ولم نتخذ له العدة في وقته، لأسباب يمكن مناقشة صلاحيتها، ولكن نتيجتها الملموسة هي أننا عللنا أنفسنا بأن تلك التسوية السياسية إنما كانت توقفا مرحليا في مسيرتنا الثورية. وكان مفروضا ضمنيا أن يستغل هذا التوقف كفترة استجمام للحركة الوطنية، تستغلها لاعادة تنظيم نفسها، ولمعالجة التضخم الذي أصابها، واستيعاب القطاعات الثورية الجديدة في صفوفها، غير أن هذه المحاولات وان كانت قد انخرطت بنية حسنة، إلاّ أنها لم تكن موضوعة في إطار استراتيجية شاملة، جعلها تفضي إلى نتائج عكسية بل إلى تعفن أجهزة الحركة التحررية.
إن هذا التحليل النقدي لتسوية اكس ليبان الذي لم نقم به سنة 1956 علينا أن نقوم به اليوم، حتى نستخلص منه في سياستنا الداخلية موقفا واضحا ومحددا بالنسبة للتسويات أو الحلول الوسطى التي قد نضطر إلى قبولها في المستقبل. ان مثل هذه الحلول يجب أن تقوم بصفة موضوعية وبتقييم حقيقي، لا أن ندافع عنها كانتصارات حاسمة، وبذلك نمنعها من خلق ضباب حول وضوح الوعي الثوري للمناضلين.
ليس من المحرم على حركة ثورية أن تمر في حلول مرحلية، لأن ذلك متوقف على توازن القوى، وعلى تحديد الأهداف القريبة منها والبعيدة. والمهم هو أن يتم كل شيء في وضح النهار، وبتحليل شامل يوضح الأوضاع للمناضلين.
علينا ألاّ نقع مرة أخرى في خطأ «اكس ليبان»، وألاّ نتولى تبرير التسويات كأنها حلول كاملة، والاحتفاء بها كأنها انتصارات تخدم في الواقع أغراضا انتهازية.

2 – صراع في نطاق مغلق


هل من حاجة إلى التذكير بالمعارك المتعددة التي اضطرنا لخوضها من سنة 1956 إلى 1960 دون أن يعرف الشعب شيئا عنها. وكلها كانت تدور بين جدران منازل أساطين حزب الاستقلال، أو داخل القصور الملكية دون أن ينفذ صداها إلى الخارج
وتعلم بعض إطارات الحزب بالتفاصيل كيف قمنا منذ البداية، ونحن ما زلنا في حزب الاستقلال بالدفاع عن مبدأ أساسي، يضمن لكل حكومة تستحق هذا الاسم أن تباشر السلطة التنفيذية المخولة لها، ذلك المبدأ الذي بدون احترامه تكون الحكومة اسما بلا مسمى، وهو أن تكون بيد الحكومة سائر السلطة، وبالأخص الإشراف على موظفي وزارة الداخلية والمحافظين وكذلك مصالح الجيش والشرطة والدرك التي كان القصر يعمل على احتكارها. وكنا كلما وضعنا مشكلة هذه المناطق المحرومة أو أدرجناها في أعمال أحد المجالس الوزارية، وجدنا نفسنا موضع هجوم مركز من طرف الصحافة الاستعمارية الفرنسية تحت عناوين بارزة ومانشيتات: «العرش المغربي في خطر» وفي ذلك منتهى المفارقة لصدوره من أولئك الذين اعتدوا على العرش من قبل ثلاث سنوات.
ولم نقم بواجب التوضيح أمام الرأي العام لهذه المعارك المتجددة على تعاقب الحكومات، من الوزارتين الائتلافيتين الأولى والثانية إلى حكومتي بلافريج وعبد الله ابراهيم. ولم نقل قط للشعب أننا كنا فاقدين لوسائل تنفيذ برامجنا. فلا غرابة إذن من أن يتهمنا البعض اليوم بأننا كنا نتوفر على سائر السلطات طيلة سنوات 1956 إلى 1960: بينما كنا فاقدين لجوهر السلطة. هذه هي الحقيقة.

ولننتقل إلى المعارك التي خضناها في الميدان الاقتصادي، فإن أولئك الذين ينسبون لأنفسهم مشاريعنا، ويتبجحون بها في خطبهم كانوا من ألد أعدائها عندما كنا نعرضها ونحن نشارك في الحكم. فكم تحمل أخونا عبد الرحيم بوعبيد من متاعب ليوجد للمغرب بنك إصدار عملته، ولكي لا تبقى هذه العملة تابعة للعملة الأجنبية. وكم تكبد من مشاق لإيقاف نزيف الرأسمال الوطني ولم تتحقق بعض تلك المشاريع إلاّ بفضل صبر طويل ومثابرة بيداغوجية لا تعرف الملل طيلة أربع سنوات من أكتوبر 1956 إلى أبريل 1960.
وسنوضح فيما بعد أن هذه الإصلاحات لم تكن لتغير من جوهر السيطرة الاستعمارية في الميدان الاقتصادي. إلاّ أنه من الواجب أن نؤكد هنا أن هذه الإصلاحات على ضآلتها، بالنسبة لما يزال منتظرا منا إنجازه لتحقيق التحرر الاقتصادي، لم تر النور إلاّ بعد معارك مريرة لم يسمع الشعب عنها شيئا.
ومثل ذلك حصل عندما عرضنا مسألة اختيار أسلوب الاقتراع في انتخابات المجالس المحلية البلدية والقروية، فقد اصطدمنا مع القصر لكي يكون الاقتراع باللائحة، فهو الأسلوب الوحيد الذي يضمن عن طريقه قيام مجالس بلدية تكون أداة للبناء الاقتصادي والاجتماعي. ولكن القصر التجأ إلى استشارة «علماء» من الخارج، ليفتوا له بصلاحيات الاقتراع الفردي أو ما شابهه حسب رغبته. وطالبنا بالرجوع إلى استشارة المنظمات السياسية، فطلب القصر رأيها ولو أنه أدخل في زمرتها من لا يحمل من الكيان السياسي سوى الاسم. وكانت النتيجة أن خمس منظمات اتفقت على رأينا ضد ثلاث منظمات اثنين منها كانتا ضد مبدأ الانتخابات من أساسه. وكل ذلك لا يمنع القصر من فرض الاقتراع الفردي الذي نتج عنه بعث العناصر الإقطاعية والرجعية.
وهذه المعارك أيضا لم يعرف الشعب من أشواطها شيئا.
وهكذا في المعارك التي دارت داخل اللجنة التنفيذية أو اللجنة السياسية لحزب الاستقلال حتى 25 يناير 1959. فإن انزلاق بعض القادة في طريق المساومة الانتهازية، بل ومساهمتهم في المؤامرات الخسيسة ضد جيش التحرير والمقاومة أو النقابات العمالية، كان منشأ اصطدامات عنيفة، لو أعلن عنها في ابانها لوفرت علينا كثيرا من الوقت وخيبة الأمل والمزيد من التضحيات.
إن مثل هذه الأخطاء يجب ألاّ نقع فيها من جديد، كما أن الأخطاء السابقة ينبغي مراجعتها وتحليلها للمناضلين، حتى تضع حدا لبعض الأساطير، ونحرم الاستعمار الجديد من استغلال بعض الخرافات المزيفة الكاذبة.


3– من نحن؟


مضى علينا زمن طويل ونحن لا نريد الإفصاح عن الهدف الذي نرمي إليه. فبسبب التسويات وأنصاف الحلول غير المشروحة، وبسبب المعارك الدائرة في طي الخفاء، لم نتمكن من تحديد آفاقنا البعيدة. ولطالما تلقينا هذا الاستفسار ما هو برنامجكم؟
لاشك أن هذا الاستفسار خاطئ في الشكل الموضوع عليه، لأن أي أحد يستطيع أن يسطر برنامجا كما تشهد بذلك البرامج العديدة التي تصدر عن النظام القائم وعملائه السياسيين.
ومع ذلك ف‘ن هذا لا ينقص من قيمة النقد الذي نوجهه لأنفسنا، وهو عدم تبيان واضح لمعالم المجتمع الجديد الذي نسعى لبنائه في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولابد لنا من وضع حد لهذا الغموض، مادامت الصورة السياسية للقوى المتصارعة في البلاد قد انكشفت فإن مزيدا من التوضيح لابد منه حتى تحدد اتجاهنا كاختيار ثوري أمام الاختيار الرجعي الديماغوجي المتحكم في البلاد. وأن أفضل سبيل لذلك لهو اغتنام فرصة انعقاد المؤتمر الثاني لحزبنا، من أجل تبيان المهام التي تنتظرنا في العاجل والآجل.

