إن صياغة المفاهيم تمثل حالة النشاط العقلي الخلاق للفكر، ومن ثم يمكن أن يعبر هذا النشاط الخلاق عن إمكانية التحول في طبيعة المفهوم ذاته، غير أن هذه الطبيعة المعبرة عن محتوى المفهوم قد تحمل انحرافاً عن فهم طبيعة واقع معين يبحث المفهوم في إدراك خصائصه المميزة على نحو شمولي لوضعها محل الفحص والمعاينة. وهكذا تتبدى الإشكالية:
أولاً: من حيث طبيعة المفهوم بوصفه متحركاً وفياضاً ليلائم التحول المستمر في طبيعة الأشياء.
ثانياً: الانحراف الفكري عن إدراك واقع الأمر، رغبة في تكريس مفاهيم محددة لخدمة أهداف ومصالح أو غايات معينة، ومن هنا يتبلور سؤال الإشكالية: أتحول في التفكير أم انحرافه؟
الدلالة الفلسفية للمفهوم:
يقصد بالمفهوم فلسفياً: (معرفة الشيء على وجهه، ومنه مشكلـة الفهـم)(1). وبوجه عام: (ما يتكون لدى شخص ما عندما يكون قادراً على الفهم والتعبير عنه باقتدار لغوى)(2). وعبر تاريخ الفكر الفلسفي، كان سقراط أول فيلسوف يقوم بالتركيز على التصورات المحيرة (التصور أو المفهوم (concept)). إن الفلسفة فرع معرفي يدور حول المفاهيم كأحرى من أن يدور حول الوقائع. فالواقعة fact هي حقيقة عن العالم قائمة على أساس الملاحظة (observation). ولا توجد في اللغة الإنجليزية قريبة من كلمة (concept) (مفهوم) سوى كلمة (Idea) (فكرة) وكلمة (notion) (تصور). غير أنه من السهل أن نتبين ما يقصده الفلاسفة عندما يتحدثون عن المفاهيم، فكون (كولومبس) هو مكتشف أمريكا فهذه واقعة حقيقية (أو قل مكتشفها هو ليف أريكسون، إن كان حقا قد وصل إليها قبله). وفي كلتا الحالتين، إن الواقعة تشتمل على مفهوم الاكتشاف. الوقائع تُعرف، أما المفاهيم فتفهم، وأنت لا تستطيع أن تفهم واقعة أن كولومبس (أو أريكسون) هو مكتشف أمريكا ما لم تفهم مفهوم الاكتشاف… ومن مهام الفلسفة أن تعيننا على التمكن التام من المفهوم بدلاً من التمكن الجزئي مستخدمين في ذلك تحليل المفاهيم كأداة أساسية(3).
تبدو إذن مهمة الفلسفة الأصلية توضيح المفاهيم، ومن ثم تشق الفلسفة طريقها من الجزئي (مجال اهتمام المباحث والعلوم الإنسانية الأخرى) إلى الكلى أو الشامل. ويعد الهدف الرئيسي لهذه العملية محاولة الفهم التام، وإن ظل هذا الأمر ضرباً من المحال، إلاَّ أنه من المفيد عبر تلك المحاولة الانتقال من حالة الاضطراب أو التشويش إلى الوضوح على نحو شمولي وعميق. وقد أبانت التجربة الديمقراطية ضرورة وجود المفهوم، وعلى المنحي نفسه، جاء أفلاطون ليؤسس نموذجا لما نقصده بالمفهوم؟ إذ إن الأسئلة التي طرحها سقراط من عينة ما الفضيلة؟ ما العدالة؟ ما الخير؟ ما طبيعة القانون… كانت تمرينا أولياً للتعرف على المفهوم من خلال البرهنة الجدلية Dialectical argument التي تستلزم تقديم مجموعة من التصورات عن العدالة، على سبيل المثال، ليتم العثور من بينها على المفهوم الأكثر شمولية، ولذا يتطلب الأمر تقديم وجهات نظر خاصة حول كل تصور يؤكد أسبابه في رفض صحة التصورات الأخرى، ثم توضع هذه الأسباب محل الاختبار أو الفحص العميق في مقابل عرض أسباب تدحض التصورات الأخرى، وهكذا يتم حصر مجموعة التصورات الممكنة عن العدالة، ثم البحث عبر هذه المجموعة للوصول إلى المفهوم الملائم بشموليته، للصمود في وجه الدحض أو الإنكار(4).
