بقلم /د.عدنان عويّد
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون” (البقرة 134).
الجهاد لدى السلفية : (1)
قبل أن ندخل في توضيح الطبيعة الجهادية لاتجاه الفكر السلفي الجهادي, لا بد لنا هنا من الوقوف قليلاً لتوضيح أيضاً قضية أساسية من الناحية المنهجية وهي طبيعة العلاقة الجدلية بين مكونات أو اتجاهات التيار السلفي الثلاثة وتأثير بعضها ببعض وهي : الاتجاه ألمدخلي والاتجاه الدعوي والاتجاه الجهادي أو الحركي.
أن من يتابع السيرة التاريخية للتيار السلفي وبخاصة في اتجاهيه ألمدخلي والدعوي منه في تاريخينا الحديث والمعاصر, يلمس الدور التخريبي الكبير للعقول الذي مارساه هذان الاتجاهان, إن كان تحت سلطة الدولة كما فعل الاتجاه ألمدخلي بإسم مؤسساتها الدينية (وزارات الأوقاف, ودوائر الإفتاء, والمدارس الدينية , وكليات الشريعة, والمساجد التي تحولت إلى أمكان لإعطاء الدروس الدينية وحلقات الذكر, وغيرها من مؤسسات أخرى تهتم بتعليم الدين.), وذلك من خلال نشر وتغذية عقول المواطنين بالفكر السلفي الجبري المعادي للعقل والرأي والإرادة الإنسانية وتبرير فساد الطبقة الحاكمة تحت ذريعة تحريم انتقاد السلطة أو الخروج عليها خوفاً من الفتنة كما بينا في مواقع سابقة من هذه الدراسة.
أما ما قام به الاتجاه الدعوي, وأركز هنا على التيار الدعوي السعودي الوهابي بشكل خاص, ومن يمثل فكره السلفي على الساحة العربية والإسلامية بشكل عام, هذا التيار الذي لقي كل الدعم من بترودلار آل سعود, من أجل نشر هذا الفكر ودعمه ليس على مستوى السعودية ودول الخليج فحسب, بل وعلى مستوى الساحة العربية والإسلامية وحتى الأوربية أيضاً, إن كان من حيث إقامته للقنوات الإعلامية الدينية الدعوية التي تجاوز عددها عدة مئات, أو من خلال دعمه اللامحدود أيضاً في بناء الجوامع الخاصة بأهل هذا التيار في العديد من الدول الإسلامية, أو في نشر الكتب المعنية بهذا الفكر وتعميمها عربياً وإسلامياً, أو في فتح المدارس وتأهيل أساتذتها فكرياً, أو من خلال الدعم المادي اللامحدود. إن كل ذلك ساهم إلى حد كبير في خلق الحاضنة الفكرية أو الذهنية لهذا الفكر باتجاهات الثلاثة. وكان له النتائج السلبية التالية:
أولاً: خلق جيل بل أجيال من الشباب المتشبع بهذا الفكر الجبري التكفيري الاقصائي, الذي لم يعد يعرف من الثقافة والفكر إلا ما قاله أئمة هذا الفكر, وأن الحل والخلاص من كل معوقات حياة الإنسان لا يتحقق إلا بالعودة إلى الماضي (الفردوس المفقود) والتمسك به. وهذه المسألة بينا تأثيرها على الحياة الفكرية للإنسان المسلم من خلال نقدنا لموقف السلفية من العقل وحرية الإرادة في موقع سابق من هذه الدراسة.