المهام التي تنتظرنا

1- مشكلة الديموقراطية


لقد وقفنا من هذه المشكلة في الماضي مواقف لم تثبت الأحداث سلامتها، فلقد كان من البديهي أن تكون النتيجة المنطقية لتسوية «أيكس ليبان» بالنسبة لحركتنا التحررية، هي أن تفرض مراجعة كاملة للجهاز السياسي والإداري في البلاد، لا فحسب لأن ذلك كان هو المطلب الشعبي الأول، قبل أن توضع المسألة الملكية سنة 1953، بل ليتسنى تحديد المسؤوليات دون تأخير. إلاّ أن خطة السلطات الاستعمارية نجحت في أن تجعل قضية السيادة المغربية وكأنها تتلخص في مشكلة رجوع الملك كرمز لهذه السيادة. وسلك الإقطاع المغربي بإيحاء من هذه السلطات الاستعمارية نفس الخطة التي كانت تخدم الاستعمار ثم الإقطاع في آن واحد.
وسجلت السنتان الأولى و الثانية بعد إعلان الاستقلال سلوكا مكيافيليا من طرف الإقطاع، يقضي بالعمل على تأخير أكثر ما يمكن من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية التي لم تكن سوى نتيجة لإعلان الاستقلال، ثم إذا تحقق شيء من تلك الإصلاحات بادر الإقطاع إلى تسجيل فضل إنجازها لحسابه، واستغلها لصرف الانتباه عن المشكلة الدستورية.
وهكذا كانت تتعاقب الحكومات، تشكل ثم تحل دون الخضوع لأية قاعدة مستقرة، وكانت الأحزاب السياسية الحقيقية أو المزورة توضع في مستوى واحد، وكان المبرر الذي يلتجأ إليه لتعليل فقدان المقاييس هو أن الجهود يجب أن تتضافر لمواجهة كبريات القضايا الوطنية، وأنه لم يحن بعد موعد الديموقراطية. وأدهى من ذلك أن خصوم الديموقراطية كانوا يستعملون ضدنا بعض نظرياتنا في الديموقراطية الواقعية، مدعين أن المشكلة الدستورية إنما هي مشكلة شكلية لا تحل جوهر المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وفي نفس الوقت، وتحت شعار المصلحة الوطنية والوحدة المجسمة في شخص الملك، ظلت قوى الرجعية بتأييد مشبوه من الداخل والخارج تماطل في تحقيق الإصلاحات الجذرية التي تهدد ما تتمتع به من الامتيازات. وبذلك قويت شوكة العناصر الإقطاعية حتى بلغ الأمر في أواخر سنة 1958 أن نظمت في جبال الريف بشمال المغرب ثورة مصطنعة بتواطؤ مع عناصر القيادة العامة للقوات الملكية المسلحة.
وقد سبق أن دبرت قبل ذلك بسنتين مناورة مماثلة في مناطق الجنوب بتافيلالت على يد الإقطاعي «عدي وبهي».
ويجب الاعتراف هنا أن الخطر المزعوم لثورة الإقطاع المصطنعة على كيان الدولة قد استفاد منه القصر كوسيلة للضغط علينا للتعاقد معه عند تأسيس حكومة عبد اللـه إبراهيم. وكانت نتيجة هذا التعاقد الرمزي بين القوى الشعبية وبين الملك أن وضعت على الرف المشكلة الدستورية. وقد كنا ممثلين ببعض إخواننا المسؤولين في الحزب داخل هذه الحكومة، ويحق لنا اليوم أن نتساءل إلى أي حد لم نكن مخطئين في تجميد المطلب الدستوري، حتى أظهرت التجربة بعد سنتين بصفة قاطعة أنه يستحيل نجاح أي إصلاح في دائرة الحكم المطلق القائم.
وأخيرا أدركنا بعد إقالة حكومة عبد اللـه إبراهيم أن كل تعاقد مع القوى المحافظة لا قيمة له ما لم يكن على أساس برنامج واحد ومحدد، وإلاّ، يصبح ممثلو الحركة التقدمية في الحكم بمثابة رهائن تستغلها الرجعية لتزكية سياستها وتضليل الرأي العام.
واليوم قد اتخذنا موقفا واضحا في الميدان الدستوري، لا ينبغي لنا أن نصحح خطأ بارتكاب خطأ آخر. فمن الواجب أن لا نترك الناس يعتقدون أن كلمة دستور بمثابة كلمة سحرية تحل سائر المشاكل. ففي رأيي أنه يتعين على الدستور، حتى لا يكون شعارا مضللا، أن يضمن ممارسة الحرية العامة ممارسة فعلية تمكن من تتبع السلطة ومراقبتها، وأن يضمن كذلك الحيلولة دون المؤثرات الأجنبية على السياسة الوطنية. والمهم فيما يخصنا هو أن يعرف الدستور مختلف السلطات، ويحدد مسؤوليتها أمام الشعب وأن يقيم مؤسسات شعبية صحيحة.
فالقرينة الدستورية إذن انما هي جزء من المشكلة الديموقراطية لأنها تطرح مسألة المشاركة الواسعة للجماهير الشعبية في تسيير الشؤون العامة، وهي لا تنفصل عن مسألة تنظيم الجماهير وتعبئتها كأضمن وسيلة لفرض تحقيق هذا المطلب الشعبي.
وهي لا تنفصل كذلك عن معركتنا ضد الاستعمار، إذ لايكفي أن نوجه ضرباتنا لنظام الحكم المطلق في الميدان السياسي وحده، بل ينبغي كذلك إضعاف حلفائه في الميدان الاقتصادي، وهم المستعمرون وال إقطاعيون والبرجوازية التجارية الطفيلية.
ولهذا السبب فإننا لا نختلف مع النظام في المشكلة الدستورية وحدها، لأن الدستور إنما هو إطار للعمل، ووسيلة إضافية للمزيد من تنظيم الجماهير وتعبئتها ضد الاستعمار الجديد. وان الذي يحدد موقفنا من النظام أكثر من أي شيء آخر هو موقفنا العدائي من الاستعمار.

2– مهامنا ضد الاستعمار.

وهي تنقسم إلى مهام خارجية ومهام داخلية.

أ – مهامنا في ميدان السياسة الخارجية


إنها تدخل في خط التضامن المطلق مع مجموع الحركة الثورية للتحرر الوطني ولمقاومة الاستعمار في العالم. كما تدخل بصفة أخص مع نضالنا المصيري المشترك إلى جانب إخواننا في الجزائر، وفي بلاد المشرق العربي، وفي مجموع القارة الإفريقية. وليس الغرض من ذلك الاكتفاء بالشعارات المبتذلة بل انه عبارة عن عمل متواصل يكون انعكاسا على الصعيد الدولي لاختياراتنا السياسية الشاملة.
وسأكتفي لتوضيح مهامنا في هذا الميدان الخارجي أن أذكر بالفارق بين حركة هادفة ضد الاستعمار تقوم بها منظمة ثورية مثل حزبنا، وبين عمل شكلي تقوم به تحت الشعار نفسه عناصر رجعية متحالفة مع الاستعمار، لا لشيء إلاّ لإخفاء هذا التحالف ذاته، ذلك أنه كثيرا ما يرمز إلى خطة سياسية بشعار معين، يستعمل في كلمة واحدة، لتلخيص الهدف الأساسي للمعركة. إلا أن هذه الكلمة قلما تدوم صلاحية استعمالها في أوضاع سريعة التحول كالتي تتميز بها المعركة ضد الاستعمار. فيتعين إذن، إزاء كل مشكلة، أن نحدد بدقة طريق المعركة ضد الاستعمار، لا أن نكتفي فقط برفع شعار قد يتغير محتواه.
وأمامنا مثالان للدلالة على ذلك وهما شعار الحياد وشعار الوحدة، سواء أكانت وحدة المغرب العربي أو الوحدة العربية أو الوحدة الإفريقية.

فالحياد الإيجابي كان له في فترة معينة دلالة واضحة، عندما كان دالاس وزير الخارجية الأمريكية ينعته بالأخلاقية، وكان يرمز إذ ذاك إلى اختيارات واضحة في ميدان السياسة الخارجية وبالنسبة للمستقبل. فلقد كانت المعركة ضد الاستعمار محدودة جغرافيا، ومتواضعة في أهدافها الاقتصادية. ولكن الدول القليلة التي كانت ترفض إذ ذاك الانحياز المطلق للكتلة الغربية، هي التي فتحت سبيل التحرر في وجه بقية الشعوب المستعمرة. ولكن بعد ما اتسعت أرجاء المعركة ضد الاستعمار، وقد اضطرت الدول الغربية كنتيجة لخطة الاستعمار الجديد أن تسمح لمستعمراتها السابقة أن تعلن ظاهريا سياسة عدم الانحياز، لم يعد يجدي الاكتفاء برفع شعار الحياد، بل أصبح المهم اليوم هو المواقف الواضحة إزاء كل مشكل محدد.