يمكن ملاحظة أن هذا التمرين السقراطي للتعرف على المفهوم قد فتح الباب على مصراعيه -ووفقاً للجدل السقراطي- أمام محاذير عديدة، أهمها وجهان:
أحدهما: إنه حينما تكون بصدد تقديم وجهات نظر متعددة للوصول إلى صياغة مفهوم معين، فإنه تواجهنا مخاطرة عدم الوصول نهائياً إلى تصور مشترك مع الآخرين، ومن ثم يظل الأمر معلقاً!
الوجه الأخر: إن التعرض لتصحيح مفاهيم سائدة قد يضع حالة السكينة التي يعيشها وضع قائم في مهب الريح، إذ إن محاولة التصحيح أو التحول إلى الفهم قد تسبب قلقاً ومخاوف شتى من تغير نمط الحياة الذي درج الناس عليه، وما يترتب على ذلك من آثار أياً كان نوعها. وقد يلائم التحول في التفكير ضرورة الاعتراف بأن (الواقع) ليس وضعاً استاتيكياً (جامداً) يقف على أرض حقيقة مسلم بها، بل يحمل هذا الواقع إمكانية التسليم بوجهات نظر متعددة ومتنوعة تسهم بفاعلية في تغيير ملامح التفكير، ومن ثم يحدث تحول في إدراك طبيعة المفهوم المراد صياغته. وإذا كانت المغامرة الديمقراطية الرائدة قد حاولت الانتقال من الجزئي المبعثر والمتعدد إلى الكلى والشمولي أو المطلق، فإنها مغامرة محسوبة منهجياً بوصفها مدخلاً مرحليا للتعرف فحسب على سمات المفهوم، وعند هذا الحد يمكن فهم قيمتها. إنها مجرد منهج معرفي لا وسيلة لتكريس صياغة مفاهيمية محددة.
ما بعد الحداثة: أزمة التحولات الفكرية
تتعدد دلالات لفظ (الحديث) modern وفقاً للسياقات المختلفة التي يرد بها، إلاَّ أن من الشائع استخدامه للدلالة على (المعاصرة) أو (معاصر) contemporary والذي يعنى على وجه أكثر دقة (الآن) أو (اليوم) ولكي يمكن تمييز (الحديث) عن غيرة من الألفاظ أو المصطلحات المتداخلة معه في المعنى الشائع أو المتداولة يجب قصر معناه على ما يعد سمة تميز الحاضر أو الحالي أو الآونة الأخيرة في مقابل الماضي البعيد بمعنى نقيض (قديم) (وسيط).
وقد ظهر لفظ (حداثة) modernity للدلالة على المصدر من لفظ (حديث) الدال تاريخياً على عصر ما بعد العصور الوسطى (أو نهاية القرن الخامس عشر). ومن (الحداثة) جاء مصطلح أو لفظ حداثي modernist. أما ما بعد الحـداثة post-modernity فإن البادئة الإنجليزية post (ما بعد..) تشير إلى الانفصال عن محتوى (الحديث) أو استمراريته وقد تعنى المزج بين الاثنين في صورة جدلية للانفصال والاتصال (بين الحديث أو الحداثة، وما بعد الحديث أو ما بعد الحداثة)(5) من الجدير بالذكر، إيضاح مصطلح (التحديث) modernization كدلالة على إمكانية وجود صياغة عقلانية لأسلوب الإنتاج الذي يعتمد عليه التكنولوجيا الحديثة، أو التنظيم المنهجي للأعمال الاقتصادية بصورة واعية – أساس الرأسمالية الحديثة كما يرى (ماكس فيبر)(6).
تشير القراءة العميقة لهذا الكم من المفاهيم المعاصرة وما لحق بها من تحولات عبر رؤى ما بعد الحداثة، إلى مسألة جوهرية وهي أن مفهوم أو تعريف ما بعد الحداثة نفسه يعد أمراً يستحيل تحديده فلا يمكن وصفها وصفاً محكماً لا يقبل مناقشة.ومن ثم تقود استحالة التحديد لما بعد الحداثة إلى النسبية واللاتحديد، وهكذا يكون عدم اليقين دلالة على (ما بعد الحداثة)، وهذا كله يضع قضية تشكيل المفاهيم المعاصرة على محك النظر والارتياب في آن معا (فاهتمام ما بعد الحداثة في المقام الأول هو إزالة كل ما يمكن من سمات سائدة تشكل طابعاً لنمط حياتنا، وأن كل الكيانات التي يمكن النظر إليها بوصفها طبيعية ومن بينها الرأسمالية والنظام الأبوي والنزعة الإنسانية في صورتها الليبرالية هي كيانات (ثقافية) لم توجد بصورة طبيعية وإنما صنعت بأيدينا)(7).