ثانياً: إن عملية مسح عقول الشباب وتجهيلهم, عن طريق مشايخ وعلماء الدين التابعين الاتجاه ألمدخلي, وإغلاق معظم أبواب المعرفة المعاصرة بقضاياهم وقضايا عصرهم, وبخاصة ما يتعلق في الأسباب الحقيقة لأزماتهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي وجدوها في ابتعاد المسلمين عن التمسك بالأخلاق الإسلامية التي عاشها أسلافنا في القرون الثلاثة الهجرية لأولى, في الوقت الذي نجدهم فيه يغطون على مفاسد السلطات الحاكمة ومظالمها, وهذا ما جعل الشباب يعيشون حالة انفصام معرفي, مع كل أزمة يتعرضون لها, فجهلهم بأسباب أزماتهم الحقيقية من جهة, وعدم مقدرة تحقيق أفكارهم في استعادة الفردوس المفقود عبر ما تعلموه من مشايخهم عن فكر ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم الجوزية وأبو حامد الغزالي وغيرهم منم الأئمة المعاصرين الموالين للسلطات الحاكمة من جهة ثانية, يدفعهم ذلك إلى التطرف, وعدم التوازن النفسي والقيمي, وبالتالي غالباً ما يالجؤون إلى العنف (الجهاد) من أجل تحقيق أهدافهم إذا ما وجدوا الظروف المناسبة لتحقيق ذلك.
ثالثاً: منذ قيام الحركة الوهابية والتحامها بآل سعود, وتشكيل مملكتهم العتيدة, استغل آل سعود هذه الحركة وفكرها بعد أن لمسوا دورها في القدرة على مسح عقول مريديها بإسم الدين, وإمكانية السيطرة عليهم وتسخيرهم لتحقيق أجندات تخدم مصالهم, موظفين مع هذا الفكر الوهابي الثروات المالية الطائل التي يمتلكونها من أجل الحفاظ على سلطتهم تجاه أي عدو من الداخل أو الخارج, من القوى العلمانية والليبرالية وفي مقدمة هذه القوى يأتي القوميون, كما جرى لعبد الناصر من قبل آل سعود. بل وحتى القوى الدينية عندما تنظم نفسها في أحزاب قد تشكل خطراً على سلطتهم, كما هو حال “الإخوان المسلمون” الذين لعبت السعودية الدور الكبير في تقديم كل الدعم لهم في أول ظهور حركتهم, ثم راحت تحاربهم عندما أخذوا مدهم مع ما سمي الربيع العربي.
لقد استطاع آل سعود بدعمهم اللامحدود في نشر فكر الوهابية السلفية داخل السعودية وخارجها, أن يحولوا مريدي وتابعي هذه الدعوة إلى حصان طروادة داخل أوطانهم, وذلك من حلال امتلاكهم القدرة على تحريكهم بشكل مباشر أو غير مباشر عبر دعمهم المادي والسياسي واللوجستي, و كذلك عبر فتاوى التكفير والجهاد وغيرها. وهذا ما جرى في أفغانستان, عندما قدمت كل الدعم هي وأمريكا للسلفيين الوهابين الذين شكلوا تنظيم القاعدة تحت ذريعة محاربة الشيوعية الكافرة, الأمر الذي جعل الكثير من الشباب المسلم, العربي وغير العربي من أصحاب هذا التيار السلفي يلتحق في هذا الجهاد الأفغاني نتيجة لما يحمله من أفكار مسبقة تشجع على الالتحاق بهذا الجهاد, كما بينا قبل قليل عند حديثنا عن الاتجاه السلفي الثاني (الدعوي), والذي ساهم عبر الدعم اللامحدود في التأسيس لتنظيم القاعدة وما أخذه هذا التنظيم من أبعاد سلبية لم نزل نعيش نتائجها الكارثية حتى يومنا هذا.