ولمزيد من توضيح موقفنا الديناميكي تجاه سياسة الحياد الإيجابي، أود هنا أن أستعرض النتائج التي أحدثتها أزمة قناة السويس في سياستنا سنة 1956. فلقد كان الانتصار العربي خلال هذه الأزمة، أول ثغرة حقيقية في البناء الاستعماري بالمجموعة العربية الإفريقية، وقد أعطى الرئيس جمال عبد الناصر في هذه المناسبة المدلول الصحيح لسياسة الحياد الإيجابي. إلاّ أن قيادة حركتنا التحررية، المتمثلة إذ ذاك في حزب الاستقلال، لم تدرك في مجموعها الأهمية التاريخية لهذا الحدث. وإنما قام بعض المسيرين في الحزب وحدهم، ممن كانوا ينعتون بالجناح اليساري، بإثبات روح التضامن الثوري مع إخوانهم في المشرق العربي. فحاولوا استخلاص العبرة من هزيمة الاستعمار في قناة السويس، مستغلين الصحافة والمنظمات الجماهيرية لتعميم الوعي لدى المناضلين بعدم صلاحية السياسية المتبعة إذ ذاك من طرف الحكومة الائتلافية، وضرورة الاستعداد للمعارك المقبلة. وجاءت خطب الأخ البصري باسم حركة المقاومة في ذكريات 20 غشت 1956 إلى 1958 معبرة عن هذا الشعور، واعتبرت ذات صبغة متطرفة من طرف القصر، ومن طرف ممثلي البرجوازية الكبرى في قيادة حزب الاستقلال.
حقا، إن السياسة الرسمية، التي لم تكن تعير أدنى اهتمام لنضال إخواننا في المشرق العربي، تجاوزت حدود الخطأ، حتى كاد الرأي العام عندنا يعتبرها بمثابة تواطؤ إجرامي مع الاستعمار، مما دفع تيارا مهما في صفوف حركتنا الوطنية، وحتى قبل تأسيس الاتحاد الوطني للسعي في ربط علاقات منتظمة مع المنظمات العربية التقدمية المعادية للاستعمار. وبدأ القصر يحس ابتداءا من سنة 1959 بضرورة اتخاد سياسة التقرب من المشرق العربي لحسابه الخاص، واستغلالها في دعايته. ومن هنا نفهم المواقف المتناقضة التي يقفها النظام من القاهرة والتي تارة تكتسي صبغة الاستعلاء والاحتقار، وتارة أخرى صبغة العطف المشوب بالحذر.
كذلك فإن شعار الحياد الإيجابي لم يعد اليوم يخيف رجال الحكم بالمغرب، بل دخل في المصطلحات الرسمية دون أن يكون له مضمون رفض التبعية للاستعمار.
وكذلك كانت بالنسبة لشعار الوحدة.

ان الوحدة الإفريقية مثلا كهدف تنبثق من خلال حقيقتين، الأولى وحدة تحققت بحكم الاستعمار(وهي وحدة الاستغلال والعبودية)، والثانية هي الانقسام الموروث عن الاستعمار، بسبب التفتيت الذي أصاب القارة الإفريقية تبعا لاختلاف المطامع الأجنبية وتسابق الاحتكارات الرأسمالية. فالوحدة إذن يجب أن تبنى بالتدرج من خلال المعارك العصيبة، لا أن تعتبر حصيلة للنتائج المخلفة بعد الاستعمار. ومظهرها الأول هو وحدة العمل بين البلاد المستقلة لتصفية الحكم الأجنبي من سائر أنحاء القارة، ثم يبدأ تجسيدها عن طريق التدابير المنسقة لخلق انسجام تصاعدي في السياسات الاقتصادية، يمكن في النهاية من إقامة مؤسسات دستورية مشتركة.
ولقد أدرك الاستعمار خطورة هذا الشعار، فغدا يتسابق في اتجاه معاكس مع الجماهير الإفريقية وقادتها، وطرح شعار الوحدة الفورية الشكلية على مستوى القارة أو في المجالات الإقليمية، وهو بذلك يسعى فقط لتثبيت الأوضاع الموروثة، أي سيطرة الاستعمار. وإن خطورة هذا الأسلوب تحتم على المنظمات الثورية أن تقاوم هذا المفهوم الفاسد للوحدة الذي لن ينتج عنه سوى تدعيم النظم الرجعية، وإعطائها وجها يخفي تبعيتها للاستعمار الجديد.
فليس واجبنا هو رفع شعار الوحدة بل إعطاؤه مضمونه الصحيح، وعدم الانخداع بالتجمعات الشكلية التي توزع عليها الدول الأفريقية تحت هذا الشعار. وسنتعرض لشتى المتاعب إذا لم نوضح منذ البداية شكل الوحدة التي نريد والوسائل الكفيلة بتحقيقها على الوجه الأكمل.
وينطبق ذلك على شعار وحدة المغرب العربي.


فهل سنسمح مرة أخرى لخصومنا بأن يستعملوا ضدنا هذا الشعار الذي نؤمن به وحدنا في بلادنا؟

إن هذه الوحدة تفرضها طبيعة الأشياء، ولا أحد يستطيع الحيلولة دونها. ولكننا إذا اكتفينا بهذا الشعار دون تحديد، فسنكون قد فسحنا المجال للمضللين الذين يعملون على استغلاله لأغراضهم الخاصة. فواجبنا أن نعمل في آن واحد على نشر الدعوة لهذه الوحدة وإبراز مشاكلها. وبينما الخصوم يكتفون بالتصريحات الجوفاء التي تخفي نواياهم التخريبية، علينا أن نكرس جهودنا للوصول إلى غايات ملموسة في هذا السبيل، كتوحيد المنظمات الجماهيرية، وإقامة مؤسسات سياسية وإدارية متوازية، وتنسيق أهداف السياسة الاقتصادية في كل دولة. ومن شأن هذه التدابير التمهيدية المدروسة والمقررة على مستوى المنظمات الشعبية، أن تخط الطريق نحو الوحدة الحقيقية. ومن هنا نستطيع أن نثبت أن سياسة الحكومة الحالية التي تسير في تسلسل معاكس تحت ستار التصريحات الرنانة، إنما تكشف عن عدم إيمان المسؤولين بالوحدة، بل وعن نوايا سيئة خطيرة.
لقد بدأ يحتل شعار «وحدة المغرب العربي» مكانا بارزا في حياتنا، وعلينا ألاّ نسمح لأحد باستغلاله، وأن نستخلص الموعظة من أخطائنا السالفة بتعويد المناضلين على إعطاء كل شعار مدلوله الصحيح.وتلك وسيلة سوف نفرض بها على حلفاء الاستعمار الواعين، وغير الواعين، أن يكشفوا عن وجوههم الحقيقية، أو أن يخضعوا لمنطق القوى الشعبية.


ب- معركتنا الداخلية ضد الاستعمار.


من اليسير أن نحدد في المجال الداخلي الخط الفاصل بين قوى التحرير الشعبية، وبين العناصر الرجعية للاستعمار الجديد وركيزته.
ولكن ماذا نعني بمهامنا ضد الاستعمار في المجال الداخلي؟
إنها تتلخص في تصفية مخلفات السيطرة الأجنبية، وإناء تبعيتنا في الميادين الاقتصادية والمالية والثقافية. واسمحوا لي في هذا الصدد أن أتحدث مرة أخرى عن الإصلاحات الاقتصادية التي أنجزت منذ الاستقلال، والتي يجب تقييمها تقييما صحيحا. لأنني أعتبر ذلك قبيل التوضيح الإيديولوجي الذي لابد منه.

الأسس الاستعمارية


عندما نستعرض الإصلاحات الإدارية والسياسية والاقتصادية التي أنجزت بعد إعلان الاستقلال، يتعين علينا ألاّ نقلل من قيمة الصراع الطويل والمعارك المتواصلة التي اضطررنا لخوضها بمناسبة استصدار كل تدبير من هذه التدابير الإصلاحية. ولكن علينا في نفس الوقت أن نقيم هذه التدابير تقييما موضوعيا، مسائلين عن استجابتها لمتطلبات الاستقلال الوطني الكامل وعن مقدار تقويضها لدعم السيطرة الاستعمارية.