من زاوية فكرية / فلسفية يمكن إدراك رؤية ما بعد الحداثة في تعارضها مع الفلسفة التقليدية، وذلك من موقف ما بعد الحداثة الرافض لمفهوم (الكلي) Totality. ولعل أفضل طريقة لفهم (الكلي) هي تأمل التضاد الثنائي binary opposition.. بين الذات subject (الوعي الذي يدرك العالم) والموضوع object (الظواهر الخارجية المدركة)… أنه من المستحيل تصور ذات مدركة a perceiving subject ما لم يكن لدينا مفهوم شيء خارج الذات، ومن ثم يمكن أن تدركه. وبالمثل فإن مفهوم موضوع للإدراك سيكون خالياً من المعنى دون تصور لذات فاعله active subject بوسعها القيام بالإدراك. وهكذا فإن مصطلحي الذات والموضوع هما متضادان في الحقيقة لكن كل منهما يشكل الآخر، ويجعله ممكنا، إنهما متداخلان في وحدة أو كلية تتجاوز مجموع أجزائهما(8). ويمثل الهجوم الذي تتخذه ما بعد الحداثة على (الكلى)، صورة للذات الإنسانية معزولة عن سياقها التاريخي والاجتماعي، فالذات العارفة أو الوعي الذي يدرك العالم (أو مفهوم الكائن الإنساني تَمّ اعتباره ماكينة رغبة نَهمة insatiable desiring machine باعتباره حيواناً محكوماً برغبات لانهائية… ولذا فإن اعتقاد الناس أنه يمكن دراسة الأشياء والأحداث كأفضل ما يكون بصورة انعزالية بعيداً عن السياق الكلى للمجتمع والتاريخ سيعمل على ترسيخ الوضع الراهن إلى الأبد(9). إن ما ترفضه ما بعد الحداثة هو فكرة أن التاريخ يتحرك صوب غاية نهائية، وفي المقابل تطرح كون التاريخ ليس إلاَّ أحداثاً منفصلة لا تستهدف غاية أو هدف، ومن هنا تشير (ما بعد الحداثة) إلى طبيعة مرحلة فكرية جديدة تستشعرها في إيقاعها المتلاحق، وبحثها الدءوب عن الجديد والمختلف، لكنك لن تستطيع أن تمسك بزمام سماتها، لتحدد ملامحها بصورة واضحة، إنها ليست خروجاً على المألوف فحسب بل تمثل انقلاباً جذرياً في المفاهيم، حيث حل (الشاذ) محل (المألوف). (إن صور الشذوذ عن المألوف، والتي تعد سمة عامة في عصرنا، وعلى نمو متعمد، صارت تحولاً في الأشياء تؤازره قدرة مجتمع إنساني، وكما يقول كيركجارد قادر على استيعاب كل ألوان الابتكار الخارج عن المألوف ليحوله إلى صورة تجسيدية، تمثل نمط حياة جديد، مناخ فكرى أو إنساني جديد، مداخل جديدة للمشهد الإنساني.)(10).
