عن موقع صحيفة الحياة
الأحد، 28 شتنبر 2014
المشكلة المركزية للوهابية ليست أنها أخذت بآلية التكفير. فهذه كما ذكرت الأسبوع الماضي آلية دينية ترتكز عليها كل الأديان والطوائف والمذاهب المتفرعة عنها. فمفردة كفر بتصريفاتها المختلفة موجودة بكثافة واضحة في القرآن الكريم. ومن ثم، فإن آلية التكفير تستند في أساسها الأول إلى القرآن باعتباره المصدر الأول للتشريع. وبعد ذلك إلى ما جاء في السنّة النبوية عن الموضوع نفسه كمصدر ثانٍ. أما المصدر الثالث، فهو ما يعرف بالإجماع أو القياس أو النقل. وهذا المصدر الثالث ما هو إلا تفسير لما جاء في المصدرين الأول والثاني، وبالتالي استنباط لموجبات، أو معايير التكفير في كل منهما، أو كليهما معاً. وإذا كان القرآن والسنّة النبوية يشكلان معاً النص الديني المباشر مع بقاء التراتبية بينهما، فإن المصدر الثالث هو النص الثقافي السياسي الناجم عن قراءة النص الديني وفقاً لمعطيات الثقافة وقيمها، ولحدود الرؤية والمصلحة السياسية.
بناء على ذلك، يمكن القول إن الاختلافات العقدية والتشريعية بين الفرق والمذاهب الإسلامية، ومن بينها الاختلاف في موضوع التكفير ومن ينبغي تكفيره، نابعة في أساسها من المصدر الثالث، وكيفية وحدود استخدامه في التعامل مع النص الديني لاستنباط الحكم وتنزيله على حال أو حالات بعينها. ومعنى اختلاف الفرق والمذاهب في موضوع التكفير أنه كما ذكرت اختلاف في الدرجة، وليس اختلافاً في النوع. وهو بذلك اختلاف يعكس اختلافات ثقافية وسياسية وتاريخية. أي أنه ليس هناك فرقة أو طائفة لم تمارس التكفير. يقول الإمام أبو حامد الغزالي (ت عام 505 هـ) في مستهل باب «بيان من يجب تكفيره من الفرق» من كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد» ما نصه: «وللفرق في هذا مبالغات وتعصبات. فكل طائفة تنتهي أحياناً إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي تنتسب إليها». وهذا على رغم أن المرجع الأول لكل هذه الفرق هو واحد، وهو النص الديني كما أشرت إليه أعلاه. لكن قراءة هذا النص تختلف من فرقة إلى أخرى، ومن جماعة إلى جماعة، ومن زمن إلى آخر… إلخ.
مقتضى ذلك من حيث المنهج الديني أن التكفير آلية إسلامية لا يختص بها مذهب من دون غيره، ولا تختص بها فرقة عن أخرى. ومقتضى أن الفرق بين الفرق والمذاهب في هذا الموضوع، وانطلاقاً من المنهج نفسه، هو فرق في الدرجة وليس فرقاً في النوع، بمعنى أن بعض هذه الفرق تتشدد وتغلو في تطبيق آلية التكفير، وفي التأسيس العقدي لها. كما أن فرقاً أخرى أكثر مرونة واعتدالاً، ولعل المعتزلة والمرجئة هما أكثر الفرق الإسلامية مرونة واعتدالاً في هذه الناحية. وعلى أساس من المنهج نفسه يمكن القول إن الوهابية كحركة سلفية تنتمي إلى منهج التشدد في هذا الموضوع. لماذا إذاً نقول إن مشكلة الوهابية ليست أنها اتخذت بآلية التكفير على هذا النحو؟ هل يعني هذا: التقليل من خطورة الغلو في التأسيس لهذه الآلية، وتطبيقها؟ والإجابة عن السؤال الأخير هي النفي قطعاً. لكن الإجابة عن السؤال الأول هي الأهم والأكثر مدعاة لشيء من التفصيل في هذا المقام.
