كان المهدي بن بركة يعرف الصين منذ 1959، حيث زارها كرئيس للوفد المغربي بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة الصينية، إذ أكد بالمناسبة أن الكفاح ضد الامبريالية والفيودالية قرب الشعبين المغربي والصيني في سنة 1963 خلال حرب الرمال. ساند الصينيون الجزائر ضد الرباط، لكن زهونلاي قام بعد ذلك بزيارة رسمية للمغرب، وفي السنة الموالية زار الأمير مولاي عبد الله، شقيق الحسن الثاني الصين لحضور احتفالات ذكرى الثورة في إطار تنافس واضح بين الحسن الثاني وأستاذه السابق في الرياضيات.
ومنذ خمس سنوات رافق المهدي بن بركة باستمرار الوفود الصينية في كل القمم و المؤتمرات والندوات الأفريقية الأسيوية. كان يعرفهم جيدا، يعرف ابتسامتهم الماكرة وصداقتهم للشعوب، طعناتهم الأخوية، غضبهم الطفولي.. وأيضا احترامهم الثابت للأجداد والقادة الثوريين، وهذا ينطبق على الأستاذ بن بركة.
في مقر اللجنة الصيفية للتضامن الأفرو أسيوي ببيكين، كان يلتقي مسؤولين أمثال “البحار الأحمر” لياو شينغزي ومساعديه هو كيوكيان وكياوشي، وكان له في المدينة صديق قديم هو الشاعر زهو زيكي صديق ورفيق لياو العضو القيادي في الجمعية الصينية للعلاقات الثقافية مع الدول الأجنبية، وكان رفقة زهو والغيني إسماعيل توري والمؤرخ الطادجيكي بوبودجان غافوروف، يسيرون من عدة أشهر صندوق التضامن الأفرو أسيوي الذي كان مقره في كوناكري.
بالنسبة لكل هؤلاء المسؤولين الخبراء في العلاقات الدولية، كما بالنسبة لزهونلاي، كان المهدي بن بركة الدبلوماسي الذي يحظى بالمصداقية، لأنه لا يمكن القول بأنه كان مساندا لموسكو أكثر من بكين، ولا العكس. كان لابد من استغلال كل اللباقة المعهودة فيه وكل براعته التكتيكية ليشرح لكبار المسؤولين الصينين بمن فيهم ماوتسي تونغ، سبب زيارته لبكين: «منظمة القارات الثلاث ستكون في كل الأحوال لقاء للشعوب وليس الحكومات، وسأحصل من موسكو على نفس الحياد الذي أطلب منكم حاليا».
وهكذا حصل بن بركة من ماو على تعهد أن الاعتراض الذي وضعوه على تواجد الاتحاد السوفياتي خلال مؤتمر باندونغ الثاني، أي مؤتمر رؤساء دول عدم الانحياز المقرر في القاهرة، لن يضعوه خلال مؤتمر القرات الثلاث المقرر في يناير 1966و دون علمه حصل بن بركة كذلك على دعم الماريشال لين بياو الزعيم النافذ في الجيش، الذي كان في ذلك الصيف يشتغل على نظريته حول «الحرب الشعبية» العالمية، مرتكزا على مناطق العواصف في القارات الثلاث: أفريقيا، آسيا، أمريكا اللاتينية.
كان الصينيون يعرفون أن بركة يتباحث معهم بارتباط وثيق مع قادة دول أفارقة أمثال جمال عبد الناصر وسيكوتوري ونكروما، وأن بن بركة توقف في موسكو في طريق عودته لإخبار كوسيغين بما حصل عليه في بكين. وفي كل الأحوال سيبقى المهدي بن بركة في تاريخ العلاقات المتوترة بين السوفيات والصينيين، واحدا من القلائل الذين استطاعوا إقناع الإخوة الأعداء بالمشاركة في مشروع مشترك. وعند عودته إلى أوربا، اعتبر المهدي أنه بالنظر لأهمية المشروع، بإمكانه أن يقدم تقريرا حول الموضوع للجنرال دوغول الذي كان يعرفه جيدا منذ أن استقبله سنة 1959 للحديث عن استفتاء تقرير المصير في الجزائر. لكن هذا التقرير وكذا الحقيبة التي كان بها ضاعت منه في ظروف غامضة خلال مقامه في فرنسا. لكن ليس بالنسبة للجميع، لأنه بعد فترة أشار هنري تاسكا السفير الأمريكي في الرباط بأنه اطلع على محتوى ذلك التقرير.
