الاستعمار نوعان ومرحلتان: قديم وجديد.
وعلى خلاف ما يتصور الكثيرون للأسف، فجديد الاستعمار ليس استمرارا لقديمه. بل هو نمط جديد ومرحلة أخرى. رغم أن جديده بالفعل، يحتفظ ببعض منطق وأساليب قديمه عند الحاجة، أو عند الضرورة (أفغانستان والعراق..)، وهو ما يحصل اليوم بشكل مطرد. وهو ما لا يعني بحال أن قوانين جديد الاستعمار، هي نفسها قوانين قديمه.
في الحالتين وفي المرحلتين، فالدوافع والأهداف هي نفسها، أزمة، بالأحرى أزمات، الرأسمالية الدورية؛ الطارئ منها والمستمر، الجزئي والبنيوي، العابر
أو العميق… هي ما يفرض عليها، محاولة التخلص من عواقبها، وذلك عن طريق تصديرها بين أطرافها ومراكزها أولا، ثم في النهاية نحو توابعها من الضعفاء
أو المستضعفين من الدول والشعوب.. في جنوب وشرق العالم.
أزمات قديم الرأسمالية (ق19م) تمثلت غالبا في، فوائض بشرية + فوائض إنتاجية + الحاجة إلى المواد الأولية + الحاجة إلى المواد الغذائية… ثم لاحقا الحاجة إلى جنود وأيدي عاملة… تلكم إذن كانت دوافعه لاحتلال أراضي شرق العالم وجنوبه: باطنها (المعادن) وما فوقها، والاستيطان والسيطرة على الأراضي الفلاحية والعقار والأسواق واللغة والدين والمعرفة والأخلاق… وإدارات الدول متوسلا إلى ذلك بالاستشراق أولا وبالعنصرية ثم بالعنف الهمجي والدموي الشامل، لإرهاب لتقليل الأفواه، ثم تفكيك كيانات الشعوب والدول (أو تجميعها إذا كانت محض قبائل) وتقسيمها في ما بينهم على أسس الجغرافية محضة. لا تراعي الإنسان: علاقاته وخصوصياته… ذلك كان النمط القديم من العولمة الاستعمارية.
* * *
الولايات المتحدة.. التي عانت هي نفسها (بيضا وملونين) من هذا النمط من الاستعمار، كانت قد أسست في أمريكا اللاتينية (والفلبين) خاصة، نمطا جديدا من الاستتباع والاستعمار. عممته لاحقا على العالم بعد: 1-أن ساعدت شعوبه على التخلص من الاستعمار الأوربي (القديم) 2-أجهزت على الرأسمالية الأوربية والأسيوية خلال وبعد الحرب العظمى 2.
نمط الاستعمار الأمريكي الجديد (سيعمم ويعولم) هو انعكاس لتطور علمي-تقني، ومن تم اقتصادي. أضحى يستغني عن الجغرافيا (=الأرض) ويهتم أكثر بالإنسان: علاقات / وعي وثقافة وذاكرة / مشاعر وعواطف وقيم/ ذوق استهلاكي…إلخ. ولذلك أضحت مقتضياته:
1-الاقتصار في الأرض على قواعد عسكرية و/أو مخابراتية.. مع استمرار جزئي ومؤقت لبعض البؤر الاستيطانية (سبتة ومليلية مثلا) غير أن أهمها اليوم: إسرائيل وذلك: لمنع الوحدة العربية+عرقلة التنمية+ تمييع الحرية والديمقراطية + حراسة أمن حقول الطاقة وطرق مرورها والأنظمة المنصبة عليها، في الخليج خاصة..
2-الاهتمام أكثر بالقواعد: التعلمية والإعلامية واللغوية الثقافية… وباختراق المجتمعات المدنية والأهلية-الدينية، وأهم ذلك الجمعيات “المدنية” والصحف والأساتذة والكتاب والصحفيين… مرتزقة ومغفلين..
