(القسم الثاني- قراءة نقدية في الفكر لسلفي (20من 28)
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون” (البقرة 134).
في البدعة وتبريك فساد الحكام:
بينا في القسم الأول من الدراسة كيف عرّف ألشاطبي البدعة بقوله: ” هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية”. لكن امتناع الاختراع عنده ليس مطلقا، لأن له حدود يوضحها تقسيم الشريعة إلى عبادات ومعاملات. وبالتالي فالاختراع (الاجتهاد) عنده له مساحة ضيقة في مجال المعاملات فقط كما سنبين لا حقاً.
وبحسب هذا التعريف, فمن معالم العقيدة السلفية كراهية معتنقيها أيضاً لما يعتبرونه بدعاً…وكذلك كراهيتهم لما يعتبرونهم أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه… ولا يحبونهم ولا يصاحبونهم ويحذرون منهم ومن يتقرب إليهم, ولا يألون جهداً في نصحهم وزجرهم عن بدعهم.
إن قراءة أولية لما قاله ألشاطبي في مفهموم البدعة , ثم موقف السلفية من البدعة والمبتدع يبين لنا التالي:
لقد اعتبرت البدعة سلوكاً دينياً وليس وضعيا, وعلى اعتبار أن حياة الإنسان في كل ما يتعلق بها, هو أمر ديني مقرر مسبقاً ومكتوب بلوح محفوظ, وبالتالي, فإن الحكم على البدعة هو حكم شرعي وليس وضعياً. ومن جهة أخرى في هذا التعريف, نجد ألشاطبي يفسح في المجال لـ (الاختراع), أي البحث عن حلول لمستجدات الحياة لم تحدث لدى الأسلاف, وهي تخضع عنده في شرعنتها لما هو مقرر دينياً في الشريعة التي أقرتها مصادر التشريع السلفي, وهي القرآن والحديث والإجماع والقياس. فإذا كانت مسألة العقيدة مستبعدة عند ألشاطبي في قضية الإبداع بحيث لا يجوز مطلقاً الإبداع فيها كونها تتعلق في قضيا التوحيد والإلوهية والصفات إلخ, وهذه العقيدة يجب أن تشرح وتُعَلْمَ بالطريقة والفهم الذي حدده أئمة المذهب السلفي, كالشافعي, وابن حنبل, وأبي حسن الأشعري وابن تيمية وغيرهم, وأي خروج عن ذلك يعتبر بدعة, وهذا ما جعلهم يُبَدِعونَ المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة الذي قالوا بتعطيل الصفات الإلهية مثلاً, وأعطوا فسحة للعقل الإنساني وإرادته.
ولكون مسألة العبادات من المسائل التي لا يجوز المساس بأسسها العامة, فطاعة الله وتنفيذ تعاليم رسوله, والصلاة والصوم والزكاة وحج البيت والصبر على المكارة وتزكية النفس وغير ذلك من العبادات, هي أمور واجبة التنفيذ, بيد أن مسألة الخلق أو الاجتهاد على حد تعبير الشاطبي يمكن أن تكون في التعبير أو استخدم الوسيلة لتنفيذها مثلا. فللصلاة طقوس تأديتها الحركية المتفق عليها, فلو كان الإنسان عاجزاً عن تأدية هذه الحركات فمسموح له أن يؤدي الصلاة وهو جالس مثلاً وهكذا.