السؤال الذي يتوجه لمن يريد أن يجعل من التشدد الوهابي في التكفير المشكلة الرئيسية هنا هو: هل أنت ضد مبدأ التكفير من حيث الأصل؟ أم ضد تكفير بعينه دون غيره؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن هذين السؤالين، فما هو الفرق المهم في هذه الحالة؟ يتفق المسلمون مثلاً على تكفير من يكذب الرسول. لكن في ما دون ذلك، هناك تكفير معلن ومباشر، وآخر مضمر وغير مباشر. يكفر الوهابيون في شكل مباشر مثل بقية السلف من يقوم بزيارة قبور الأولياء والصالحين ويتعبدون عندها، ويستعينون بهؤلاء الأولياء في جلب المنفعة ودفع المضرة. وتجعل الشيعة الاثني عشرية من الإمامة وعصمة الإمام ركناً من أركان الدين. على هذا الأساس ما هو حكم من لا يؤمن بهذا المبدأ جملة وتفصيلاً؟ ألا يعتبر حكمه أنه كافر، وإن لم يكن هذا الحكم غير معلن وغير مباشر أحياناً؟ هناك سؤال آخر: ماذا عن تداخل الديني مع السياسي في التأسيس العقدي لآلية التكفير، ثم تطبيقها في إطار وعلى أساس هذا التداخل تحديداً؟ ألا يمكن أن يكون التشدد الوهابي في مراحله الأولى انعكاساً للحال الاجتماعية والسياسية آنذاك؟ ما يفرض هذا السؤال هو اختلاف وهابية ما بعد النصف الثاني من القرن الـ20، عن وهابية القرنين الـ18 والـ19. ومن ثم ألا يضمر التداخل في التأسيس والتطبيق معاً للآلية نفسها أن هناك تكفيراً سياسياً على أساس من تأسيس عقدي، أو مبررات عقدية؟ وفي المقابل ألا يمكن أن ينطوي هذا أيضاً على تكفير عقدي، أو من منطلقات ومعايير عقدية، لكن لأهداف سياسية؟
هناك مثال ما يعرف بمظاهرة المشركين أثناء الحرب. يكاد أن يكون هناك إجماع على تكفير من يتعاون مع الكفار أو المشركين في مثل هذا الظرف. فقد كفر فقهاء المالكية من ظاهر الكفار في زمن المرابطين والموحدين في المغرب أثناء حروبهم مع النصارى. وكفر ابن تيمية من فعل الشيء نفسه مع التتار. واتباعاً لمرجعهم هذا، ابن تيمية، فعل الوهابيون الشيء نفسه في حق من تعاون مع الحملة المصرية.
ومن حيث إن الحرب هي ظرف سياسي ينطوي على أخطار كبيرة تتجاوز كثيراً هذا المستوى السياسي يبرز بالضرورة هذا السؤال: هل التكفير هنا هو تكفير ديني عقدي محض؟ أم تكفير سياسي خالص؟ أم تكفير تتداخل فيه معطيات الاثنين معاً؟ من الواضح أن الخيار الأخير هو الأقرب لواقع الحال. وذلك انطلاقاً من أن الدين جزء من الواقع الذي تدور في إطاره المعركة. في حال الوهابيين، مثلاً، قد يقال إن الحملة العسكرية عليهم كانت من المسلمين، وبأمر من الخليفة العثماني المسلم، فكيف يجوز تكفيرهم في هذه الحال؟ هذا يعيدنا إلى ما قاله الغزالي عن الفرق، والوهابيون من جماعة السلف. في الإطار نفسه يجب أن نتذكر أن المنطلق العقدي المعلن للعثمانيين في حربهم ضد الوهابيين حينذاك هو وصفهم هؤلاء بأنهم خوارج. هدف العثمانيون من وراء حربهم على الوهابيين هدف سياسي محض، وهو استعادة مكة والمدينة من الدولة السعودية الأولى. في هذه الحال، ما هو الفرق بين موقف كل من هذين الفريقين المسلمَين تجاه الآخر؟ هل يجوز للعثمانيين تطبيق حكم الخوارج على الوهابيين، ولا يجوز لهؤلاء تكفير العثمانيين؟ هذا مع الاعتبار أن ما ارتكبه الجيش المصري من شناعات بعد سقوط الدولة لا يقل عمّا يمكن أن يرتكبه جيش غير مسلم.
بقي مثل آخر يتعلق بتداخل الديني بالسياسي، والتكفير المعلن وغير المعلن. تنص المادة (115) من الدستور الحالي لإيران في شكل مباشر على حرمان كل إيراني لا ينتمي إلى المذهب الجعفري الاثني عشري، ولا يؤمن بولاية الفقيه من حق الترشح لرئاسة الجمهورية. ألا ينطوي هذا على تكفير عقدي مضمر، لكن بغطاء دستوري سياسي معلن ومباشر؟ تنقل هذه المادة آلية التكفير من مستوى الآلية الدينية المحض إلى مستوى المأسسة الدستورية، وترسيخها كعرف سياسي. وهي تكشف المضمر في مبدأ الإمامة، وعصمة الإمام كركن أساسي من أركان الدين. واللافت أن التكفير الذي تضمره هذه المادة هو تكفير جماعي مذهبي، وليس تكفيراً فردياً.
لعل من الواضح أن تكفير الفرد على أساس فعل أو موقف فردي مثل زيارة القبور، تقتصر تبعاته الدينية من عقاب أو ثواب، لا فرق، على الفرد وحده، يختلف عن تكفير جماعة على أساس فعل أو موقف تعود تبعاته على الجماعة، مثل مظاهرة الكفار أثناء الحرب، أو حرمان جماعة من حقوقها السياسية، كما في الدستور الإيراني. الأول يتعلق بحرية الفرد في الدنيا، وترك مآله في الآخرة لمن يملك حق محاسبته. أما الثاني فهو أكثر تعقيداً من ذلك. ففي حال مظاهرة الكفار يمثل التكفير موقفاً دفاعياً، أو تسويغاً للدفاع. أما في حال الدستور الإيراني فالتكفير المضمر هو افتئات على الحق السياسي والإنساني لجماعة في الدنيا، وشجب مسبق لمآلها في الآخرة. للحديث بقية.
* أكاديمي وكاتب سعودي