التقرير الذي ننشر تفاصيله في هذا العدد، لا يهم العدل والإحسان وحدها، ولا يهم الدولة وحدها ولا يهمهما لوحدهما، بل هو في صميم الانشغال الوطني، ولا يمكن لأي قوة سياسية أو اجتماعية أن توفر على نفسها تفاصيله وخلاصاته.
فهو، بالإضافة إلى كونه صادرا عن معهد أمريكي يهتم بشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يتوفر على رؤية أصيلة في التعامل مع موضوع من صميم الحياة الوطنية، وخلاصاته التي تقدم وصفة المعهد لأصحاب القرار الأمريكي تهم تصرف الدولة المغربية تجاه جماعة قوية سياسيا وجماهيريا وذات وزن في المعادلة الداخلية.
صاحب هذا السطور يشعر أن جزءا من التقرير له ألفة معه، لأنه سبق، في مقالات عديدة تهم الشأن الوطني والتعليق على الأحداث الوطنية، أن تطرق إلى جزء مما ورد فيه، وبدون ادعاء ولا غرور، يشعر صاحب هذه السطور أن مضامين في التقرير كانت قد وردت، بلغة وتعبيرات مغايرة وبنفس المعنى في مقالات سابقة في هذا العمود.
أذكر أنه، عقب مسيرة الكرامة للتضامن مع غزة الذبيحة، كتبت، في 24 يوليوز مقالة في الموضوع تحت عنوان «العدل والإحسان ورسالة غزة السياسية ».
وقتها تلقيت اتصالا من قيادي اتحادي تاريخي (أعتذر عن ذكر اسمه، لأنني لم استأذنه في نشره) اعتبر أن ما ورد مهم للغاية ونوه بما كتبت.
وسبق أن تناقشت مع باحث مغربي وشخصية ثقافية وفكرية جد محترمة، كان لها دور ضمن لجنة إعداد الدستور، قال لي وقتها أن شأن العدل والإحسان لا يجب أن يكون مقصورا عليها وعلى الدولة، ولابد لحزب كبير مثل الاتحاد أن تكون له رؤية في الموضوع ومقترحات .. وهو في ذلك يشير إلى قراءة لتاريخ الاتحاد، وردت في العمود الذي أشير إليه، كما أن التقرير أشار إلى تجربة الاتحاد والاستقلال في التمهيد لقراءة مستقبل العدل والإحسان.
صحيح أن ما تقدمه صاحبة التقرير من قراءة، لا يتماشى مع القاموس الذي نقرأ به تجربتنا كاتحاد أو تجربة الاستقلال، ولا سيما مايتعلق بمصطلحات «استمالة الاتحاد» أو استقطاب أو توظيف الخ، مما يبين أن القراءة تنطلق من مركزية العهد السابق في قيادة الحركة السياسية، وليست قضية صراعات وجدليات ومواقف وصراع شرعيات الخ.
لكن مع ذلك كان فنجان الجماعة خاضعا في هذا التقرير إلى ما سبقه من فناجين الطالع السياسي لأحزاب سابقة معينة.
وتم التعبير عن ذلك في مقال سابق بالقول «ويمكن للجماعة أن تقرأ تاريخ الاتحاد، الذي كان وراء التناوب، وتقرأ أيضا الصراع حول الشرعية الوطنية وشرعية التحرير، كما تطرح هي اليوم، إن ضمنا أو صراحة، صراع الشرعية الإمامية، بدون الحديث عنها، وتخرج بالخلاصة التي تجعل التناوب لحظة تفكيك النقاش حول هذه الشرعيات، ومآلاتها التي تنتهي، بفعل التطور التاريخي وبدون السقوط في تكرار التجربة، إلى لحظة مصالحة، تتأسس على برنامج سياسي للانتقال أو التطور أو الإنقاذ، وحسب اللحظة التي نحن بصددها».
يهمنا أن نقرأ التقرير من زاوية التجربة السياسية الحالية في التاريخ المغربي، على ضوء الربيع المغربي.
وفي هذا السياق كان من اللافت حقا أن يقول التقرير « (لأن جماعة العدل والإحسان شاهدت مسار حزب العدالة والتنمية، وشعرت بالإحباط والنفور، وترفض وضع حد لمعارضتها للقصر)…. هو ما سبق التعبير عنه شهرين بالتمام والكمال من نشر التقرير، أي في 19 يوليوز الماضي بالكلمات التالية:«في السلوك السياسي للحكومة ولجهاز التنفيذ العمومي، لم يستدرج رئيسها التيارات الإسلامية الأخرى إلى شبكته في قراءة الوضع الراهن. كما أن بنكيران لم يستطع أن يطور عرضا سياسيا offre politique يتماشى مع ما بعد التغييرات الحاصلة، يمكنه من إغراء القوى التي تعارض العمل النظامي والسياسي المؤسساتي، وذلك بتقوية أدائه وتقويض أرضيتها السياسية التي تقول بأن الحاكم الفعلي هو المخزن، وأن الحكومات ماهي إلا صورية .. الخ ولم يتفوق عليها، من حيث أدائه الذي يبرهن عن أن المشاركة السياسية هي أفضل أسلوب لمواجهة إكراهات الانتقال الديموقراطي والتنمية معا. إنه في أفضل الأحوال يتعامل معها كضد لا بد منه لكي يلوح بخطورتها وبضرورة الاعتماد عليه كبديل دائم.