هل يمكن النظر إلى نشأة مفهوم (ما بعد الحداثة) كردّ فعل لحالة التشويش التي أعقبت الحرب العالمية الأولى؟ ما هي علاقة المفهوم بالفلسفة الوجودية بعد الحرب العالمية الثانية؟ (يمكن القول بأن سنوات ما بين الحرب العالمية الأولى والسنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة الفترة الفاصلة في التفكـير العلمي الاجتماعي (وأنماط التفكير الأكثر أيديولوجية المتصلة به) بالطريقة التي اقترحها المفكرون التقدميون في القرن التاسع عشر وكتاب نهاية القرن أوائل القرن العشرين، ولا نبالغ إن قلنا إن الحرب الطويلة التي دامت من عام 1914م حتى عام 1945م انطوت على صراع أيديولوجي حول مزايا تشخيصات الماضي والدلالات التي تولدت في السجال بشأن التحول إلى الحداثة، الذي بلغ ذروته للمرة الأولى خلال السنوات السابقة لعام 1914م)(11) ولعل ما يلفت الانتباه في الفقرة السابقة هو إمكانية تولد (ما بعد الحداثة) من رحم تشخيصات الماضي وما تمثله من دلالات التحول إلى الحداثة، ويحيلنا هذا إلى أهمية فكرة وعى الإنسان المعاصر بحركة الزمن، مهما تزايدت سرعة هذه الحركة، في مقابل حراك فكرى لا يسعه اللحاق بتنظير كاشف لطبيعة الحركة، ولا بأهدافها أو غاياتها (لكن بعد أن تم إقرار الحداثة، في الاستقرار الذي أعقب الحرب وما صحبه، بدا نوع من الموافقة الأكاديمية المتواطئة تمثل في الافتراض التالي: مادامت الحداثة هي الآن هنا، في هذه المرحلة أو الفترة المحددة فلا شيء وراءها.. أصبحت الحداثة هي محطة النهاية. وأي شيء بعدها خارج سياق التطور، إنه (بعد) ولابد أن يقضى عليه في مهده)(12).
من وجهة نظر مغايرة يأتي مفهوما (ما بعد الحداثة) – (ما بعد الصناعي) بوصفيهما مفهومين يقودان إلى طرح تساؤلات عن أيدلوجيات امتدت من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين (بدلاً من طرح أيديولوجيات جديدة تكون ذاتها موضعاً للتساؤل والاستنكار في المستقبل(13). وما بين الانفصال عن الحداثة أو استمراريتها على نحو متصل من خلال ما بعد الحداثة تأتى إشكالية من نوع خاص: هل تعني البادئة (ما بعد) انفصال أم هي استمرارية؟ هل تمثل فكرة (تفكيك) ما بعد الحداثة لنصوص وأعمال الحداثة نقداً أم إنها قراءة جديدة تدفعها للأمام؟ لا يجمع النقاد على تعريف واضح لمفهوم ما بعد الحداثة (فيوضح إيهاب حسن أن الظاهرة ذاتها يسميها البعض ما بعد الحداثة، بينما يسميها البعض الآخر الريادية، بينما يطلق عليها آخرون لفظ الحداثة)… معنى هذا أن فترة ما بعينها هي استمرار وانفصال في آن واحد – ومن ثم فإننا بحاجة إلى أن ننظر إلى ما بعد الحداثة بمنظارين من هما منظارا التشابه والاختلاف، الوحدة والتمزق، أو التبعية والتمرد… إن لفظ (الفترة) بصفة عامة ليس بفترة على الإطلاق، بل هو بنية تمتد في الزمن وتتشعب في لحظة معينة فيه.. لقد كوننا نموذجاً (لما بعد الحداثة) في أذهاننا فرض علينا أنماطا محددة من الثقافة والخيال، ثم شرعنا في (إعادة اكتشاف) أوجه الشبه بين هذا النموذج من ناحية والعديد من الكتاب واللحظات التاريخية من ناحية أخرى(14). وفي محاولة لإيجاد عالم ما بعد الحداثة رغبة في التخلي عن ماضي (حداثي) استنفذ أغراضه لدينا، بل صار معوقا، إذ يعبر عن فترة زمنية تاريخية مقيدة مكانياً، ومن ثم يجب تجاوزها، وهذا ما عبرت عنه النزعة النسبية الأخلاقية والمعرفية لعالم ما بعد الحداثة، وما تمثله من (نزعة شكية) في إمكانية تمييز الحقيقة من الزيف.
لا يمكن التأسيس (لما بعد الحداثة) أو البحث في جذورها الفكرية، تلك الجذور التي أثمرت تحولات عميقة في الفكر الإنساني، الغربي تحديداً، دون أن نتوقف متأملين فاحصين فكر (فريدريك نيتشه) ذلك الفيلسوف الذي آل على نفسه تقويض أركان الحقيقة كما شيدها الفكر الغربي الحديث. رفض نيتشه وجود (ذات) أو (فاعل) مع إقراره بأن (الفعل) هو أساس كل شيء. فالفلسفات السابقة عليه -منذ أفلاطون بالنسبة له- أبانت عن إمكانية وجود مصدر مطلق للمعنى أو المفهوم، وهذا منتهى الزيف لديه. أنكر نيتشه تلك الطائفة من (حرفي الفلسفة) أو المشتغلين بها philosophical laborers برؤيتهم العقلانية للواقع، أي يجعله واضحاً ومعقولاً كي يمكن التعامل معه، في مقابل أولئك الفلاسفة الذين يمثلون (الأرواح الحقيقية الطليقة) والذين يتمل هدفهم في تجسيد قيمهم الخاصة، ومن ثم تتكشف (إرادة القوة)(15).