مع انتهاء الاتحاد السوفييتي والقضاء منظومته السياسية والاقتصادية كمرجع أساس لحركات التحرر اليسارية عموماً التي كانت تشكل خطراً حقيقياً على كل الأنظمة الرجعية في العالم, ومنها النظام السعودي, قامت الثورة الإسلامية في إيران, وهي ثورة استطاعت أولاً أن تقضي على نظام الشاه الديكتاتوري المستبد, وتحويل السلطة إلى الشعب. ثم هي ثورة لها أجندتها الدينية أيضاً بغض النظر عن توجهها المذهبي كثورة إسلامية شيعية, فهي من حيث المبدأ شكلت سنداً لأي ثورة ذات طابع إسلامي, تقوم في أي دول من الدول الإسلامية عربية كانت أم غير عربية, شريطة أن لا تضر بمصالحها, لذلك لا نستغرب أن يقوم الشعب الإيراني وبدعم حكومي بتوزيع الحلوة في شوارع المدن الإيرانية عند وصل حزب التنمية والعدالة إلى السلطة في تركيا. وهي لم تكن ضد العديد من ثورات الربيع العربي كالثورة في ليبيا, وتونس ومصر , وقد زار المسؤولون الإيرانيون وعلى أعلى المستويات هذه الدول بعد قيام ثوراتها, علماً أن من استلم الحكم في هذه الدول هم ضد النظام السوري وهو الحليف الاستراتيجي لسورية. بل إن إيران رفعت ميزان تجارتها مع تركيا إلى أكثر من أربعين مليار دولار رغم كل المواقف العدائية التي مارستها الحكومة الإخوانية في تركيا ضد سورية والعراق ولم تزل تمارسها.
عموماً نقول في هذا الاتجاه, إن الثورة الإسلامية في إيران راحت تشكل خطراً حقيقياً منذ قيامها على آل سعود والمركب الرجعي لأمراء الخليج عموماً, كون المكونات الاجتماعية والمذهبية لهذه الدول تشكل أرضبةً خصبة لقيام تحركات شعبية داخل دولها تهدف إلى تغيير النظام, وإن قامت مثل هذه التحركات الشعبية لم يعد من السهل إسكاتها أو القضاء عليها, والبحرين واليمن (الحوثيون) أنموذجا على ذلك.
من هذا المنطلق راح آل سعود وأمراء الخليج ومن تلتقي مصالحه مع مصالحهم من حكام وسياسي دول المنطقة عربياً وإقليما, وعلى رأسهم الكيان الصهيوني, يعملون من أجل إسقاط هذه الثورة وحلفائها مثل سورية وحزب الله والحكومة العراقية, تحت ذريعة الاختلاف الطائفي الذي وجد فيه آل سعود وأمراء الخليج السلاح الأكثر قوة في مواجهة هذه المنظومة التي سموها هم بالهلال الشيعي.
إن هذا المذهب المدان أصحابه تاريخياً عند أهل السنة والجماعة (الفرقة الناجية), والمتهم بالكفر والبدع والزندقة, يوجد اليوم مَنْ يحاربه أيضاً من أمراء الخليج للأسباب التي أشرنا إليها, يساندهم في عدائهم هذا , أمريكا والغرب والكيان الصهيوني. الأمر الذي أعاد فتح ملف الصراع السياسي من جديد بإسم الدين, وهذا ما جعل آل سعود ومن معهم من امراء الخليج يبذلون المليارات تحت هذه اليافطة من أجل القضاء على العدو المنافس الحقيقي لهم, وهو إيران ومن يواليها عربياً وإقليميا ودولياً. وكل ذلك كان وراء إعادة صراع الملف السني الشيعي والفرقة الناجية بالسلاح القديم نفسه الذي حوربت به الشيعة في العصور الوسطى, مستخدمين كل الوسائل المتاحة, المادية والمعنوية لدعم أصحاب التيار السلفي وعلى رأسه الاتجاه الجهادي, ومشايخ الوهابية, والكثير من مشايخ الفكر السلفي بعمومه, لتغذية الشباب بالفكر السلفي عبر دروس الجوامع وغيرها من المؤسسات الدينية