3-السيطرة المالية، وخاصة عن طريق الاستيداع من جهة (البترودولار) في بنوكها والربا الفاحش والمستتر من جهة ثانية، والذي لا يقل بحال عن 25% ولا تعلم به “برلمانات” الجنوب، ولا حتى “الحكومات” نفسها. وهو أمر يتم بمقتضى “الدساتير” الممنوحة إياها، والتي يهتم الطبالون لها، بشق الحريات والحكامة… ولا يهتمون بمثل هذه الجوانب الأخطر(؟!) وربما لا يعرفون.
4-اختراق المجتمع التقليدي أو الأهلي (القبلي-الطائفي-الديني…) والأقليات… لتعميق التشقيق والبلبلة والتشويش… والفتنة وذلك بقصد التفكيك، على أسس بشرية لا جغرافية. ما ينتج عنه المزيد من التجزئة الطائفية-المذهبية واللغوية… مقارنة إلى نمط تفكيك الاستعمار الأوربي القديم للجغرافيا (سايكس بيكو مثلا).
5-التبادل التجاري غير المتكافئ. وهو نمط فاحش في استغلاليته المتفاقمة. فسنة إثر أخرى، تقل قيمة ما يصدره المستضعفون، مقابل ارتفاع قيمة ما يستوردونه. إن ساعة عملهم تستبدل بساعات من عمل الشعوب المستعمرة من قبلهم. وإذا كان لشعب ما امتياز في سلعة ما، فإنهم يمنعون استيرادها من قبلهم بمبررات تجارية “قانونية” شتى، هي في الأصل صادرة عن إداراتهم: الصحة أو الجودة أو حقوق الإنسان… إلخ.
6-احتكار المعرفة والمعلومة والبحث العلمي والتقني ومنع توريدهما، وإذا حصل، فبشروط تمس الاستقلال والسيادة الوطنية قبل الخزينة العامة، ويتم ذلك باسم حقوق “الملكية الفكرية” والتي لا تراعى، عندما يتصل الأمر بأعمال مخابراتهم العلمية (؟).
7-ويتصل بذلك، ويرتبط به، سرقة الكفاءات والباحثين الشباب من علماء الجنوب والشرق المستضعفين، تحت الإغراء أو التهديد (عشرات من العلماء الشباب المغاربة اغتيلوا هنالك، أو حتى هنا).
8-الاستثمار في “اقتصاديات الظلام” وأخص ذلك: المخدرات بوظيفتيها التخديرية والمالية [أكثر مداخيلها تكنز في بنوكهم، ومن يرفض ذلك من تجارنا، مصيره الاعتقال في إطار “تطهير”] / القمار بأنواعه التي لا حصر لعددها / تجارة السلاح / الجنس / التبييض / والتهريب، خاصة للسلع المغشوشة بل والضارة: خمور – سجائر – أدوية… تصنع خاصة لأسواقنا ولشبابنا.. والإرهاب باسم “الشركات الأمنية” وذلك في سياق الابتزاز ولكن أيضا “تقليل الأفواه”.
9-نشر المجاعات والأمراض المعدية (خاصة في إفريقيا) واصطناع الحروب الأهلية وحروب “الحدود” المصطنعة بين الدول، لبيع السلاح وتجريب الأوبئة والأمراض السرية الفتاكة والتهجير وتقليل الأفواه… دائما.
10-نشر وإشاعة الفساد والتطبيع معه وتسويقه بوسائل شتى، أهمها: الفنون (اللباس والغناء والرقص والسينما والأدب…): العهارة – السرقة – الرشوة… والعنف.