وبهذه الروح المليئة بهذا اللغز وانشغالات أخرى، سافر المهدي وزوجته غيتة وأبناؤه إلى الإسكندرية لقضاء عطلة لبضعة أيام كما وعدهم بذلك.
30 يوليوز 1965 – باريس
خلال الصيف اكترت عائلة بن بركة شقة بالاسكندرية قريبا من شواطئها الرائعة. كان المهدي يلتحق بالعائلة بين سفرين، بكين ، طوكيو ، جنيف وباريس، حيث كان غالبا ما يقيم عند صديقه جواوهانا بالشانزليزيه، وكانت باريس في ذلك الصيف شهدت سقوط أمطار غزيرة..
بين لقاءين لهما طابع سياسي، كان يحدث للمغربي أن يخرج للترفيه عن النفس. ولكن دائما بنفس الجدية. و عندما كان يريد بعض الأصدقاء أخذه لعشاء في الليدو، ولم يكن يجرؤ على الرفض. كان لابد من إعطاء ورقة تاريخية عن المكان حتى لحظة الترفيه لم يكن بن بركة يفارق حسه الجدي أو على الأقل حسه الرياضي الذي لا يفهمه العامة.
كان “الدينامو” يستغل هذه المناسبات للقاء بعض المناضلين من حزبه و بعض الصحفيين الذين يسمحون له بتوسيع رقعة التزامه الدولي. في بيت صديقته ميشيل كوتا.
التقى في حفل عشاء جاك دورجي الذي كان قريبا للروائية السويسرية جوليا شاموريل عمة مونيك الكاتبة الخاصة للمهدي. وبما أن العالم قرية صغيرة، التقى هذا الأخير عدة مرات بمجلة «ليكسبريس» جان فرانسوا كان زميل دورجي. وكانت هذه الدائرة من الصحفيين تشتغل ليس فقط كحلقة لإبراز وإشعاع تحركاته، بل ربما كان يأمل أن يشكل هؤلاء الصحفيون المرموقون سلاحا ورقيا لحمايته ولإخباره، وأيضا لنشر أطروحاته وإيصالها إلى أعلى دوائر السياسة في فرنسا. كما هو الشأن مع أصدقائه المحامية جيزيل حاليمي ورفيقها كلود فو أوجو أوحنا، رجل الأعمال المغربي الذي كان غالبا ما ينام المهدي في بيته بباريس، والذي أطلعه على سير المشاورات غير المباشرة مع الحسن الثاني.
كان المهدي يستعد للسفر إلى اليابان لإقناع الحزب الشيوعي الياباني بالإنضمام إلى مشروع منظمة القارات الثلاث، وكان هذا الحزب يتميز من وجهة نظر المهدي، بكونه يقف على مسافة متساوية بين موسكو، وبكين، إضافة إلى أنه وبمناسبة احتفالات الذكرى 20 لإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناكازاكي، ستكون الفرصة مناسبة لإدانة الإمبريالية الأمريكية والقواعد الأمريكية في أوكيناوا والتجسس الأمريكي على الصين، الذي تحدثت عنه الصحافة الصينية منذ بداية الشهر عندما كان هناك.
في الحقيقة، لم يكن المهدي بحاجة للذهاب حتى الشرق الأقصى لمعرفة نبض مثل هذه النشاطات، يوم 19 يوليوز وقع في جنوب فرنسا حدث أغاض كثيرا السلطات الفرنسية، وفي المقام الأول الجنرال دوغول. في ذلك الاثنين 19 يوليوز حوالي الساعة 16 و45 دقيقة، نفذت طائرة استطلاع تاكتيكي تابعة لسلاح الجو الأمريكي بأربع طلعات استكشافية فوق المحطة النووية في بييرلات في منطقة دروم، طاردتها طائرات ميراج فرنسية وأجبرتها على النزول لإعطاء تفسيرات لرئاسة الأركان الفرنسية.
حاول ربان الطائرة الأمريكية تبرير ذلك بقوله أنه خطأ في القيادة، وأنه فوجئ بعاصفة… قبل أن يأخذ منه الفرنسيون نسخ الصور التي التقطها للمحطة النووية، ووجهت وزارة الخارجية الفرنسية احتجاجا شديد اللهجة للسفارة الأمريكية، وكان الحلف الأطلسي في عين العاصفة. وفي مدينة كولومبي في أوج حملة الانتخابات لإعادة انتخابه، كان دوغول يحضر في سرية إجراءات الانسحاب من الحلف الأطلسي الذي كان سيعلنه بعد نهاية العطلة.