وفي مقدمتها الإعلامية, وكذلك عبر إطلاق الفتاوى التكفيرية وفقاً لما جاء من مواقف عدائية للتيار الشيعي في كتب الملل والنحل, وكتب الجرح والتعديل. أو بتعبير آخر, لقد رفضوا فتح االخطاب الديني على دلالاته بما يتفق والمرحلة التاريخية المعاصرة. أي رفضوا في هذه المسألة رفضا قاطعا إخضاع هذا النص الديني للواقع المتغير والمتطور والمتبدل في أحداثه, وحصروه فقط في المرحلة أو المنظومة التاريخي التي حددوها بالسنوات الهجرية الثلاثة الأولى, بحيث تغدو من أحاديث الرسول التي أقر مصداقيتها أهل السلف, وكذلك الآيات القرآنية مثلاً, إن لم يكن القرآن برمته بكل ما يتضمنه من قصص أو أحكام أو عبر أو غير ذلك, محصورا وفقاً لما قرره السلف في تلك القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وهذا أدى بالتالي إلى إخراج العقيدة بكل مضامينها ومقاصدها فعلياً من حيز الحاضر والمستقبل, بحيث لم تعود ذات جدوى كبيرة فيما بعد أمام يا يحدثه الواقع من تطور وتبدل, وهو ما يعني بالمحصلة النهائية طي الأحاديث والقرآن وآياته وأحكامه وفقهه وتفسيره وتأويله والاستدلال به أو الاعتماد عليه، وأخيراً تجريده من الواقعية الأزلية, ليصبح خطاباً دينياً بالمنظور العقلاني صالحا لماضي ليس له كبير أثر على الحاضر والمستقبل, بالرغم من قولهم, بل جزمهم بأن الخطاب الدين في سنته وقرآنه وإجماعه صالح لكل زمان ومكان. وتأسيساً على هذا الموقف السكوني من النص , بقي أعداء الماضي هم أنفسهم أعداء الحاضر, وإن ما قرره السلف بحقهم من تكفير وزندقة, لم يزل هو ذاته .
بيد أن هناك موقف براغماتي لدى السلفية الوهابية في هذا الاتجاه, يسمح فيه أئمتهم ولمواقف سياسية محض, بممارسة الاجتهاد والتأويل من داخل المنظومة الإسلامية العقدية، فالاجتهاد واقع فيما لا نص فيه، بل أن الوهابية بشكل خاص ترى في الاجتهاد الحقيقي مصدراً رابعاً للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع, الأمر الذي اعطاها مساحات واسعة في الاجتهاد وإصدار الكثير من الفتاوى التي تصب في خدمة بقاء الأسرة الحاكمة من جهة, ومحاربة من تشعر بخطورته على نفوذها من جهة ثانية, وهذا ما كان في الحقيقة وراء إصدار الكثير من الفتاوى من أئمة مشايخ الوهابية كما هو معروف للجميع.
كثيراً ما يعلن آل سعود والمركب الرجعي من أئمة وهابيتهم, نفيهم في دعم السلفية الجهادية للتغطية على دورهم المشبوه, وهذا الأمر غير حقيقي, لأن وقائع ما يجري تثبت حالات دعمهم, كما يجري اليوم في ساحات ما سمي بالربيع العربي. وغالباً ما يقومون في لعبة تقسيم الأدوار في هذا الدعم بين أئمتهم, ففي الوقت الذي تحرض فيه بعض هؤلاء الأئمة على إصدار فتاوى الفتنة وخلق حالات الفوضى في المجتمعات العربية والإسلامية عموماً, نجدها توجه البعض الآخر لرفض أفكار من يقوم بهذا الدور الفتنوي وإشعار الآخرين أن السعودية بفكرها الوهابي وقادتها السياسيين غير راضين عما خلقته فتاوى مشياخ الفتنة هؤلاء, من فوضى ودمار, مما يعطيهم الهيمنة على هذه المجتمعات بإسم الدين والفكر الوهابي الذي عملوا على نشره وتغذيته عربياً وإسلامياً. (83).
كاتب وباحث من سورية
لنشرة المحرر
26 شتنبر 2014