كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تجديد الخطاب الديني. شارك فيه الرئيس بداية حتى يفتح المجال لنقد حركات الإسلام السياسي على كل أنواعها أو مشاركة فيما يدور بين الكُتّاب حتى لا يبدو خطابه مقتصراً على المشاريع التنموية الكبرى وأزمات الحياة اليومية كالكهرباء والمياه والصرف الصحي والعشوائيات والمرور والأمن.
ومادام الرئيس قد شارك فيه فالموضوع أصبح منطقة أمان. يستطيع كل كاتب أن يشارك فيه باسم التجديد والتنوير ومواجهة قوى الظلام والتخلف.
وعلماء الدين، وليس رجاله لأن الدين ليس له رجال أو سلطة، يقبلون الدخول في هذا النقاش على مضض لأن الدين لا تجديد فيه، لغة أو موضوعاً، شكلاً أو مضموناً. ولغته لا تتغير لأنها لغة القرآن. والقرآن هو كلام الله الذي لا تغيير فيه. بل إنهم هم الرافضون لأى محاولة لفعل ذلك من العلمانيين الذين يتآمرون على الدين بداية بالقطيعة معه وتغيير لغته كما فعل الغرب في عصوره الحديثة. بل ويكفّرون من يقوم بذلك، لأنه هدم للدين من الداخل وترويج للعلمانية حاملة الكفر والإلحاد. ويقوم بذلك العلمانيون وهم غير متخصصين. يريدون استبعاد الدين من الحياة اليومية لتأسيس المجتمع المدني، كما فعل الغرب. فالدين لله والوطن للجميع. وهو التيار الذي بدأه فرح أنطون ونيقولا حداد، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين وسلامة موسى، وخالد محمد خالد، ومن المعاصرين سعيد العشماوي، وسيد القمني. وهو التيار الذي رد عليه محمد عبده ورشيد رضا وكل علماء الدين. ويشارك فيه الإعلاميون بغية الشهرة والإثارة. وينقسمون إلى يسار مؤيد لتجديد الخطاب الديني، ويمين معارض له. وينشغل الناس بهذا السجال بين من يظن أنه يدافع عن الدين وتراث الأمة ومن يظن أنه يدافع عن الحداثة والاجتهاد وروح العصر. ويقوم به أيضاً المثقفون الوطنيون والعلماء المجتهدون والمفكرون المستقلون مفرقين بين اللفظ والمعنى والنفس والبدن. اللفظ يتغير بتغير العصر ولكن المعنى باق. والجسد يبلى ويتجدد ولكن الروح باق. يعتبرونهم علماء الدين علمانيين متخفيين. ويعتبرهم العلمانيون إسلاميين متخفيين. يعتبرهم الإسلاميون شيوعيين. ويعتبرهم الشيوعيون سلفيين متخفيين. وتعتبرهم أجهزة الأمن إخوان شيوعيين. يوضعون وراء القضبان في كل موجة ضد الإخوان أو الشيوعيين. وهم محاصرون من الإعلام، يعيشون في عزلة لأنهم ليسوا أهل شهرة. لا يريد صب الزيت على النار وإشعال الفتن بين الفريقين في عصر يبلغ الاستقطاب فيه إلى أقصى مدى بما في ذلك سفك الدماء دون معرفة من القاتل ومن المقتول.
واللغة ألفاظ ومعاني. الألفاظ متجددة طبقا لثقافة كل عصر. والمعاني باقية عبر العصور. الوحي، والسمع، والنقل، والمعرفة القبلية ألفاظ متعددة لمعنى واحد وهو كلام الله المنزل. والعالم والكون والدنيا والخلق ألفاظ متعددة لمعنى واحد هو هذه الحياة التي نعيشها. والساعة والبعث والنشور والقيامة ألفاظ متعددة لمعنى واحد وهو افتراض حياة أخرى بعد الموت يتحقق فيها العدل، ويقتص المظلوم فيه من الظالم. والفهم الحرفي لهذه الألفاظ يضر. ولها أشياء حسية وراءها موجودة بالفعل. والتأويل يحفظ لها المعاني والدلالات الإنسانية. فالجنة ثواب المظلوم، والنار عقاب الظالم. وهو الخلاف الذي أثاره القدماء بين التشبيه والتنزيه بالنسبة للذات الإلهية.