وقد حدث أن بسبب الصراع المرير الذي تطلبته تدابير إصلاحية في ميدان الجمرك، أو الميدان النقدي، وأسلوب الاقتراع قد غفلنا عن أن تلك التدابير إنما كانت مجرد إصلاحات مرحلية، لابد منها بالطبع، ولكنها تستلزم تدابير جذرية أكثر في سبيل تحقيق الوصول إلى الهدف المنشود، والذي هو التحرر الكامل. وأن هذه المغالاة في تقييم النتائج الجزئية المحصلة بعد الصراع الحاد قد تجد مبررا لها في سوء تقديرنا الأول للمرحلة الانتقالية بعد اكس ليبان. فباعتبارنا مرحلة التوقف الثوري انتصارا كاملا على الاستعمار، كنا قد حكمنا على أنفسنا بأن تكون مباشرة الحكم في ظل الاستقلال الشكلي إنما هو وراثة طبيعية للسلطة الاستعمارية. وكان ذلك كما قلنا آنفا نتيجة لعدم تقدير مدى عمق الوعي الثوري لدى الشعب بعد سنتين من المقاومة المسلحة. والواقع أن القصر الملكي، ومعه بعض مسيري الحركة الوطنية المتأثرين به، إنما كانوا ينظرون لهذه المقاومة كوسيلة أجدى من الهيجان السياسي للوصول إلى نفس الغرض. إذ انهم لم يحيدوا عن الخط الذي كانوا يسيرون فيه قبل سنة 1953، وهو الخط الإصلاحي الذي يهدف في جوهره إلى تطبيق أفضل لمعاهدة الحماية. ومع ذلك بقيت الخطب الرسمية تتحدث طبعا عن التحرر الكامل والاستقلال الصحيح والجهاد ضد النفس، بينما الأسس الاستعمارية التي كنا سجناء داخلها كانت تمنع مطابقة الأقوال للسياسة المتبعة باسمنا. وبذلك حكمنا على أنفسنا بالدخول في منطق ورثة الاستعمار، وبممارسة السلطة في إطار الأسس التي وضعها الاستعمار.
وان وراثة الحكم الاستعماري ارتبطت عندنا، كما ارتبطت في مجموع القارة الإفريقية، بخطة الليبرالية الاستعمارية التي أخطأنا بعدم تحليلها تحليلا كافيا.
فإذا أمعنا النظر في أشكال السيطرة الاستعمارية، وجدنا أنها ترجع إلى شكلين رئيسين، أحدهما يعتمد على العنف ويتجلى في الأسس التقليدية للحكم الاستعماري، وأمّا الآخر فإنما يعتمد على تطبيق القوانين الاقتصادية.
ويرتبط هذا التقسيم بتقسيم اجتماعي مماثل بالنسبة للفئات المسيطرة، وهي المستعمرون العقاريون بالنسبة للشكل الأول والمستعمرون من رجال الأعمال الصناعية بالنسبة للشكل الثاني. وقد أدرك هذا الصنف الأخير من المستعمرين أنهم ليسوا في حاجة إلى استعمال العنف، وأن النظام الرأسمالي قد تغلغل في المجتمع المستعمر إلى مرحلة يستحيل معها الرجوع إلى مجتمع ما قبل الاستعمار، بل انهم أخذوا يعتبرون أن أساليب العنف واستمرار التحالف الاستعماري العقاري يعطلان التطور الرأسمالي الذي يمكنهم من تثبيت سيطرتهم.

ولذا رأيناهم أول المسارعين إلى قبول استقلال المغرب. وفي تقديرهم ان القوانين التي تصدرها سلطة وطنية، والضمانات التي سوف تمنحها لهم سيكون لها أكبر حظوظ النجاح. ومن هنا نفهم الدور الذي لعبه رأس المال الصناعي في المغرب الذي كان يمول جريدة «ماروكبرس» بالدار البيضاء، خلال الأزمة المغربية فيما بين سنة 1952 وسنة 1955، والذي كان يقوم ممثلوه في باريس بضغط معاكس لمحاولات تأثير العسكريين والمعمرين على الحكومة الفرنسية.

الإصلاحات الرأسمالية الجديدة


وإلى جانب الدور الذي لعبه الرأسمال الليبرالي لتسوية الأزمة المغربية، فإن هناك دورا علينا أن نستجلي حقيقته فيما يخص الإصلاحات المنجزة بعد الاستقلال. فإن هؤلاء الليبراليين كانوا يقيمون في كبريات المدن، وكانت مؤسساتهم متفرعة عن شركات مراكزها الرئيسية بفرنسا، وكان ترويج بضائع صناعتهم مرتبطا بتوسيع السوق الداخلية بالمغرب. ولو انهم مثلا كانوا الى حد ما ضد رفع اجور العمال بالمدن، فانهم كانوا ينظرون بعين الرضى لكل إصلاح في الميدان الفلاحي، يخدم مصالحهم بتوسيع آفاق السوق الداخلية، بشرط ألاّ تتعرض تلك الإصلاحات لمبدأ الملكية الخاصة وكذلك يرجع للتدابير الجمركية أو غيرها من التشريعات التي تقيد المنافسة الخارجية، خصوصا إذا كانت تمكنهم من استرجاع ما يفقدونه بسبب ارتفاع أجور العمال عن طريق رفع مناسب للأسعار دون خشية الانخفاض في الطلب. ولابد أن نضيف أن المساعدين الفنيين الأجانب، إنما كانوا في أغلب الأحيان امتدادا لهذه الليبرالية داخل الإدارة المغربية.

تلك بعض الملاحظات الجزئية التي ما تزال في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتعميق. ونحن نستخلص منها أننا إذا أردنا أن نعرف موضوعيا قيمة بعض التدابير الإصلاحية، في الميدان الجمركي مثلا، أو في الميدان الفلاحي، أو في نظام الضرائب وتركيز المشاريع الصناعية، علينا ألاّ نلتفت لرد الفعل لدى المعمرين أو صغار التجار الأجانب، بل إلى موقف رجال الصناعة الليبراليين الذين يمثلون القطاع الرأسمالي الأكثر نموا، والذي يستطيع أن يمد في أجل سيطرته ولو في إطار إصلاحات عهد الاستقلال. نعم، إن هذا القطاع يفضل لو لم تكن هناك إصلاحات، ولكنه لا يقف ضدها إذا اقتضى الحال.
إلاّ أن رأس المال الليبرالي هذا لا يستطيع أن يستمر في موقفه المسالم إذا ما اتجهت السياسة الاقتصادية إلى اتخاذ تدابير تحريرية جذرية، كالتي أخذ يعد مشاريعها إخواننا وهم مشاركون في الحكم سنة 1959. فإنهم بمجرد ما أنشأوا المؤسسات المؤدية لهذا التحرر، واستصدروا قوانين الرقابة على رؤوس الأموال إلى الخارج، ووضعوا اللمسة الأخيرة في خطة الخمس سنوات التي تتضمن بعض الاختيارات الصريحة ضد الاستعمار، فقد اعتبرتهم تلك الأوساط الليبرالية وكأنهم نصبوا أجهزة الحرب ضد مصالح الرأسمالية والاستعمار الجديد.
وهذا ما يفسر الصدام المرير الذي واجهناه عند وضع أي واحد من هذه المشاريع، كما يفسر الانقلاب الذي أقيل بمقتضاه إخواننا من الوزارة، فإن، أولئك الذين غدت مصالحهم أو امتيازاتهم مهددة بالسياسة الجديدة التي ظهرت بوادرها سنة 1959، أدركوا قبل غيرهم خطورة هذه السياسة، وهبوا لمساندة ولي العهد آنذاك، إن لم نقل ليوحوا له بموقف المعارضة المتعصبة ضد بقائنا في الحكومة، بينما كان والده محمد الخامس يرى مشاركتنا ما تزال ضرورية.
وفي نفس الوقت انكشف النقاب عن وجه الحكم الذي يدعي أنه حكم وطني، بينما كان يبذل قصارى جهده لتأجيل ساعة التحرر الحقيقي.

من أجل تحرر حقيقي


ولكي نحقق تحررنا الاقتصادي، فإن مهمتنا في المعركة ضد الاستعمار هي أن نرفض قبل كل شيء أولا الجلوس في مقعد ورثة السلطة الاستعمارية، ثم ثانيا عدم تحديد سياستنا بالمقاييس والتقديرات التي كانت تفرضها ظروف الحماية الأجنبية. يجب علينا أن نعلم أن منطق الزلزال الثوري قد يحمل معه احتمالات بعض التوقف المؤقت، بل التراجع في مستوى الإنتاج، كما يقضي بتغيير أساس نظام الأسعار والأجور، ولن يكون هناك مجال للمناورة بين الاستعمار العقاري والليبرالية الصناعية، وبين الحكومة الفرنسية التي تود لو تستطيع ضمان مصالح الفئتين الاستعماريتين عن طريق مساعدتها الشحيحة للحكومة المغربية.
يجب أن يصبح واضحا عند الجميع، أننا لا نستطيع أن نتحرر تحررا كاملا عن طريق إصلاحات جزئية وفي نطاق النظام الرأسمالي، وأننا لن نكون في مستوى مهامنا التاريخية إلاّ بانتهاج سياسة مقاومة للاستعمار تكون شاملة لمجالات العمل في الداخل والخارج.
ولا ينبغي أن نضع كل هذه المهام في مستوى واحد، بل التي يجب أن تحتل المقام الأول بدون منازع هي مهمة تحقيق الإصلاح الزراعي في الداخل، وفي الميدان الخارجي مهمة بناء مغرب عربي كوسيلة لمقاومة نفوذ الاستعمار الجديد. وهاتان المهمتان لابد من وجودهما ضمن أي حد أدنى من برامجنا المرحلية.

