هناك فرق في الفقه السياسي بين أن تضع أهدافاً استراتيجيه وتفكر بطريقة استراتيجيه عقلانية أيضاً لتحقيقها, وبين أن تضع أهدافاً استراتيجة, وتفكر بطريقة تكتيكية براغماتية لتحقيقها.
في الموقف الاستراتيجي الأول القائم على العقلانية, تستطيع الدول أن تصل إلى ما تريد من أهداف, أما في الموقف الثاني البراغماتي, فهي ربما تربح في توجها البراغماتي جزءاً من المعركة أو أجزاء عدة منها, عبر مسيرتها نحو أهدافها, ولكنها لن تربح المعركة كاملة, وبالتالي لن تستطيع تحقق أهدافها كاملة وهذا ما سيعود بها إلى نقطة الصفر بعد أن تكون قد كبدت نفسها وغيرها خسائر كبيرة مادية ومعنوية معاً.
إن ما وضعته كل من السعودية وتركيا من أهداف استراتيجة في معركتها القائمة في المشرق العربي منذ بداية ما سمي بالربيع العربي, لم تكن قائمة على أسس وقواعد إستراتيجية عقلانية, لا نظرياً ولا عملياً. ففي الوقت الذي أججت فيه السعودية ومن معها عربياً وإقليما ودولياً المرجعيات الطائفية في صراعها مع محور المقاومة, هي في الحقيقة قامت باللعب مع الشيطان الديني في بعده الطائفي, وبالتالي كانت اللعبة أكبر مما كانوا يتصور آل سعود وحلفاؤهم, ربما ربحوا بعض المعارك الجزئية التي دفع ثمنها الأبرياء من أبناء الشعب العربي, كما هو الحال اليوم في سورية والعراق وليبيا ومصر, إلا أن آل سعود وحلفاؤهم بدؤوا يشعرون أن اللعبة ذاتها بدأت تنعكس على مصالحهم. ففي الوقت الذي خرجت فيه بعض فصائل القاعدة عن السيطرة بعد أن دُعمت من قبلهم, وراحت اليوم تهدد معاقلهم بالذات, نرى أيضاً أن ما خافوا منه ودفعهم إلى صراعهم مع محور المقاومة, ومحاربة كل من يلتقي معه, بدأ يعلن فشله, فهذه سورية استمرت في قتالها ضد القوى التي سخرها آل سعود ومحورها, وتكاد المعركة أن تصل إلى نهاياتها بفضل استمرار الجيش العربي السوري بالمقاومة, واكتشاف الشعب السوري ذاته بعد هذه التضحيات الجسام التي قدمها من ماله ودمه وعرضه للمؤامرة التي حيكت ضده باسم الحرية والعدالة والديمقراطية, وكذا الحال في العراق حيث التف الشعب والقوى المقاومة مع الجيش والحكومة الجديدة, وفوتوا على السعودية وحلفائها فرصة تغيير المالكي وإمكانية تأزيم الموقف السياسي والطائفي في العراق. وكذلك الحال في اليمن حيث انتفضت القوى الحوثية المظلومة لسنين طويلة من حكوماتها وبدعم سعودي, كونها مخالفة طائفياً وقريبة من إيران, وحققت بانتفاضتها انتصاراً أجبر الحكومة اليمنية الموالية للسعودية على الرضوخ لمطالبها وتحقيق شروط عدالتها ومساواتها مع بقية مكونات الشعب اليمني سياسياً واقتصادياً وغير ذلك كما جاء في بيان المصالحة الأخير. وهذه مصر بدأت تدرك حكومتها وشعبها الأهداف الحقيقة التي تريدها منهم السعودية وهي استمرارية عزل مصر العظيمة عن دورها العربي ومقاومتها للكيان الصهيوني, وبالتلي تحويلها إلى أداة بيدها.
إذاً إن كل ما طمح له آل سعود من أهداف, وكل ما بذلوه من دولارات من أجل تحقيق هذه الأهداف, وكل المعاناة التي لاقاها الشعب العربي من هذه السياسة البراغماتية القميئة. باءت بالفشل وقد أدت سياسة اللعب مع الشيطان إلى انقلاب السحر على لساحر. وها هي السعودية ليوم تسعى للتنسيق مع إيران من اجل الدفاع عن مصالحها بعد أن بدأت النار تصل إلى سلطتها هي بالذات. وأول بوادر هذا التوجه الجديد هو لقاء وزراء خارجيتي السعودية وإيران في أمريكا اليوم /22/9/2014 .
أما تركيا أردوغان, التي نسقت كثيراً مع قطر وأحزاب الإخوان والتنظيمات الأصولية التكفيرية, من أجل تحقيق أهداف ذات أبعاد أيدويوجية تجاوزها الزمن, وهي إقامة الخلافة الإسلامية بزعامة الإخوان, وهي السياسية التي دفعتها أيضاً إلى تقديم كل الدعم المادي واللوجستي, وأهمها فتح الحدود للمتطرفين كي يدخوا بلاد أعداء مشروع الخلافة, ها هي اليوم تقع في شر سياستها البراغماتية مع داعش, التي نسقت معها كثيراً في سورية والعراق , وكان لها كل الدور في وصول داعش إلى ما وصلت إليه في العراق وسورية, ولكن مع التوجه الدولي الأخير لمقاومة داعش, وإعلان أمريكا بأنها ستبحث عن قوى في سورية تقدم لها السلاح والدعم من اجل محاربة داعش, وكان على رأس هذه القوى أكراد سورية الذين حملوا السلاح ضد داعش, وذلك رغبة منهم في الحصول على استقلال ذاتي في كردستان سورية منذ البداية, راح هذا الإعلان الأمريكي عن تقديم هذا الدعم يخيف تركيا من أن تقدم أمريكا والغرب الدعم بالمال والسلاح لأكراد سورية كما قدمنه لأكراد العراق, وبالتالي هذا سيشكل خطراً حقيقياً لتركيا مستقبلاً, فسارعت الحكومة الأردوغانية إلى الإيغال أكثر في تآمرها مع داعش, حيث طلبت منهم احتلال القرى الكردية في عين العرب الواقعة على الحدود التركية, الأمر الذي سيوقعها اليوم أيضاً في شر أعمالها بسبب لعبها مع الشيطان الداعشي, حيث أدى اجتياح داعش لهذه القرى إلى تهجير أكثر من سبعين الف كردي إلى أراضي تركيا, وهذا ما أوقع حكومة أردوغان في مأزق قبوله أو رفضها لهذا الدخول, وهي تعرف نتائج القبول والرفض معاً على مصالحها, لاسيما وان الأكراد في تركيا لن يسكتوا في حال منعتهم الحكومة التركية من الدخول, وإن دخلوا, فهي تدرك نتائج دخولهم في تعميق وضع المسألة الكردية في تركيا. هذا عدا الخطورة الكامنة من وصول داعش إلى حدودها وإمكانية تحويل هذا الشريط المحتل من قبلها ليكون قاعدة داعشية تهدد مصالح تركيا إذا ما حاولت اللعب بذيلها مع المحور الدولي الذي يقاوم داعش اليوم.
كاتب وباحث من سورية.
لنشرة المحرر
22 شتنير 2014