عن موقع التجديد العربي
23 اكتوبر 2014
العولمة تولّد الإرهاب، لكنها سرعان ما تستوعبه، كنتيحة من نتائجها، فتستدمجه في منظومة أدواتها ووسائلها التي تتوسلها في نظام اشتغالها. ذلك ما تقوم عليه أدلة كثيرة من تجربة العلاقة بين الظاهرتين في الخمسة وعشرين عاماً الماضية من الاقتران بينهما،
وذلك ما بات ممكناً معاينته، بكل وضوح، من الحلف غير المعلن القائم بينهما اليوم في غير مكان من العالم.
ولِد الإرهاب، في موجته الجديدة التكفيرية، من رحم تجربة “الجهاد الأفغاني” بعد الانكفاء العسكري السوفييتي عن أفغانستان، أي في اللحظة عينها التي احتضرت فيها الحرب الباردة، وقام نظام الأحادية القطبية ففتح الطريق أمام العولمة. من النافل القول إن صلة التجاور بين العولمة والإرهاب، التي ستنشأ في النصف الثاني من العقد الماضي، بدأت مقدماتها وإرهاصاتها منذ عقد الثمانينات من القرن المنصرم في صورة تحالف معلن بين الولايات المتحدة الأمريكية – ومعها دول الغرب كافة- وبين الجماعات المسلحة، الأفغانية والعربية، التي كانت تقاتل الوجود العسكري السوفييتي. لقد أتى الصلح بينهما، في ذلك الحين، تعبيراً عن مصلحة مشتركة وجامعة بين قوى ثلاث: أفغانية تقاتل لتحرير بلادها من احتلال أجنبي، وعربية (أصولية) تمارس “جهادها” خارج ديارها ضد “الإلحاد” السوفييتي، وأمريكية تبغي استنزاف غريمها الشيوعي في المستنقع الأفغاني لإضعافه. لكن السبل ستتفرق بين الحلفاء الثلاثة، ليجدوا أنفسهم في مجابهة مفتوحة، قبل الانتهاء إلى تجديد التحالف.
لا بأس، هنا، من العودة إلى وقائع التاريخ، في العشرين عاماً الماضية، للوقوف على جدلية التحالف والمواجهة تلك، لمعرفة كيف انتسجت – مع الزمن- خيوط العلاقة بين العولمة والإرهاب:
انقسم حلفاء أمريكا الأفغان على أنفسهم، بعد الانسحاب العسكري السوفييتي وسقوط النظام الأفغاني الموالي لموسكو، فخاضوا حرباً أهلية طاحنة من أجل السلطة. مال الأمريكيون والمقاتلون العرب إلى عدم تأييد “المجاهدين الأفغان” في حروبهم الداخلية، وإلى دعم حركة “طالبان” حينما بدأت تتوسع دعوتها ونفوذها في أفغانستان. ثم لم يلبث هؤلاء وأولئك أن حالفوها حين سيطرت، في العام 1996، على معظم البلاد. لكن الخلاف انفجر بين أمريكا والأفغان العرب حين ضربها التنظيم الأساسي فيهم “القاعدة” في نيروبي ودار السلام. وبلغ الصراع حد المواجهة الشاملة التي دشنتها تفجيرات نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا في 11 سبتمبر 2001، فكانت الحرب الأمريكية على “القاعدة” و”طالبان” في أفغانستان، والتي في نطاقها تجدد الحلف بين “واشنطن” و”المجاهدين الأفغان”، فيما تصاعدت حملتها الأمنية على “القاعدة” في أنحاء العالم كله.
من النافل القول إن الصدام بين المقاتلين الإسلاميين وأمريكا ثمرة من ثمرات تضخم منازع القوة لدى أمريكا، والذي هو من نتائج العولمة نفسها، بمقدار ما كان اجتراء هؤلاء المقاتلين على أمريكا – حليفهم السابق- ثمرة من ثمرات العولمة التي استفادوا من مكتسباتها العلمية والتقانية والإعلامية لكي ينظموا تلك الهجمات عالية الحبكة والمهارة على رموز العظمة الأمريكية (المال، الجيش) في عقر دارها. لقد آذت العولمة الإسلاميين بنجاحاتها الهائلة في قلب توازن القوى – المختل أصلاً- بين عالم الإسلام والغرب إيذاء لا نظير له، فقد استباحت أوطانهم (العراق، أفغانستان) بالقوة المسلحة العمياء، واخترقت المنظومات القيمية لمجتمعاتهم، وأشعرتهم انتصاراتها بدونية العالم الاجتماعي والثقافي الذي ينتمون إليه. لكنها – في الوقت عينه- فتحت أمامهم إمكانات مذهلة لتطوير منظومات عملهم الحركي والتنظيمي، وسبل التواصل بينهم، وفرص التكوين وتلقي مهارات حركية ليست مما كان متاحاً لهم في السابق، وخاصة عبر الشبكة العنكبوتية. ولم يحصل في تاريخ الحركات الإسلامية المقاتلة أن أمكن هذه الأخيرة أن تتوسع وتتعاظم تنظيمياً، وأن تتزايد قدراتها على الحركة والفعل، مثل ما أمكنها ذلك، اليوم، أي بفضل ما أتاحته لها العولمة من إمكانات وفرص.
هكذا كانت العولمة تتسوعب، شيئاً فشيئاً، قوى الإرهاب التكفيرية وتصالحها مع بعض معطيات الحداثة التقنية، في نفس الوقت الذي تروّضها على قبول الاعتراف بالأمر الواقع الذي تفرضه عليها حقائق القوة. أظهر مظهر لهذا الاستيعاب، اليوم، نجاح الولايات المتحدة في تسخير الحركات الإرهابية التكفيرية لخدمة مخططاتها وسياساتها في العالم. وما نشهده من تحالف بينهما في بعض الساحات العربية – ومنها سوريا- مثال لذلك الاستيعاب. المثال الثاني أن “المجاهدين” في دماء المسلمين لم ينقلوا ساحة معركتهم، يوماً، إلى داخل الكيان الصهيوني! لقد وصلوا إلى نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد، وضربوا هناك بكل قوة، ولكن يبدو أن فلسطين المحتلة بعيدة عن جدول أعمال جهادهم! أليس ذلك بأثر من محالفتهم أمريكا التي تضع لهم الخطوط الحمر الممنوع انتهاكها، مثلما ترشدهم إلى الديار الواجب “الجهاد” فيها؟
العولمة والإرهاب نقيضان في الظاهر، متآخيان في العمق. الأولى تستخدم الثاني، وهذا يتوسل الأولى، ولا مجال لقراءة فعل أي منهما بمعزل عن الآخر.