إن تجسيد الفلاسفة لقيمهم الخاصة عند نيتشه يعود إلى تصوره للقيم الإنسانية التي يراها نابعة من أشياء واقعية كالغرائز والانفعالات أو العواطف، ومن خلال عادات وتقاليد تمثل جزءاً من حياتنا، ولذا فإن البشر في تصوره مزيج من ميول ودوافع متصارعة. وبما أن الفلاسفة بشر (فإنه تسيطر عليهم بواعث، أو دوافع داخلية، ولذا فإن الهدف النهائي للوجود بالنسبة للفلاسفة لا يتمثل في (دافع المعرفة)، بل هناك دافع آخر قد يكون له الاستحواذ على الفيلسوف الذي يستخدم المعرفة كوسيلة لتحقيق: الدافع الذي يسيره)(16). وهكذا يمكن النظر إلى (المفهوم) كأداة للمعرفة ليست مهمتها مساعدتنا في التعرف على حقيقة مطلقة، بقدر ما هي (دعم للذات) وعلى سبيل المثال، يرى (نيتشه) أن مفهوم الأمن ليس هدفاً معرفيا بقدر ما يحقق لنا شعوراً بالطمأنينة، (أليست غريزة الخوف هي التي تدفعنا إلى المعرفة؟ إن البهجة التي تبدو على من يكتسب المعرفة، أليست ابتهاجا بعودة الإحساس بالأمن)(17).
إذا كان نيتشه قد ارتأى (الفعل) أساس كل شيء فإن التحولات اللاحقة قد كشفت أثناء ممارسة (الفعل) وجه (المعاناة) أو بتعبير آخر، وجد الإنسان نفسه أمام ما يمكن أن يفعله أو يحب أو ينبغي له أن يفعله، وفي الوقت نفسه قبوله صاغراً لفعل لا يمثل خياره أو التوقف عن الفعل مجبراً (المعاناة) وعندئذ تصير المفاهيم كالأشياء، كلاهما لم يعد يحمل بطاقة تعريفه، إذ إنها لم تعد تكشف عن معناها من خلال كل ملامحها، ومن هنا فإن ما أسفرت عنه (تحولات ما بعد الحداثة) الفكرية مازالت تمثل مأزقاً أمام الإنسان المعاصر.
التحديث: انحرافات المفاهيم المتخيلة
إذا كانت (ما بعد الحداثة) قد قدمت نفسها كشعار لمرحلة التحولات الفكرية الكبرى، من وجهة نظر معنية، فإنه من وجهة أخرى عُدت نتاجا لهذه التحولات، ومن الوجهتين جرت كل معاركها الفكرية ظافرة كانت أم خاسرة على أرض العلوم الإنسانية. وعندما نتحدث في العلوم الإنسانية من زاوية (ما بعد الحداثة) فإن لغتنا هي (غربية) خالصة تتشكل مفرداتها على طراز أوروبي أو أمريكي، أي إنها محددة زمنياً ومكانياً، أو بمعنى آخر كانت ومازالت، إيضاحاً للنسق الغربي وحده، وإن تسربت مصطلحاتها ومقولاتها -كما هو الشأن دائماً- عبر ترجمات إلى لغتنا، فبدت تعريباً شاحباً يتخلل قسمات ثقافتنا، وتلوكها الأفواه بلغات أجنبية أو بصورتها المعربة، كل وفق ثقافته. لكن المهم هو أن ما وصل إلينا من خلالها كشف عن طبيعة حراك فكرى محتدم في جداله لدى الآخر (الغربي) الذي يبسط ضمن ما يبسط نفوذه الفكري. أما (التحديث) فلن تجد له تعريفاً في الإنسانيان، لكنه كان ومازال يطرح من خلال العلوم الاجتماعية أسئلة آنية (تتجاوز أطرها المحددة زمنياً ومكانياً إلى ما هو عالمي أو البحث في طريقة عمل (الأنساق العالمية) وهذا ما يهمنا إلى حد كبير، إذ يضعنا بوصفنا جزء من هذا العالم على خريطة الإنسانية، حتى لو جرفنا سيل انحرافاته المفاهيمية.