3- الأفق الثوري


وأعني بالأفق الثوري النتيجة التي نستخلصها في المدى البعيد من إنجاز مهامنا في الميدان الديموقراطي لمحاربة الإقطاع. وفي مهام نضالنا ضد الاستعمار. وفي إمكاننا التعبير عن هذا الأفق الثوري بالاتجاه الاشتراكي، لولا خوفنا من الوقوع في المغالطات التي سنتحدث عنها فيما بعد،
ومعنى ذلك في الوجهة الفنية أن كل محاولة لتحقيق التنمية في البلاد، في إطار اقتصاد ليبرالي – كالتي يقوم بها النظام حاليا دون الإفصاح عنها – مآلها الفشل لا محالة. وقد أثبتت التجارب العديدة أن البرجوازية الوطنية لا تعرف سبيلا غير السعي في الاستفادة من تنمية غير متوازنة تحت قيادة الاستعمار.
ان التنمية الصحيحة لا تتم إلا عن طريق تعبئة كاملة لسائر الموارد الوطنية وبتوظيف العمل. وليست هذه قضية فنية بحثة بل إنها قبل كل شيء قضية سياسية. لا لأن التوزيع يجب أن يكون عادلا فحسب، لكن لأن هذه التنمية يجب أن تكون مسبوقة بتحضير إيديولوجي، يتضح معه الهدف كضرورة ملحة وكتلبية لمصلحة الشعب. وإلاّ كان استعمار كلمة اشتراكية من قبيل الاستغلال الديماغوجي المنتشر اليوم في كثير من أنحاء العالم.
ولا بأس أن أزيد توضيحا حول معنى وضرورة تحديد الأفق الثوري.

فلقد كنا حتى الآن، كلما ظهرت الحاجة إلى وضع برنامج، نبدأ التفكير في عدد من الأبواب كالإصلاح الزراعي والتأميم والتخطيط، دون التعرض للظروف التي ستتم فيها هذه التدابير، ولا لتحديد أوقات تنفيذها، بل أحيانا دون ذكر الهدف الذي توضع من أجله. لأن تلك الأبواب إنما ترمز إلى نقط جزئية لابد أن تفضي إلى غاية واضحة. ولذلك فإن أية هيئة كيفما كانت قيمتها تستطيع أن تدخلها في برامجها، مادامت عبارة عن سلسلة شعارات يلوح بها في فراغ.
إن أي برنامج يعيد الأهداف لا يستحق هذا الاسم، إلاّ إذا كان متوفرا على ثلاثة شروط أولية:
أولا – يثبت أنه يستجيب لحاجة ملحة في تنمية وطنية شاملة
ثانيا – يتضمن تحديد الأهداف المرجوة
ثالثا – يحدد الوسائل الكفيلة لبلوغ هذه الأهداف
أ- إن برنامجا لتنمية وطنية شاملة، ليس معناه أنه يخدم جميع مصالح فئات المجتمع، أو بالأحرى مصلحة إحدى هذه الفئات دون سواها. فقد أبانت التجربة أن مصالح فئتين ثوريتين في مجتمع واحد قد تكون متعارضة في بعض الأحيان، كمصلحة الطبقة العاملة مثلا في إطارها الضيق، ومصلحة الفلاحين (مثال ذلك استغلال النظام لهذا التناقض كتعويض الضرائب العقارية بالضرائب غير المباشرة). ومثل ذلك يقع عند تعارض مصالح فئات البرجوازية الصغيرة، رغم ثوريتها التي قد يفضل بعضها طريق التنمية الرأسمالية وقد يقف بعضها ضد تدابير إصلاح تقدمية (مثال ذلك إضراب بعض الحرفيين لحماية إنتاجهم من المزاحمة الصناعية، أو معارضة صغار التجار لإنشاء تعاونيات استهلاكية).

وان السبيل الوحيد للتوفيق بين هذه المصالح المختلفة، هو تمكين فئات المجتمع المختلفة، من أن تكون لها رؤية واضحة وشاملة لمتطلبات تنمية اقتصادية وطنية.
وقد نعبر عن ذلك أحيانا بصفة مبسطة، عندما نقول أن مهمتنا العاجلة هي محاربة التخلف ككل.
وإن دور الحزب الثوري كحزبنا، هو إقناع فئات المجتمع الثورية بضرورة تكوين الأداة الكفيلة بوضع وتطبيق الأساليب التي تحقق الخروج من التخلف.
ب – أمّا تحديد الهدف فليس هو مجرد رفع يافطة بدون مدلول، فإن كل أسلوب البناء يرمي إلى البحث عن أحسن السبل لإقامة مجتمع متوازن متحرر من الاستغلال، ومتوفر على إنتاجية ممتازة، فإن هذا الأسلوب يمكن التعبير عنه بأنه سياسة اشتراكية بمعناها العلمي. إلاّ أن المشكلة هنا ليست هي الطموح إلى الاشتراكية بصفة تجريدية، بل إنها الشروع في إقامة الأسس الفعلية للاشتراكية بمفاهيمها الاقتصادية والاجتماعية. وأن دور حزب ثوري في الساعة الراهنة ليس هو رفع يافطة الاشتراكية، وإنما هو أن يثبت الخصائص التي تتميز بها أهدافها التقدمية الأصيلة عن الاشتراكية المزيفة التي يملأ طنينها أرجاء القارة الإفريقية.
فمن الضروري إذن أن نقاوم بشدة الانحرافات والتضليلات التي تتستر تحت اسم الاشتراكية، وهي في الواقع ليست سوى أنظمة شبه فاشستية أو إقطاعية أو عميلة للاستعمار.

إن الاشتراكية العلمية عندنا يقتضي:

حلا صحيحا لمشكلة الحكم، بإقامة مؤسسات سياسية، تمكن الجماهير الشعبية من رقابة ديموقراطية على أجهزة الدولة، وعلى توزيع ثرواتها وإنتاجها الوطني

أسسا اقتصادية لا تترك أي مظهر من مظاهر سيطرة الاستعمار ولا لسيطرة حليفيه الإقطاع والبرجوازية الكبرى الطفيلية.

تنظيما سياسيا واجتماعيا للسهر على تأطير الجماهير الشعبية وتربيتها، من أجل التعبئة الشاملة لسائر الموارد الوطنية الضرورية لتراكم وسائل الاستثمار.
وكما قلنا في موضوع الوحدة الأفريقية، فإننا لن ننتقل في رمشة عين من الوضع الرأسمالي الإقطاعي إلى النظام الاشتراكي، بل لابد لنا من أن نمر من مرحلة طويلة نقيم خلالها أسس بناء المجتمع الاشتراكي المنشود.
ج – وفيما يخص الوسائل، فحيث أننا سنمر من تسلسل طويل، يجب أن يفهم الجميع أن الاختيارات الاقتصادية التي تكون فقط برنامج الحزب الثوري ليست هي الاشتراكية، وإنما المقدمات الممهدة لها. فالتخطيط مثلا إنما هو وسيلة علمية لتحديد مواطن تركيز الاستثمارات المالية، وكذلك التأميم لمرافق الفلاحة أو الصناعة أو التجارة أو الأبناك، عندما يتأتى تحقيقه، فإنما هو وسيلة لتنمية إمكانية الاستثمارات الوطنية.
وفي هذا المجال تظهر الأهمية القصوى لسياسة فلاحية ثورية، ليس فقط لأنها تحطم الأسس الإقطاعية والرأسمالية الاستعمارية، بل ولأنها تعتبر كذلك وسيلة لفتح سوق داخلية، واستخلاص موارد للاستثمارات الوطنية.