فمن الألفاظ التي تحتاج إلى تجديد ألفاظ: الصلب والرجم والجلد وقطع اليد ثم الرجل، فالأعضاء جزء من حقوق الإنسان، وفي بعض الدساتير ألغيت عقوبة الإعدام لأنه لا يمكن تصحيح خطأ جزئي بخطأ كلي. أما قطع الأطراف فجريمة. وهي عقوبة كانت موجودة في القانون الفارسي والقانون الروماني. ومنها ألفاظ الغنائم والسبايا والرق والتكفير والردة وأهل الكتاب وأهل الذمة والكافرين والضالين. ومن الألفاظ التي في حاجة إلى تفكير ألفاظ الحلال والحرام والسؤال عن حكم كل شيء، حلالاً أم حراماً. والقرآن قد حرّم مثل هذا السؤال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ». فالمباح علاقة طبيعية مباشرة بين الإنسان والعالم، وكذلك المندوب والمكروه اعتماداً على حرية الاختيار والإحساس الطبيعي. والمصالح العامة، والمنافع والمضار لغة تبين أسباب الحلال والحرام، وأكثر قبولاً. وطالما سأل بنو إسرائيل من قبل عن البقرة المطلوب ذبحها، لونها، عمرها، شكلها. ولم يفعلوا شيئاً بعد الإجابات. وغلبة التحريم على التحليل تجعل العالم موضع شك دائم وتنزع الثقة منه على عكس غلبة التحليل في عبارات مثل «لا حرج» و«البراءة الأصلية في العالم وفي النفس. وكثرة الوجوب أو التحريم قد تؤدي إلى الكبت أو العزلة عن العالم أو الخوف منه أو التحول إلى الإرهاب واستعمال العنف ضد المخالفين. وألفاظ أهل الكتالب وأهل الذمة قد تتعارض مع مفهوم المواطنة التي يتساوى فيه الجميع، حقوقاً وواجبات دون تمييز في الدين أو المذهب أو الطائفة أو الذكورة والأنوثة. والحجاب والنقاب وغطاء الرأس تخضع لظروف بيئية خالصة وللأذواق الخاصة والعادات الاجتماعية وهي متغيرة. وفي الثقافة الشعبية ممثلة في الأمثال العامية ما يسمح بتجديد الألفاظ ولكن التيار الغالب هو القول بثباتها. وهو الصراع القديم والجديد، بين الأشاعرة ممثلة القديم والمعتزلة ممثلة الجديد. وكل ما فعلته الحركة الإصلاحية مثل محمد عبده أنها أصبحت أشعرية في التوحيد وإن اقتربت من المعتزلة في العدل إثباتاً لاستقلال العقل وحرية الإرادة.
إن تجديد الخطاب الديني يبدأ بحياة الناس والواقع الاجتماعي، ما يقبله وما يرفضه. وهو منهج الاستقراء القديم الذي يحصي العلل المتحكمة في السلوك لمعرفة الأسباب. وقديما قال ابن سينا «لا مشاحة في الألفاظ».
وقد قام قدماء الفلاسفة بتغيير الألفاظ دون حرج. فالله هو واجب الوجود، والمطلق، ومثال المثل، والعلة الأولى، ونشأت الحضارة الإسلامية بهذه الطريقة، الانفتاح على ثقافات الغير واستعارة ألفاظها دون معانيها. بل إن القرآن به ألفاظ أجنبية تم تعريبها قبل نزول الوحي مثل «الصراط»، وهو لفظ روماني، و«المشكاة» وهو لفظ فارسي. واستعمل الرسول في أحاديثه بعض الألفاظ الحبشية مثل «سنه» ويعني حسن. كما امتلأت اللغة العربية الحديثة بكثير من الألفاظ المعربة مثل: الدستور، البرلمان، البنك، الشيك. إن تجديد الألفاظ يحمي المجتمع من الوقوع في الثنائية الثقافية بين السلفيين الذين يتمسكون بالألفاظ القديمة والعلمانيين الذين يستبدلون بها الألفاظ الحديثة، كما يحرص على وحدة الثقافة الوطنية بدلاً من الخصام الثقافي حتى الحرب الأهلية. ويحفظ المجتمع من التحول من الألفاظ إلى مضمونها حتى لا تنشأ حركات مثل «داعش» و«بوكوحرام» وكل دعاة الخلافة وإحيائها بعد أن تحولت الدولة الوطنية إلى دولة مستبدة. وهي صنيعة القوى الاستعمارية بعد سقوط الخلافة وطبقا لتقسيم سايكس- بيكو. والأمر ليس صعباً، فمقاصد الشريعة التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء هي نفسها ألفاظ حديثة استعملها الحدثيون مثل النفس أى الحياة، والعقل، والدين وهي المصالح العامة ومجموع القيم الإنسانية الثابتة، والعرض أي الكرامة الإنسانية، والمال أي الثروة الوطنية. ومفهوم التقدم ليس غريباً على اللغة القديمة «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ». والديموقراطية حديثاً هي الشورى قديماً، والمقاومة حديثاً هو الجهاد قديماً. والمجتمع المدني حديثاً هو «أنتم أعلم بشئون دنياكم» قديماً. وحقوق الإنسان حديثاً هي الذات والصفات والأسماء والأفعال قديماً، وما سماه الصوفية مثل عبد الكريم الجيلي «الإنسان الكامل».
إن تجديد الخطاب الديني هو أحد وسائل تطوير الخطاب الإصلاحي الذي حاول من قبل الجمع بين القديم والجديد قبل أن يصطدم بالحداثة فينكمش على نفسه ويعود إلى القديم مرة أخرى ويكفّر الحداثة والحدثيين، والتجديد والمجددين.
عن التحديد العربي
الأربعاء, 01 أكتوبر 2014