قبل محاولة تعريف (التحديث)، يمكن إيضاح ما الذي يعنيه (النسق العالمي) أو هذا المفهوم المتخيل الذي يمثل صورة عمليات (العولمة) الآن، إنه يشمل وجود أنماط مؤسسية ذات صفة عالمية، كما يعمل على تحديد الهوية ونتاجاتها الثقافية من منظور عالمي، في مقابل طمس ملامح النسق (القبلي) من خلال توجيه عالمي للاقتصاد أو التجارة، ويعمل على إبراز قراصنة وسماسرة مدربين في إطار من التعددية أو تفتيت لسيادة الدولة هذا ما يكشف عنه (النسق القبلي). فالقبلية والعالمية صارا محور الجذب في عصرنا وكل منهما يقدم نفسه بوصفه خاتم البشر أو نهاية العالم، بتعبير (فرانسيس نوكوياما) ووفقاً لمبدأ الصراع الحتمي أو بتعبير أكثر اتساعا ورواحـا (صدام الحضارات) كما دشنه (صموئيل هنتنجتون). وإذا كان (النسق العالمي) أو العولمة هي نقيض المحلية أو القبلية، فعالم مكدونالد أو العولمة في صورتها التجانسية يقف في مواجهة (عالم الجهاد) القائم على محلية: التفتيت). (وهنا لا توجد مفاهيم تحدد ما هو محلى، وما هو إقليمي.. إنها حتمية تماهى تلك المفاهيم في مفهوم واحد (ديناميكي)/ (غربي) تحدده حتميات أربع: حتمية السوق، وحتمية الموارد وحتمية المعلومات والتقنية وحتمية البيئة)(18).
لم يسبق (التحديث) العولمة واقعياً لكنه مهد منذ الستينات في القرن العشرين لمفهوم النسق العالمي.. كيف؟ يوضح (هنتنجتون) عملية التحديث كالآتي:
1 – التحديث عملية ثورية a revolutionary process: تنشأ على نحو مباشر من التباينات بين المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي.
2 – التحديث عملية معقدة a complex process تتطلب تغييرات عملية في كل جوانب الفكر والسلوك الإنساني.
3 – التحديث عملية نسقية a systemic process أي أن التغيرات في عامل واحد مرتبطة بالتغيرات في عناصر أخرى.
4 – التحديث عملية عولمية a global process، نشأت في القرن الخامس عشر والسادس عشر في أوربا، لكنها أصبحت الآن ظاهرة على مستوى العالم.
5 – التحديث عملية مطولة a lengthy process: إن إجمالي التغيرات التي يتطلبها التحديث يمكن أن تتحقق من خلال الوقت فقط.
6 – التحديث عملية متدرجة في مراحل a phased process: يمكن التمييز بين المستويات المختلفة أو بين أطوار التحديث التي سوف تنتقل معظم المجتمعات من خلالها.
7 – التحديث عملية تجانس a homogenizing process: يستلزم التحديث التحرك نحو الاعتماد المتبادل بين المجتمعات المنظمة سياسياً، وباتجاه أقصى درجات الاندماج بين المجتمعات لكي تكون قادرة على تشكيل دولة عالمية.
8 – التحديث عملية لا يمكن عكسها an irreversible process أن مجتمعا قد وصل إلى مستوى معين من التحضر والتعليم والتصنيع في عقد واحد لن ينحدر عملياً إلى مستويات أدنى في العقد الذي يليه.
9 – التحديث عملية تقدمية a progressive process إن التحديث يدعم على المدى البعيد سعادة الإنسان على نحو حضاري ومعنوي ومادي(19).