وفي هذا المجال تظهر الأهمية القصوى لسياسة فلاحية ثورية، ليس فقط لانها تحطم أسس الإقطاعية والرأسمالية الاستعمارية ، بل ولأنها تعتبر كذلك وسيلة لفتح سوق داخلية، واستخلاص موارد للاسثمارات الوطنية. وعلينا أن نتدبر سياسة الاستعمار الجديد في هذا الميدان الفلاحي بالذات، هذه السياسة التي لها مقاييس تضليلية. فهي وإن كانت تعترف من الوجهة الفنية والاقتصادية بضرورة الإصلاح الزراعي كأساس للتنمية السريعة، إلاّ أنها تخشى في نفس الوقت أن تسلك الوسائل الضرورية. وان الاستعمار يمانع في الاستمرار في أي إصلاح زراعي سليم، إذا ما بدا له أنه يسير في اتجاه ثوري، مدركا أن في ذلك مساسا لمراكزه السياسية بقدر تزعزع قواعد حلفائه الطبيعيين وركائزه في البلاد.
فاختيارنا الثوري إذن في ميدان الوسائل معناه أن كل سياسة لا تمر من استئصال جذور الهيكل الإقطاعي والرأسمالي الاستعماري، إنما تخدم مصالح الاستعمار الجديد رغم ادعائها بالعمل على التصنيع وحتى الاشتراكية.
وهكذا فإننا بوضعنا مهام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مستوى أفق ثوري فإننا لا نحقق بذلك مكسبا سياسيا فحسب، حيث نستطيع به أن نحدد «من نحن» في كل خطوة من خطواتنا، بل لأن ذلك يعطي حركتنا أبعادها الإيديولوجية. وهو يضفي قيمة شمولية على كل تدبير نقوم به، ولو كان مرحليا، بحيث لا يصبح هدفا في حد ذاته وشعارا غامضا ديماغوجيا.
وبفضل هذا الأفق الثوري أيضا نحقق التماسك التام بين إطارات الحزب ومناضليه إذ يسلحهم بأداة علمية لتحليل المواقف السياسية، وتقييم التدابير الاقتصادية المرجوة. وهو يمكنهم من استيعاب مضمون مراحل النضال، مرحلة بعد مرحلة، مع وضع كل واحدة في التسلسل الثوري بأكمله، كما يجعلهم قادرين على وزن كل قرار سياسي في ميدان الاقتصاد أو الشؤون المالية والنقدية أو الخارجية، لا باعتباره يهم فئة خاصة من فئات المجتمع، بل بحكم أثره الإيجابي أو السلبي على تنمية مجموع الأمة.

4- الأفق الثوري والمهام العاجلة

رأينا أن الأفق الثوري يعطي لمهامنا إطارا شاملا في المكان وفي الزمان، نسجل ضمنه قراراتنا السياسية وفق كل ظرف معين، جاعلين من تلك القرارات أهدافا جزئية بمثابة سوى نعلم بها طريق مسيرتنا الكبرى نحو الغايات الأساسية.
لهذا السبب فإن برنامجنا لا يمكن استعراضه بصفة تجريدية، وإنما تبلوره البرامج المرحلية وتعطيه مدلولا، كما أن كل بند من برنامجنا المرحلي يتخذ مدلوله في الإطار الشامل، ولا يكون غاية في حد ذاته.
لكنه من الضروري تبيين العلاقة بين برنامج مرحلي وأهدافه المستعجلة وبين الأفق الثوري وغاياته الأساسية.
لقد أثبتت التجربة أنه لابد من مرور فترة طويلة أو قصيرة بين نهاية معركة التحرر السياسي، وبين النقطة التي يمكن أن تنطلق منها حركة ثورية حقيقية. وغالبا ما تطول هذه الفترة، اللهم إلاّ إذا استطاعت الحركة التحررية أن تحطم هيكل الدولة الاستعمارية، مثل ما وقع في الفيتنام الشمالية.
وتوافق هذه الفترة المرحلة الزمنية التي تحتاج إليها التجربة الشعبية لكي تدرك أن الدولة المستقلة في إطار الاستعمار الجديد، هي الوريث وأداة الاستمرار للحكم الاستعماري في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. ولكي تنتهي هذه التجربة إلى الاستنتاجات السليمة يجب أن تظهر الدولة المستقلة سياسيا، وكأنها تامة الرشد مستكملة المسؤولية، لا تلتجئ إلى الاعتذار عن فشلها بالنفوذ الأجنبي الذي يعمل وراء الستار بذكاء ودهاء وبعبارة أخرى يجب أن تظهر الدولة الفتية كدولة الإقطاع والبرجوازية الطفيلية، وأن يبرز الاندماج بين مصالح الطبقة الحاكمة وبين أغراض الاستعمار.

ومادامت معارك الجماهير مع الحكم الوطني المزيف لم تكشف للعيان التحالف المتين والارتباط الاضطراري بين هذا الحكم والاستعمار، ومادام الحكم يستطيع أن يتظاهر ببعض الاستقلال، ومادامت الطبقات المسيطرة يمكنها أن تحمل قناع الديموقراطية والوطنية، فإن أي انتقاد يوجه للحكم في شكله السطحي، لا يعدو وأن يكون كلاما فارغا وديماغوجية.
وتنطبق هذه الملاحظات على المغرب حيث تبين لنا من تحليل الأوضاع الداخلية والخارجية أن ظروف الاستقلال السياسي لم تكن تسمح بانتهاج خطة ثورية قبل المرور بمرحلة تحرر إصلاحية حتمية.
والنتيجة المنطقية لذلك أن الاختيارات السياسية أمامنا لا يمكنها أن تخرج عن أحد الخطين:

فإمّا أن يتأكد لدينا أن هذا التسلسل حتمي، وأن الوضع الحالي مؤقت، أي أنه لا يمكنه أن يؤدي إلى الغاية المقصودة، وان أكثر ما يحققه هو وضع القواعد التي يمكن أن يقوم عليها فيما بعد البناء الثوري.

وإمّا أن نكتفي بانتقاد الأسلوب الذي تسير عليه السياسة الإصلاحية، دون التعرض للوضع في مجموعه، وتكون إذ ذاك عملية نقد الجزئيات دون التجرؤ على المساس بمنابع الفساد، من قبيل ما يسمى منطقيا «معارضة صاحب الجلالة»
إلاّ أنه إذ كان من المتيسر أن تقوم في بلد متقدم معارضة مبنية على انتقاد وسائل الحكم، فإن التجربة أثبت حتى الآن أن مثل هذه المعارضة لا يمكن أن تؤدي إلى طائل في بلد متخلف أو مار بمرحلة انتقالية.

إنه من البديهي أن من يكتفي بالخطة التكتيكية «المرحلية»، دون أن ينطلق من أفق استراتيجي، يكون مصيره اما أن يسرق منه الخصم سياسته، واما أن يظهر بمظهر الانتهازية.
إلاّ أن شعورنا بالحاجة للتأكيد على ضرورة القيام بالاختيارات الثورية، لا يقل عن اقتناعنا بلزوم وضع برنامج أدنى معجل الأهداف نستطيع به أن نجند سائر الطاقات الوطنية داخل حزبنا وحوله، خصوصا وأن الظروف الحاضرة التي تجتازها بلادنا لتحتم علينا توحيد جميع فئات المجتمع الثورية على اختلاف مصالحها حول مثل هذا البرنامج الذي يكون في خدمة المصالح الوطنية الشاملة.
ان أي حزب ثوري لامناص له في مرحلة المعركة من أجل التحرر الوطني والديموقراطية، من أن يكون له برنامج مرحلي أدنى، تكون أهدافه دون غايات الأفق البعيد المدى، وتشكل في نفس الوقت شروط تأييد الحكومة القائمة وشروط المشاركة فيها عند الاقتضاء.
وأن مشكلة وضع برنامج أدنى يكون لها دائما ارتباط بسرعة مصير الثورة في كل بلد، مادام من الصعب التنبؤ بدقة مراحل المد والجزر في الزحف الثوري.
اذا رجعنا لظروفنا الخاصة في الوقت الراهن فما هو هذا البرنامج الأدنى مع اعتبار الأفق الذي حددناه.
انه بطبيعة الحال يشكل موقفا وسطا بين الغايات التي نسعى إليها، وبين الواقع الذي يواجهنا مع ضمان التقدم نحو هذه الغايات. فيجب إذن أن يتوفر على شروط لا يقبل بدونها أي حل وسط وعلى عناصر التحريك التي تمنع الجمود.
وبالنسبة إلينا فإن الشرط الضروري لنجاح أي برنامج أدنى هو حل المشكل الديموقراطي.
أمّا عناصر التحريك فهي تتلخص حاليا في النقط الثلاث الآتية.

التضامن ضد الاستعمار على الصعيد الدولي

التضامن الفعلي مع الجزائر

الإصلاح الزراعي كشعار فوق كل الشعارات نضمن به تحقيق الديموقراطية الواقعية بالبلاد.
إن مثل هذا البرنامج صالح لكي يكون إطار عمل مشترك مع الهيئات السياسية الأخرى، بل ومع الحكم نفسه. وهو في نفس الوقت سيقوم بدور الأداة الرافعة التي ستغير أسس هذا الحكم، لأنه لا يعقل أن يسير معنا النظام في خط هذا البرنامج دون أن ينقلب رأسا على عقب.
نعم، لاشيء يضمن قبول هذا البرنامج الأدنى من باقي الأطراف، كما أنه من المحتمل أن يكتفوا بالاستحواذ على هذا البرنامج دون قبول مقاسمتنا مسؤوليات الحكم. إنما المهم هو إلزام كل طرف بتوضيح موقفه سلفا وجعله، عندما يضطر للتفاوض معنا، على بينة مما ينبغي اقتراحه، وما نحن مستعدون لقبوله دون أدنى التباس.
وهل يعتبر هذا مظهر ضعف منا؟
كلا، إذا نحن قمنا في نفس الوقت بتوضيح اختياراتنا الثورية. فبدون هذا التوضيح سيظهر برنامجنا الأدنى فعلا كأنه منعرج انتهازي لا غير. ولذلك نكرر القول بأن الاختيارين الأدنى والأقصى في خطتنا السياسية متداخلان إحداهما في الآخر ومرتبطان بعضهما ببعض. فالمهم مرة أخرى هو أن نحدد هويتنا قبل كل شيء، وألا تغيب عنا رمشة عين أهدافنا البعيدة التي اخترناها لأنفسنا بصورة نهائية.
قد تفرض علينا الظروف الراهنة في افريقيا وفي الجزائر وحتى في المغرب أن نختار حلا وسطا بالنسبة لحركتنا أو بالنسبة لمجموع الحركة الثورية. ولا ضير في ذلك إذا تمسكنا بالخطين معا – خط الأهداف البعيدة وخط الغايات المعجلة في أن واحد. وان من يتمسك بالحبلين حبل الاستراتيجية وحبل التكتيك يفتح لنفسه طريق العمل في الحاضر والمستقبل.