11-وعلى الصعيد الثقافي، يقتضي المخطط، تحويل المثقفين إلى محللين ومعلقين أو حتى أبواق.. ومن تم أيضا عزلهم عن شعوبهم بالرشوة أو بالحصار والإشاعة. وتحويل الثقافة إلى فلكلور، من جهة وإلى ثقافة “جماهيرية” من جهة ثانية: العناية بالجسد، الفرجة، الاستعراض، إثارة الغرائز والنزعة الاستهلاكية… ونشر الفوضى في المفاهيم، وذلك خاصة عن طريق الفوضى في النشر وفي الترجمات والندوات “الأكاديمية” والمسابقات والجوائز الموجهة لتشجيع نمط من الأدب والبحث “العلمي” ينشر العدمية والعبث والشكلية والشعبوية والعري واحتقار الذات الوطنية والانفصال عن الذاكرة وتشويهها وتحريفها وحتى تخريبها وإعادة توظيفها بشكل مشوه ظلامي وحتى إرهابي، وذلك مثلا بإعادة إنتاج السحر والخرافة والأسطورة والتصوف والشعوذة والشعبوية السياسية…إلخ
12-وإذا لم يفد كل ذلك في تحقيق الهيمنة، فإن الاستعمار الجديد لا يتردد في العودة إلى أسلحته الموروثة لفرض السيطرة:
أ-التدخل بالوكالة عن طريق دول. ب-أو الحصار الشامل أو الجزئي ت-أو المؤامرات بالاغتيالات خصوصا ث-أو عن طريق الإرهاب: تشجيعه
أو اصطناعه عند الضرورة ج-وفي الأقصى التدخل العسكري المباشر (أفغانستان-العراق…)
إن العولمة (مثل الأسلمة) تدعو إلى إلغاء الحدود الوطنية السياسية وخاصة الاقتصادية-التجارية (=الأسواق) والثقافية (الوجدان) والاجتماعية-الأخلاقية (الخصوصيات)… ولكن على السلع فقط (وقد سلعت كل شيء) لا على الإنسان نفسه، التي تقتصر منه على ما يفيدها أو يمتعها (الكفاءات والعاهرات) إن شعار الرأسمالية الأصلي والثوري قبيل ثورتها (دعه يعمل دعه يمر) هو اليوم الشعار الأكثر ثورية من قبل الشعوب ضدا عليها وعلى صعيد علاقات الشعوب والأمم، وليس الإقطاعيات كما كان الأمر في العصر الوسيط. وذلك بعد أن أضحت الرأسمالية الاستعمارية اليوم، رجعية بل وإرهابية-همجية.
الاستعمار القديم استعمل الفكر والأدب والثقافة (الاستشراق) تمهيدا وحسب، وقاومته الثقافة والمثقفون (السلفية والوطنية) طليعة وحسب. أما اليوم، فإن المعركة هي، أساسا ثقافية، وتحتاج أكثر من السابق إلى مثقفين مناضلين، طليعة وقاعدة.
في المعركة ضدا على الاستعمار القديم، تكفلت الشعوب بإنجازها والانتصار فيها، لأنها كانت سياسية-عسكرية وذلك إلى حدود أكتوبر 1973 وبعض ماتلاها في الشام خاصة.
أما معركة اليوم، فإن الشعوب وحدها في المعركة لن تنتج سوى الشعبوية والفوضى… وحتى الإرهابية. وهذا سر تركيز الغرب الاستعماري وتوابعه الخليجية على المثقفين والكتاب والصحفيين وأغوائهم، أو بالأقل، تحييدهم عن طريق إرشائهم بشتى الطرق وأكثرها دهاء: ندوات ومؤتمرات مصطنعة وموضوعات مزيفة ونشر بدون مقاييس وإغراق للأسواق بالترجمات والمجلات التي تشيع ثقافة “الماء” (لا لون لها ولا طعم ولا رائحة) والتوظيفات المشبوهة في الإعلام خاصة… والبقية تتكفل بها الجوائز السمينة بمقاييسهم وقيمهم وأهدافهم… بل وشروطهم أيضا (=الموقف من الصراع العربي-الصهيوني خاصة)
عن موقع هيسبريس
22 اكتوبر 2014