إن الصورة المتخيلة لمفهوم (التحديث) بعيداً عن سياقه (الغربي) الذي نشأ من خلاله، وقريباً من سياقه (اللاغربي) يكشف عن عملية (تهجين) تبدو واسعة النطاق من حيث انتشارها، حيث تختلط فيها أنماط ثقافية ومعاني وألفاظ مختلفة من مصادر متعددة على المستوى التاريخي والواقعي. إن التدفقات الثقافية على نطاق عالمي لا تؤسس لمنظومة عالمية واحدة تتضح منها السمات المميزة لتشكل فيما بعد مفاهيمها المعبرة عن وجودها. ويمكن قراءة عملية (التحديث) كما أوردها (هنتنجتون) لنتبين إلى أي حد أفرزت جملة من المفاهيم المتخيلة أو المصطنعه لا تعبر عن واقع عالمي معاصر بقدر ما تعبر عن (فسيفساء) تختلط فيها الملامح والألوان والأشكال أو ما يمكن تسميته (حالة الفوضى أو حالة تدوين عدد لا يمكن حصره من التواريخ الخاصة)(20) وعندما يعرف (التحديث) بأنه عملية ثورية أي عملية تغير جذري، فإن التقنيات الجديدة تؤدى إلى (تعذر تنفيذ سياسات العمالة الكاملة من النمط التقليدي. ومن شأن تكنولوجيات المعلومات أن تدفع بالتقسيم الاجتماعي للعمل إلى التغير بسرعة. فمهن كثيرة تختفي، وجميع الوظائف تصبح أقل أمناً. وتقسيم العمل في المجتمع هو الآن أقل ثباتاً مِمَّا كان عليه منذ الثورة الصناعية وما تفعله الأسواق العالمية هو نقل عدم الاستقرار هذا إلى كل اقتصاد في العالم، وهي إذ تفعل ذلك تصغى طابع العالمية على سياسة جديدة لانعدام الأمن الاقتصادي)(21).
وعندما يشار إلى التحديث بوصفه عملية معقدة تتداخل فيها مجموعة من العناصر، فإنها في المقابل تطرح إمكانية المرء في أن يحاول اتخاذ سبيل مختلف من التغيير على مستوى الفكر والسلوك، يمكنه أن يتحرك في اتجاه الفوضى أو الحرية كاستراتيجية. ويمكنه أن يجادل بأنه النمط الوحيد للمقاومة الثقافية -أي النمط الوحيد للتوكيد الثقافي الذي له قيمة- هو نمط Franc- tireur، نمط الفرد ضد الكتلة (كل الكتل، أي كتلة)(22) وإذا كان التحديث يعنى تميزه بالتماسك، أي فهم البشر لكيفية الحياة وفقاً لأحكام التحديث ومنطقه، فإن ما يسفر عنه التحديث من عولمة أي دمج العالم كمجموعة من الأطراف في (مركز) (يمثل صورة لرد فعل ماثل في مفهوم متخيل) يدعى (إيديولوجيا الوطن) في ظل إلحاح لفكرة مسيطرة عن فقدان الجذور، والحنين إلى عصر كانت الناس فيه تعيش حياة آمنة ومتجانسة(23) وعندما يكشف (التحديث) عن وجهته العولمية، والتي بدأت في أوربا مع نهاية عصر النهضة (القرن السادس عشر) وصار يغزو العالم الآن، فإن هذا النمط من (الثقافة العالمية) لا يشبع احتياجات حية ولا تنشأ عنه هوية… فوحدة البشر ليس لها (ذاكرة عالمية) فخبراتنا العالمية الماثلة في الاستعمار والحروب العالمية، لا تذكرنا إلاَّ بصراعاتنا التاريخية(24).
إذا نظرنا إلى التحديث بوصفه متدرجاً عبر مراحل، (فإن عودة ظهور النزاعات العرقية، والمطالب الإقليمية، والديانات باعتبارها قوى حاسمة في الحرب والسياسة، إنما تسخر من أي دبلوماسية تعتمد على أفكار التنوير المتعلقة بالإنسان الاقتصادي، وإمكانية قيام حضارة عالمية)(25). وإذا كان التحديث يتسم بالطابع التقدمي الذي يهدف إلى التحسين والتطوير باتجاه سعادة الإنسان بشقيها المادي والمعنوي، فإن الصورة التقدمية يتم اختزالها في نمط واحد من التقدم، ألا وهو (الديمقراطية الليبرالية) ويدفعنا هذا التصور إلى العودة للوراء، إلى نيتشه أحد الرواد المعترف بهم في تأسيس تيار (ما بعد الحداثة) في نظرته إلى (الديمقراطية) أو التحول إلى الديمقراطية إذ يقول: (إن التحول إلى الديمقراطية Democratization في أوربا سيفضى إلى نمط من البشر جاهز للعبودية بكل ما يحويه المعنى من تلطف.. إذ تجد أنه في حالات فردية يصبح الإنسان القوى أقوى، وأكثر ثراء مِمَّا كان عليه في أي وقت مضى وما يعنيه القول بأن التحول الديمقراطي الأوروبي هو -في الوقت نفسه وبدون قصد- مشروع لإنتاج الطغاة بالمعنى الأكثر روحانية)26.