10734253_10204640856883363_2646612955293260724_n

الأداة


حاولت فيما تقدم أن أسطر الخطوط العريضة للمهام الأساسية التي يجب أن نستعد للقيام بها لكي نستجيب استجابة أفضل لمطامح الشعب المغربي. وبقي علينا أن نحدد الأداة التي سنتمكن بها من القيام بمهامنا. وتلك أهم مسألة توضيحية.


1- الحزب ومشكلة الكوادر (الإطارات)


هذه الأداة يجب أن نسهر عليها بكل عناية لترجمة قراراتنا للواقع، وهي الحزب، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
لقد قلنا عند تأسيس منظمتنا إنها ليست حزبا كالأحزاب. وقد أثارت بحق كثيرا من المخاوف في نفوس الذين ترعبهم أمال الشعب التي نحمل مسؤولية إنجازها. ولم تمر ثلاثة أشهر على تأسيس حزبنا، وبينما كان إخواننا يشغلون نصف المناصب الوزارية، انطلقت ضدنا أجهزة القمع الاستعمارية لشل قيادة الاتحاد الوطني وإبعاد عدد من مسيريه المركزيين والإقليميين من المسرح السياسي، وذلك أما بالالتجاء إلى المحاكمات بدعوى اتهامنا بمؤامرات خيالية ضد القصر، واما باستعمال نفس الأساليب الإرهابية التي عرفت في عهد «طروخيليوا» بأمريكا اللاتينية.
وبالرغم من ذلك فإن ذلك فإن منظمتنا ما تزال حية في عنفوان قوتها، مستعدة لتعبئة الجماهير الشعبية ولقيادتها في سبيل التحرر والتقدم.
والسر في صمودنا؟ إنه يكمن في أننا ورثنا تقاليد شعبنا الثورية على مر العصور وأننا واعون بالرسالة التي حملها إيانا أولئك الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم عبر تاريخنا المجيد في سبيل إسعاد شعبنا. إنه يكمن في اننا جزء لا يتجزأ من الحركة الثورية الجبارة ضد الاستعمار، ومن ورائها سائر القوى الديموقراطية في العالم.
وفي الوقت الذي سوف نخرج فيه من مؤتمرنا المقبل برؤية ثورية واضحة، يجب علينا كذلك أن نجعل من حزبنا هذه الأداة الثورية التي سنحقق – بها أهدافنا. وأمامنا نوعان من المشاكل المتعلقة بتطوير الحزب إلى أن يصبح فعلا أداة – بعضها يتعلق بالتنظيم والبعض الآخر بالأيديولوجية.
فيما يخص التنظيم ستعرض على المؤتمر مشاريع لتحوير قوانين الحزب ونظامه الداخلي. فعلينا أن ندرسها واضعين في الاعتبار اختيارنا الثوري، وحرصنا الخاص على تحديد دور المناضلين بالنسبة لجمهور العاطفين على الحزب، ومع ضمان المركزية والديموقراطية في الحزب بالنسبة للظروف الراهنة.
وتستجيب التغيرات المقترحة لهذه الاعتبارات إذ إنها تتناول مشاركة القاعدة ومراجعة الأجهزة المركزية. ولتشريك القاعدة في المسؤوليات تقترح التعديلات أن يساهم المناضلون مساهمة فعلية في وضع خطة الاتحاد وفي مراقبة الجهاز المركزي والإقليمي للحزب. ولكي تكون هذه المساهمة حقيقية وذات فاعلية يجب أن نسهر بكيفية منتظمة على تأسيس وتسيير خلايا القاعدة في الأحياء والقرى وكذلك في المؤسسات الصناعية والفلاحية.

وهذا الاعتبار هو الذي أوصى باقتراح يقضي بأن تتم المصادقة من طرف المؤتمر على السكرتارية العامة الجماعية المنتخبة من اللجنة الإدارية الوطنية التي ينتخبها المؤتمر نفسه. وهناك كذلك اقتراح بتأسيس جهاز مركزي جديد، هو اللجنة المركزية المؤلفة من أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية ومن مندوبي الأقاليم الذين تنتخبهم مجالسهم الإدارية، وسيضمن هذا الجهاز التماسك ووحدة النظر بين سائر المسؤولين في الحزب على الصعيد المركزي وفي مستوى الأقاليم.
ولن يجدينا نفعا أن نكتفي بمراجعة القوانين إذا نحن لم نباشر تطبيقها بأساليب ثورية جديدة.
إن حزبنا الذي نريده واضحا في آفاقه، ومتماسكا في تنظيمه، ينبغي له أن يستخلص النتيجة المنطقية لاتجاهه الثوري. ولذلك وجب علينا أن نوجه عناية خاصة للتربية الإيديولوجية في الحزب، التي بدونها سوف تبقى اختياراتنا في حيز الآمال ومن قبيل التمنيات العاطفية.
إن هذا التكوين الإيديولوجي يجب أن يقوم على أساس دراسة القوانين العلمية لتطور المجتمع وقد أثرتها تجارب الثورات الاشتراكية والتحررية ضد الاستعمار. كما يجب أن تمتد جذوره إلى أعماق ثقافتنا العربية الإسلامية، وأن تستمد قوتها من تراثنا القومي الزاخر بالقيم التقدمية والإنسانية.
ولن يكون حزبنا في مستوى مهامه إلاّ إذا وجه عنايته القصوى لتكوين الكوادر (الإطارات) ولا جدوى من التشكي من فقدان الإطارات لأن ذلك كون منشأه ضعف التكوين الإيديولوجي نفسه. ومهما يكن فإنه لا معنى لاعلان الاختيار الثوري بدون إطارات مسلحة بأيديولوجية ثورية.

على أنه لا ينبغي أن يغرب عن بالنا أن أفضل مدرسة للإطارات وأحسن طريق لتدريب المناضلين على الكفاح والتضحية في سبيل الشعب، هو في العمل اليومي الذي يباشره المناضلون حتى في أداء المهام البسيطة. إن على كل مناضل منا بوصفه مواطنا أن يؤدي العمل المنوط به بمنتهى الكفاءة والضمير المهني. فإن كان عاملا ميكانيكيا أو طبيبا أو ممرضا وجب عليه أن يتقن عمله خير إتقان. وان كان مرشدا أو مهندسا فلاحيا وجب أن يهيئ نفسه ليكون ركيزة الإصلاح الزراعي، وان كان أستاذا أو معلما وجب عليه أن يكون متضلعا في الأساليب البيداغوجية الطليعية. علينا أن نكون خميرة المجتمع التقدمي المزدهر الجديد الذي ننشده في غدنا القريب.
ان المناضلين يكتسبون قوتهم الإيديولوجية وصلابتهم الخلقية عن طريق نضالهم وسط الشعب، سواء داخل الحزب نفسه أو عن طريق المنظمات الجماهيرية، أو في المعمل والمنجم والجامعة أو الحقل. ولذا يتعين تحديد دور الحزب في الأمة حتى يكون الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بحق طليعة الكفاح الوطني التي تقود معها جبهة عريضة لفئات مجتمعنا الثورية.

2- الحزب والأمة


ان المحتوى الاجتماعي للحزب يستمد تركيبه من اختياراتنا الإيديولوجية ومن أفقنا الثوري، كما يبنى على ما استخلصناه من نتائج في تحليلنا للمواقف الأساسية لمختلف فئات المجتمع تجاه قضايا التحرر الكامل السياسي والاقتصادي ومشاكل بناء المجتمع الاشتراكي. فلا غرو أن نكون عن جدارة حزب الجماهير الكادحة الحضرية والقروية الذي يتجسد فيه التحالف بين العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين. فنحن حزب الشعب المغربي باستثناء الطبقات المستغلة من إقطاعيين وبورجوازيين طفيليين حلفاء الاستعمار الجديد وركائزه.