فمازال الحقل السياسي المغربي لم يستقر نهائيا، بسبب وجود فعاليات تشتغل على هامشه، ومازال بنكيران لم يتقدم أية خطوة في دفع هذه المكونات نحو المشاركة (لا على غرار دفع اليسار الراديكالي إلى المشاركة، كما في التناوب المغربي، ولا على غرار في تجربة سواريس الإسباني وإدماجه للحزب الشيوعي في الانتقال الديموقراطي)..
وهذه العبارة الأخيرة و كانت قد أثارت حفيظة رئيس الحكومة، الذي رد في الجلسة الشهرية الأخيرة له أمام الغرفتين بالقول(أنا غير عبد الإله بنكيران ماشي سواريس).
وقد تقوت هذه النزعة لإفراغ التحولات من مضامينها، مع الحديث المستمر لرئيس الحكومة، ولنخبته عن استمرار الدور السابق للملكية، بعد كل التحولات التي قادتها الملكية بنفسها منذ 9 مارس.
والإصرار على تقديم التجربة المغربية وكأنها تجربة تراوح نفسها منذ التسعينيات من القرن الماضي.
وهو ما لا يشجع القوى السياسية الفاعلة على تغيير ثقافتها ورؤيتها من المشاركة السياسية .
عجز الحكومة في شخص ينكيران عن تقديم عرض مغر لمن يلعب خارج الدائرة..لم يكن هو الفقرة الوحيدة واليتمية في التقرير التي تسترعي الانتباه من قراءتنا للتحليل المقدم عن الجماعة.
فقد أشار، أيضا، إلى ضرورة تحرك الجماعة باتجاه الدولة وتحرك هذه الأخيرة باتجاه الجماعة.
صاحب هذه السطور كتب في عمود يوم 24 يوليوز أن « وما يقوله المتتبعون ورجال السياسة والإعلاميون في السر أصبح لابد من قوله في العلن واستخلاص ما يجب استخلاصه منه.
فالجماعة مكنت الحقل السياسي من حيوية لا يمكن أن تغفلها العين .. ولا السياسة ولا الديبلوماسية.
لم يكن خافيا أن الجماعة، في خروجها الأهم، في قضية كبرى بعد وفاة زعيمها، أرادت أن تثبت بأنها مازالت قوية، ولم تتأثر بهذه الوفاة، كما أن غياب نادية ياسين لم يؤثر في تواجدها وتماسك أعضائها، أو في سقف تواجدها على الساحة الوطنية.
وهي رسالة تفترض السؤال التالي: هل يعتقد أحد في المغرب بأن هذه الجماعة ستنتهي ذات يوم إلى زوال، وبالتالي يجب انتظار فعل الزمن وتقلباته، أم أن حقيقة الأمر هي أنها ستبقى، كأكبر مكون سياسي يعمل خارج الإطارالسياسي المتعارف عليه إلى حين من الدهر، وأن منطق السلاسة السياسية يقتضي التعامل معها كمعطى؟
الجواب بين والشك بين.
والجماعة مطالبة بدورها أن تقطع نصف الطريق من السؤال ذاته وتجيب: هل تعتقد، في أي وهم تبشيري كان أن الدولة ومؤسساتها القوية يمكن أن تنهار في لحظة شعار وتتلف في الزمان ويحين وقت «لكع بن لكع»؟
أبدا، ولا يمكن أن يرجي خير من أي تفكير مثل هذا.
حقيقة الوضع أن العرض السياسي للجماعة يجب أن ينهي البداية التي دشنتها، أي العمل من داخل الدائرة السياسية بعيدا عن السياسة التبشيرية.
وقد قدمت، في الندوة الصحافية التي عقدتها في بداية الشهر الجاري، قراءة سياسية لثلاث لحظات من التاريخ الحديث جدا للمغرب: التناوب، العهد الجديد والربيع المغربي.
والإحالة على الربيع المغربي لا بد أن تستدرجنا إلى شيء أساسي، هو أن الجماعة نفسها انضوت تحت السقف السياسي الذي اجترحه شباب 20 فبراير، ولم تستطع أن ترفع سيوفها أعلى لكي تثقبه. وهو ما يعني أن في إمكانها أن تطوع عقلها السياسي بما يفصله عن عقلها التبشيري الرسولي الذي أطر جزءا من حياة شيخها الراحل عبد السلام ياسين.
كما أن الإحالة على العهد الجديد، تذكرنا بأنه تم تدبير إشكالية الجماعة، من زاوية غير زاوية التوتر والقطيعة (…)
لا يمكن للحقل السياسي المغربي أن يظل حقلا يتحرك غير مكتمل، أي بدينامية منقوصة، لأن ذلك يجعله في كل لحظة من اللحظات يعيد تعريف وترتيب قواعد اللعبة السياسية في البلاد.
ويجب أن تتضح التشكيلات والتقاطبات، بالشكل الذي يمكن من دخول مرحلة جديدة».
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
23 شتنبر 2014