ويقودنا (التحول إلى الديمقراطية) بالمعنى العولمي إلى تكريس نمط الديمقراطية الليبرالية كمنتصر وحيد في مقابل هزيمة الشيوعية والفاشية، لتعاود الديمقراطية لليبرالية سيرها المعتاد كضامن أخير لحياة إنسانية آمنة وهكذا يتحول الأمر إلى وجهة نظر ترى (أن النضال الأيديولوجي الذي يدعى جسارته وشجاعته ومثاليته إلى أقصى حد، سيتم استبداله بالتقييم الاقتصادي، فالحلول اللانهائية للمشكلات التكنولوجية، والاهتمامات أو القضايا البيئية، وإشباع حاجة المستهلك المعقدة في مرحلة ما بعد التاريخية Post – historical لن تكون فنية ولا فلسفية، إنها بمثابة المعرض الدائم للروح الإنسانية(27). إن الأزمة المعاصرة للفكر الغربي، والإنساني عامة، هي أزمة مفاهيم تلوح على السطح بوصفها أزمات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، لكنها تخبئ جذورها، إشكالياتها في إطار من التعددية والتعقيد والتحولات والتناقضات.
********************************
الحواشي:
*) باحث من مصر.
1- المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1979م، ص189.
2- – Antony flew, A Dictionary of philosophy, Macmillan press London, 1984, P6.
3- وليم جيمس إيرل، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة عادل مصطفى، مراجعة يمنى طريف الخولي، المشروع القومي للترجمة (962)، 2005م، ص16-17.
4- – Steren, M. Delue, political thinking, Allen Bacon, 1997.
5- انظر لفظ حديث modern في: Oxford English Dictionary, 1989, P947- 48
6- Habermas, j., the philosophical Discourse of modernity, P 2-3.
7- Autcheon, L., the polities of postmodernism London, Routledge, 1989, P2.
8- Awakes, D., Ideology, London, Rutledge 1996, P5.
9- Ibid., P11-12.
10- Nelson, B., on the road to modernity, in conscience, science and civilization, edit. by toby, E. AUFF, Roman & little field, 1981, p208.
11- رونالد روبرتسون، العولمة، النظرية الاجتماعية والثقافية الكونية، ت أحمد محمود، نورا أمين، المشروع القومي الترجمة 1978م، 1998م، ص144.
12- رايموند ويليامز، طرائق الحداثة، ت. فاروق عبد القادر، عالم المعرفة (246)، 1999م، ص56.
13- مارجريت روز، ما بعد الحداثة، ترجمة أحمد الشامي، سلسة الألف كتاب الثاني (153)، 1994م، ص165.
14- المرجع نفسه، ص61.
15- انظر- Nietzsche, F., Beyond Bood and Evil, penguin Book N.Y. 1973, P71, 142.
16- Ibid., P37.
17- Nietzsche, the Gay science, trans.by Walter Kaufmann, vintage Books, 1974, P355.
18- Barker, R. Jihad vs. Mc. World, The Atlantic, 1992, p169.
19- Huntington, Samuel, The Change to change, in comparative politics, ed. By Roy, c., Macridis, B.E. Brown, The Dorsey press, Illinois, 2972, p411-413.
20- Giddens, A., the consequences of Modernity, Stanford Univ. Press, 1990, p6.
21- جون جربي، الفجر الكاذب، ترجمة، أحمد فؤاد بلبع، المشروع القومي للترجمة (124)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م، ص33.
22- إيمانويل والرشتين، القومي والعالمي: هل يمكن أن توجد ثقافة عالمية؟ في الثقافة والعولمة والنظام العالمي، تحرير أنطوني كينج، ت. شهرت العالم، هالة فؤاد، محمد يحيى، المشروع القومي للترجمة (287)، 2001م، ص151.
23- لمزيد من التفصيل انظر:
Anderson, B., Imagined Communities, London, verso, 1983.
24- Smith, A. Towards A global Culture? In Global culture Nationalism, London, Sage, (1990) p192.
25- جون جربي، الفجر الكاذب، ص142.
26- Nietzsche, Beyond Good And Evil, p173.
27- Fukuyama, the End of history, the National interest, summer, 1987, p18.
……………………..
عن موقع مجلة التسامح / التفاهم
20 شتنبر 2014