وفي هذا التعريف تنتصب المشاكل التي يجب أن نواجهها لكي يكون الحزب قادرا على تحريك الجماهير، من داخله وعن طريق المنظمات الجماهيرية الخاصة بكل فئة من المجتمع، سواء أكانت منظمات مهنية أو حركات شباب ونساء.
أما توجيه هذا التحريك فإنه لابد أن يتم داخل خلايا الحزب في الأحياء والقرى والمؤسسات، وهي المدارس الدائمة للمناضلين في الحزب.
علينا أن نعير اهتماما خاصا لنشاطنا في وسط الفلاحين، وأن نقيم منظمات جماهيرية فلاحية طالما اتخذنا قرارات بشأنها. ونحن في حاجة إلى قيامها لتعزيز عمل فروعنا القروية المنتشرة على مجموع خريطة البلاد.
وعملنا كذلك في الميدان النسوي يجب أن يتقوى بتأسيس منظمة جماهيرية تساعدنا على اكتشاف الكوادر النسوية، وعلى تعميق الوعي الثوري لدى الفتيات والنساء اللواتي يشكلن إحدى الدعامتين لبناء المجتمع الجديد.
وإن على خلايا الطلاب والشباب أن تدخل في مهامها مزيدا من العمل على توحيد الشباب ضمن منظمتهم الخاصة، لكي تصبح قادرة على القيام بدور التحريك والتأطير.
أمّا نشاطات الحزب كمنظمة سياسية وسط العمال وفي المؤسسات فإنها بالغة الأهمية، لأنها هي الضمان لامتزاج النضال السياسي بالنضال النقابي. وفي هذا السبيل يجب علينا ألاّ نغفل أي عامل من العوامل التي يمكنها أن تؤثر على تحقيق هذا الامتزاج، سواء العوامل المتعلقة بضعف التكوين الإيديولوجي، وسوء تقدير الظروف الراهنة، أو العوامل الداخلية المتعلقة بالبطالة ووسائل الضغط والإفساد التي يملكها النظام، وحتى المتصلة بالتركيب النقابي نفسه.

علينا أن نحلل سائر هذه العوامل حتى نسلط كل الأضواء على المشاكل التي تحدث في العلاقات الدقيقة بين النقابات المهنية والحركات الثورية. يجب أن يكون واضحا في الأذهان أهمية النضال النقابي، وكذلك ضيق أفقه، إذا هو لم ينفتح على المطالب السياسية والأهداف الثورية.
يجب أن نظل يقظين أمام سياسة النظام القائم في الميدان النقابي على أنها تدخل في نطاق أوسع، هو خطة الاستعمار الجديد على مستوى القارة الأفريقية، وغرضها تشجيع التيارات الإصلاحية اللاسياسية في الأوساط النقابية العمالية وفصل النضال السياسي والوطني عن المعركة الاقتصادية المحدودة الإطار.
وتلك ظاهرة يجب أن نعيها وندركها بكل اهتمام بالنسبة لنا وبالنسبة لمجموع القارة الأفريقية. يجب أن نضع في إطارها السليم مشاكل الارتباط المتين بين المهام النقابية الخاصة وبين مسؤوليات حركة التحرر الوطني التي تجند سائر فئات المجتمع،وإلاّ، إذا نحن أهملنا وضع هذه المشاكل وضعا سليما وعجزنا عن مواجهتها بكل شجاعة وبدون تعصب، فإن القوى الثورية المفضلة التي هي الطبقة العاملة، سوف تصبح معرضة للانصراف ولو إلى حين عن مهمتها الطبيعية.
ينتج عن هذه الملاحظة أن خطتنا فيما يرجع لعلاقات الحزب بالمنظمات الجماهيرية خطة منظمة واضحة بحكم دور الحزب كمحرك، ودور كل منظمة حسب نوعيتها وضمن حدود استقلالها الذاتي.
فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بوصفه الأداة الثورية، هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بالدور القيادي في نضال سائر فئات المجتمع الثورية. وتلك إنما هي نتيجة منطقية لتحديد معنى الاختيار الثوري الذي قلنا عنه انه يجب أن يكون ملبيا لحاجات الأمة بأسرها. ومعنى هذا أن الحزب وحده يحق له أن يحمل بوصلة النضال السياسي، وان يدرس ويحدد خطة العمل لمجموع الحركة الثورية في البلاد. وأن دور كوادرنا ومناضلينا داخل المنظمات الجماهيرية، والتي لها أهدافها ومهامها الخاصة بها، يجب أن يكون هو صهر معاركهم الخاصة في الأفق الشامل الذي سطره الحزب كأداة سياسية مفضلة.
وبذلك نضمن الوحدة الإيديولوجية للقوى الشعبية، كما نضمن حركيتها وتماسكها وسيرها المنسجم بخطى ثابتة نحو غايتنا الأساسية.

الخلاصة


إننا نلمس في نهاية هذا التقرير أن المهمة الرئيسية التي تتوقف عليها سائر المهام هي تقوية الحزب في ميدان التنظيم، وفي التعميق الإيديولوجي لكوادره ومناضليه، لكي تتلاءم الأداة مع الأهداف الثورية.
وسوف نتغلب على كل الصعاب ونجتاز أشد العقبات، وعند تأديتنا لهذه المهام، إذا استحضرنا المهمة التاريخية المنوطة بحزبنا، هذا الحزب الذي تمتد جذوره البعيدة إلى صفحات تاريخ نضال شعبنا المجيد على مر العصور ضد الاستبداد وفي سبيل التقدم. ولا أدل على ذلك من أن يكون في طليعة سير حزبنا بعض من أبلوا البلاء الحسن ضد الاستعمار، منذ عهد الاحتلال الاستعماري في أوائل القرن، وكذلك قادة المقاومة وجيش التحرير الذين خاضوا المعارك الأخيرة. ولسنا نذكر مراجعنا المجيدة لمجرد الفخر بها. بل لنؤكد الأمانة التي يضعها هذا الانتماء البطولي في عنق حزبنا سواء أمام الشعب المغربي أو بالنسبة لمجموع الحركة الثورية في العالم. وفي ذلك أيضا عربون لنجاحنا.
ان قيام حركة التحرر الوطني في المغرب، وتطورها مع الزمن على اختلاف أسمائها عبر المراحل التاريخية قد سجلا نجاحات ساطعة تخللها الكثير من الصعاب.

ان وجودنا في حد ذاته ونشاطنا المتزايد ما فتئا يشكلان خطرا قاتلا على أعداء شعبنا سواء جاءوا من الخارج أو كانوا يعيشون كالطفيليات بين ظهرانيه. وإذا نحن قد اكتسبنا شعبنا ولظروف نضاله، فقد ارتكبنا بعض الأخطاء وسجلنا بعض الفشل مما زاد في إثراء تجربتنا.
ومنذ أن حملنا الاسم المطابق لحقيقتنا، وهو اسم «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» استطعنا أن نعبئ القوة الحية في البلاد، ونقود أغلب فئات مجتمعنا التقدمية في نضال مشترك من أجل حماية مكاسب شعبنا، وتحقيق مطالبه العميقة في التحرر والتقدم والرفاهية والسلام.
وإذا كان المؤتمر الثاني لحزبنا سوف يمكننا من إعطاء مضمون دقيق لاختياراتنا السياسية لاجتياز مراحل نضالنا في إطار أفقنا الثوري، فإن عليه كذلك أن يخلق الظروف الملائمة لتعاون وثيق مع المنظمات الجماهيرية التي تشاركنا في أهدافنا.
وفي نفس الوقت الذي سنسهر فيه على تحسين أساليب عملنا داخل الحزب وتقوية هذه الأداة التي صهرتها حتى الآن كثير من المحن والتضحيات، فإن علينا ألاّ ننسى أبدا أننا في النهاية لسنا في خدمة الحزب بل في خدمة مجموع الجماهير العربية، ولسنا سوى طليعتها. كما علينا ألاّ ننسى أننا نقف كذلك في طليعة الحركة الدولية للتحرر الوطني والتقدم.
ولذا فإن علينا أن نعتبر كواجب مقدس المحافظة على وحدة صفوفنا داخل الحزب، وعلى ارتباطنا المتين بشعبنا، وعلى تضامننا غير المشروط بسائر الشعوب المناضلة من أجل كرامتها وحقوقها.
وسنجد في هذا السلوك سر قوتنا وضمانا أكيدا لانتصارنا.


فاتح ماي 1962

‫شاهد أيضًا‬

حياة الوطني المجاهد والزعيم بنسعيد آيت إيدر كلها وطنية ونضال وترافع  .. * مصطفى المتوكل الساحلي

ولد وترعرع الوطني المجاهد والمقاوم والقائد السياسي سي محمد بن سعيد أيت إيدر  في يوليو 1925…