كلنا يعلم اليوم أن منظومة التربية والتكوين، تمر بظروف حالكة وتعاني اختلالات بنيوية وهيكلية عميقة، وبات إصلاحها يستدعى استنهاض الهمم والعزائم، لما يجسده من ضرورة مجتمعية ملحة، ورغبة كل مخلص، شغوف ببناء حضارة وطنه وحريص على مستقبل أجياله الصاعدة، باعتبارها رافعة أساسية لكل تقدم مأمول. فنجاح المشاريع التنموية، لا يتحقق إلا بالمرور عبر جسور مدرسة قوية وذات جودة عالية، في مناهجها وبرامجها وأطرها…
وإذا كان المجلس الأعلى للتربية والتكوين، المنعقد بالرباط يوم: 8 شتنبر 2014 في دورته العادية الثانية، قد وضع الحكومة أمام مسؤولياتها التاريخية، مادامت مهمته تنتهي عند وضع الأصبع على مكامن الداء واقتراح الدواء، وأنها وحدها الملزمة بمباشرة عملية العلاج دون تلكؤ، في انتظار مجيء حكومة أخرى لاستكمال المسلسل الإصلاحي، فإنها كعادتها لم تجد أمامها من دواء، عدا الاستمرار في إجهاض أحلام رجال التعليم، وهذه المرة عبر رفض الترخيص لهم بمتابعة دراساتهم العليا.
هناك شيء ما ليس على ما يرام، بين السيد بنكيران والأسرة التعليمية، منذ توليه منصب رئاسة الحكومة، وإن لم يجرؤ بعد على الإفصاح عن سره، ما عدا زلة لسانه الشهيرة في اتهامه رجال التعليم بالتحرش بتلامذتهم الصغار، حين أمرهم بالكف عن تقبيلهم، في الوقت الذي ابتلع لسانه إبان صدور العفو الملكي الخاطئ على البيدوفيلي المجرم «كالفان»، علما أنه سبق له سبر أغوار المهنة، واطلع على جسامة المسؤولية ونبل الرسالة التربوية. اللهم إذا كان دفء المنصب أنساه برودة حجرات الدرس…
إصلاح التعليم ليس بمعجزة يلزمه أنبياء، إنه أمر في متناول ذوي النيات الحسنة، إذا ما توفرت إلى جانب الإمكانات والوسائل البشرية والمادية الضرورية، الإرادة السياسية، وانخرطت فيه كافة مكونات المجتمع من فاعلين ومتدخلين ومهتمين. لكن، يبقى ضروريا الاهتمام بالإطار التربوي، الذي بدون العمل على الرفع من قدراته وتطوير مهاراته، وتحسين ظروف اشتغاله ومستوى عيشه، بما يضمن له التكوين والتكوين المستمر، ويساهم في تجويد العملية التعليمية-التعلمية، فإننا سنظل نتخبط في حلقات مفرغة، نهدر المال والجهد بدون فائدة. من هنا يتضح أن المدخل الرئيس لعملية الإصلاح، هو النهوض بالمستوى الفكري والمادي للعنصر البشري. ترى ماذا أعدت حكومة السيد بنكيران لذلك؟
عموما، الحكومة أخطأت طريق الإصلاح، وأعلنتها حربا ضروسا على الشعب، وبما أن نساء ورجال التعليم، يشكلون النخبة المتنورة ومصدر تنوير وتوعية، فإنها لم تتردد في استنزاف جهودها بوضع متاريس أمامها من قبيل الاكتظاظ، ومحاولة إفراغها من حمولتها الفكرية. حيث سبق لوزير التعليم العالي والبحث العلمي، السيد: لحسن الداودي، مراسلة رؤساء الجامعات بتاريخ: 10 أبريل 2012، بعدم فسح مجال ولوج الماستر والماستر المتخصص، إلا للطلبة المتفرغين بشكل كامل وبالمجان، وإلزامهم بالحضور للاستفادة المثمرة، مما يفيد ضمنيا إقصاء الموظفين وخاصة رجال التعليم، وهو ما يعتبر مسا سافرا بأحد الحقوق الإنسانية، لم تشهده الجامعة المغربية من قبل، وبالعودة إلى رسالة الوزير الأول السيد: ادريس جطو تحت رقم: 1671 المؤرخة في : 19 أغسطس 2005، حول الترخيص للموظفين بمتابعة دراساتهم الجامعية، يتضح ذلك جليا.