حضر المهدي يوم 9 غشت احتفالات اليابانيين بذكرى ضرب هيروشيما ناكازاكي كممثل عن اللجنة الآفرو آسيوية، وأمام عشرات الآلاف من المناضلين من أجل السلام والمواطنين العاديين الذين يحملون فوق أكتافهم آثار الرعب النووي الأمريكي، ألقى كلمة قوية ضد ما أسماه مصدر الشر. وكما كان متوقعا ربط المهدي بين الهولوكوست النووي الذي أراده الأمريكيون بالحرب على فيتنام «يجب قياده الكفاح ضد الإمبريالية الأمريكية عبر العالم. لأن هذه الإمبريالية تدعي التحكم في العالم».. ثم انتقل الى إدانة الدور المقيت الذي تقوم به المخابرات المركزية الأمريكية «علينا أن نكشف ونقضي على هذه القوى الخفية للإمبريالية والتي تحاول عرقة المد الثوري».
وما أزعج بيل برو، مدير مكتب المخابرات المركزية الأمريكية في طوكيو، وأشار إليه في برقيته حول الحدث، هو الطريقة التي شجع بواسطتها المهدي بن بركة الانتفاضات الشعبية ضد تواجد القواعد الأمريكية في يوكوسوكا أو أوكيناوا، وأيضا في بلده المغرب، وكان يقصد القاعدة الجوية بالقنيطرة: «يبقى القضاء في القنيطرة على آخر قاعدة أمريكية للاتصالات تشكل تمركزا استراتيجيا مهما جدا على مقربة من البحر الأبيض المتوسط، لأن طائرات الاستطلاع لولهيد EP-3 المتواجدة بها كانت تستطيع التقاط المكالمات المدنية وأيضا العسكرية ليس فقط في المغرب بل أيضا في غرب الجزائر. وهذه الطائرات المكلفة بالتجسس والتقاط الإشارات كانت لها خاصية مميزة، وهي أنها الطائرات الوحيدة التابعة للقوات البحرية الأمريكية المتواجدة على الأرض وليس البحر.
وفي أعقاب خطاب بن بركة الناري، في اليابان بدأ الأمريكيون يحسون بالقلق والإنزعاج من احتمال تواجد المهدي بن بركة في حكومة مغربية، خاصة بعد خطاب ناكازاكي الذي دعا فيه إلى تفكيك القاعدة الأمريكية بالقنيطرة، وفي الرباط، كان السفير الأمريكي هنري تاسكا – وهو جندي احتياط في البحرية الأمريكية شارك في الحرب العالمية الثانية – قد قدم أوراق اعتماده للملك يوم 14 يوليوز. ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف عن البحث للحصول على معلومات حول حقيقة طبيعة العلاقات بين الملك والمهدي بن بركة مهندس منظمة القارات الثلاث. وغداة مباحثات مع الجنرال.
أوفقير وفي تجاوز لسلسلة القيادة المعتادة، تم تكليف مايكل سدناوي مدير مكتب المخابرات المركزية الأمريكية بالرباط، بأن يطلب من نظيره بباريس كل المعلومات التي من شأنها تنوير سفيره
ولم يكن أوستين كامبل مدير مكتب المخابرات الأمريكية بباريس ليرد عليه سوى بالمعلومات التي يخبره بها رجال المخابرات الخارجية الفرنسية SDEGE أو الخارجية الفرنسية، بعد لقائهم في فندق كريون: خلال الصيف، ظل المهدي بن بركة على اتصال مع مولاي علي ابن عم الملك، التقى في القاهرة المدبوح مدير القصور الملكية وربما حتى شقيق الملك مولاي عبد الله، بعض المصادر تبدي تفاؤلا حول إمكانية اتفاق وتحدثت عن سفر لعبد القادر بن بركة إلى المغرب وبحث إمكانية استئجار منزل وتسجيل الأولاد في المدرسة في حالة عودة أخيه إلى المغرب. مصادر أخرى العكس من ذلك تؤكد أن الملك لم يكن ينوي العفو عن المهدي، وأن الجنرال أوفقير كان يتابع هذا الأمر بعناية.
في الواقع، كانت المخابرات المغربية تضيق الخناق حول العائلة في يوليوز وفي أعقاب اقتراحات رجال الأمن جمال عبد الناصر، تم نقل عائلة المهدي إلى منزل آخر، بالقاهرة وغادروا عنوانهم السابق، وأصبحوا تحت حراسة دقيقة من المخابرات في إقامة أخرى يصعب العثور عليها (7 زنقة محمد خلال) غير بعيد عن قصر القبة، مقر الحكومة تحت حماية الرئىس عبد الناصر.
عن جريدة الاتحاد .ش
3 اكتوبر 2014