إن ما يجعل الحادث مثار شكوك وتساؤلات، حول ما إذا كان يندرج في إطار مؤامرة محكمة، تستهدف الإجهاز على حقوق ومكتسبات الشغيلة التعليمية، هو أنه بمجرد ما مضى على تنصيب الحكومة بضعة شهور، حتى باشرت حملتها ضد ما اعتبرته محاربة الفساد، بتصفية حساباتها مع هذه الفئة من الموظفين، وإن كنا لا ننفي وجود بعض المندسين الذين خدشوا صورة المهنة. إذ سبق للسيد: محمد الوفا إبان توليه حقيبة وزارة التربية الوطنية في النسخة الأولى للحكومة، والذي بإيعاز من رئيسها أعلن تمرده ضد قرار انسحاب حزبه (الاستقلال)، باستمراره محافظا على كرسيه، لا لشيء سوى تمريغ كرامة رجل التعليم وتلامذته في الوحل، أن قام هو الآخر في بداية الموسم الدراسي: 2012 /2013، باستصدار مقرر وزاري بتاريخ: 4 شتنبر 2012 تحت رقم: 12/299، يلغي العمل بالمذكرة الوزارية 109 في شأن الترخيص بإنجاز ساعات إضافية في القطاع الخاص.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد من القرارات الجائرة، بل زاد السيد الوفا بإصدار مذكرة خاصة بتدبير الزمن المدرسي، دون مراعاة خصوصية بعض المدارس والجهات، فضلا عن الاستفزازات المباشرة والإهانات المتواصلة، الاقتطاع غير المشروع من أجور المضربين عن العمل، الخرجة الإعلامية للحط من مكانة العاملين بالقطاع لدى الرأي العام، حين عمد إلى نشر عدد الرخص الطبية المدلى بها من قبلهم، لتحميلهم مسؤولية تراجع المنظومة التعليمية ومستوى التلاميذ، متوجا ذلك بإقرار قيود مجحفة على الراغبين في متابعة دراستهم العليا، وداعيا الأكاديميات الجهوية إلى إيفائه بلوائح الذين لهم علاقة مباشرة بالإعلام، سواء في الصحافة المكتوبة وغيرها لاتخاذ اللازم في حقهم متى حلت المناسبة…
وإذا كانت الشغيلة التعليمية، اعتبرت إعفاء الوفا استجابة طبيعية لمطالبتها برحيله، وأنها تخلصت إلى الأبد من التسلط وسوء التدبير، واستبشرت خيرا بقدوم السيد: رشيد بلمختار خلفا له، وهو العائد إلى الوزارة في أكتوبر 2013 مباشرة بعد الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2013، بطموح كبير لإصلاح الاختلالات موضوع الخطاب التاريخي، وأنه سيدشن لعهد جديد في موسمه الدراسي الثاني، باتخاذ إجراءات وتدابير لن تكون إلا في مستوى مطامح وآمال الأسر المغربية والعاملين بالقطاع، فإنه سرعان ما خاب ظنها وهي تتلقى ضربة موجعة أجهضت أحلامها. لقد أقدم السيد الوزير الجديد/القديم، على حرمانها من استكمال دراساتها الجامعية، وهو قرار استفزازي متسرع لا يرتكز على أي سند قانوني، عدا أنه اتخذ له ذريعة التأثير السلبي للتغيبات على أداء التلاميذ، متوعدا بعدم السماح لأي كان بتحسين وضعه المادي على حساب التلميذ. فيما هناك أسباب مضمرة وأخرى تروم التضييق على المربين، في تنمية وتطوير مهاراتهم والارتقاء بمعارفهم، من خلال تعليم جامعي متطور يلبي حاجياتهم التكوينية والمعرفية، ويواكب التحولات والمستجدات العلمية والتكنولوجية، التي من شأنها تعزيز موقع المدرسة العمومية وخدمة المصلحة العامة للمتعلم. قرار استنكره بشدة جميع الفاعلين التربويين ومختلف النقابات بما فيها تلك التابعة لحزب رئيس الحكومة، واعتبروه خرقا سافرا ضد نخبة من الطموحين إلى الترقي المعرفي قبل المادي، فمتى كانت الامتحانات المهنية تغني عن تعميق المعارف وتحسين الأوضاع الإدارية والمادية؟ وكيف لوزارة تشكو نقصا صارخا في الموارد البشرية، أن تمنح لموظفيها حق الاستيداع الإداري للدراسة؟
كفى إجحافا في حق أطر التعليم، واعتماد سياسة الكيل بمكيالين، التي لن تزيد الأوضاع إلا التهابا وتدهورا. فهل تعد مشاركتهم في عملية الإحصاء العام للسكان والسكنى، وإكراههم على الاستمرار في العمل إلى نهاية السنة الدراسية: 2014/2015، رغم استيفائهم السن القانوني للتقاعد، من صميم المصلحة العليا للوطن، بينما النهوض بمؤهلاتهم العلمية وحتى تحسين أوضاعهم المادية خيانة عظمى، وجريمة كبرى ضد الإنسانية؟ أما كان حريا بالقائمين على الشأن التربوي، تحفيز المدرسين والإداريين على المزيد من التحصيل العلمي، وبحث السبل الكفيلة بحماية حقوق الجميع دون الإضرار بفئة على حساب أخرى؟