أما مسألة المعاملات المتعلقة بمصالح الناس , فهي محكومة أيضاً بمراجع وأصول الفقه السلفي, فأي مستجد في هذه الحياة يجب أن يوجد له ما يشار إليه أو يشابهه في القرآن أو الحديث أو الإجماع, أي يقاس على ما تركه لنا السلف, مع تضييقهم جداً أو حتى رفضهم في الأخذ بمصادر أخرى للتشريع مثل الاستحسان, والمصالح المرسلة, أو الرضوخ لقاعدة تتغير الأحوال بتغير الأزمان. وذلك كون الزمان والمكان ثابتين أمام ما قرره الدين, أو جاء به, فهو صالح لكل زمان ومكان, (الآن أتممت لكم دينكم…). فالواقع في كل حركته وتجلياته هو للدين وليس الدين للواقع كما يقرر مثلاً سيد قطب في كتابه ” معالم في الطريق”. هذا إذا ما نظرنا إلى مسألة إدخال البعد السياسي وتوظيفه دينياً لخدمة السلطات الحاكمة من حيث تبديع وتكفير أعداء السلطة كما جرى في عصر ابن حنبل بعد محنته, إذ لوحق المعتزلة وأهل الرأي وكفروا كما بينا في أكثر من موقع سابق, أو في عصرنا الحاضر حيث نجد أئمة هذا الفكر السلفي, ومنه الوهابي كيف يدافعون عن نظام حكم آل سعود الاستبدادي ضد من يعارض هذا الحكم من أبناء الشعب السعودي, تحت ذريعة رفض الخروج على سلطة الحاكم حتى ولو كان فاسداً وظالما تجنباً للفتنة من جهة, ثم محاربة من يختلف معهم مذهبياً بإسم الدين إذا شعروا أن هذا المخالف يمكن أن يشكل خطراً عليهم من جهة ثانية, كما هو الحال اليوم في محاربة الفكر والقومي والعلماني, أو محاربة الشيعة بكل تياراتهم كونهم ليسوا من الفرقة الناجية, لأن إيران اليوم دولة شيعية يشعر آل سعود أنها تشكل خطراً على حكمهم, بل وكل وجودهم .
تبريك أو شرعنة فساد الحكام:
إن مسألة الوقوف ضد مصالح الشعب, أمام مصالح سلطات الحكام من قبل السلفية عموماً, تحت ذريعة (حاكم فاسد أفضل من الفتنة) كما سنبينه بعد قليل, وتنصيب أئمتهم أوصياء على الشعب لتحقيق هذه المهمة, في الوقت الذي يكونون فيه أدوات للحاكم ووسيلة بيده لقهر شعبه والتغطية على مفاسده, وعدم امتلاك القدرة على نصحه بالعلن, فهي مسألة يبررونها باتكائهم على أحاديث كثيرة للرسول كما يدعون, ومن هذه الأحاديث مثلاً: ما جاء في صحيح مسلم : حديث لحذيفة بن اليمان يقول فيه: (قلتُ: يا رسولَ الله، إنا كنا بشَرٍّ، فجاء الله بخير. فنحن فيه. فهل من وراءِ هذا الخير شرّ ؟ قال:”نعم” قلتُ:هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال:”نعم” قلتُ: فهل من وراءِ ذلك الخير شر؟ قال:” نعم” قلتُ: كيف؟ قال:”يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، ولا يستنُون بسنّتي.وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس” قلت: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركتُ ذلك؟ّ قال:”تسمع وتطيع للأمير، و إنْ ضربَ ظهرَكَ و أخذَ مالك، فاسمَعْ وأطِعْ.(”
أما الحنابلة فهم أصل هذه المسأة في الفكر والفقه السلفي, وذلك وفقاً لابن حنبل في تبرير عدم الخروج على الحاكم الظالم خوفاً من الفتنة وهو القائل: (فإن من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخرة أن يبيت ولا يراه إماماً عليه براً كان أو فاجراً, فهو أمير المؤمنين .). (76).
وهذا الباقلاني يؤكد على هذه القضية أيضاً بقوله: ( إن الإمام لا ينخلع لظلمه وفسقه بغصب الأموال, وضرب الأبشار, وتناول النفوس المحرمة, وتضييع الحقوق, وتعطيل الحدود.). (77) .
وقال أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية: ( فقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ الأمراء يظلمون ويفعلون أموراً منكرة، ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحقَّ الذي لهم، ونسأل اللهَ الحقَّ الذي لنا، ولم يأذن في أخذِ الحق بالقتال، ولم يرخِّص في تركِ الحق الذي لهم. (78) .
وقال الشوكاني في ذلك: (ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل, أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد, بل كما ورد في الحديث: أن يأخذ بيده وَيَخْلُ به ويبذل له النصيحة, ولا يذل سلطان الله, وقد قدمنا في أول كتاب السير, أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ, ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح.) (79).
إن الموقف السلفي هذا من الحاكم حتى ولو كان فاسداً وطالماً ويتعدى على حقوق الناس, إنما يمارسون به الإجحاف والظلم بحق الدين والشعب والحاكم معاً.
فإجحافهم بحق الدين, أنهم خالفوا تعاليم الدين في تحقيق العدل ومحاربة الظلم والفساد, وذلك من خلال سكوتهم هم, والدعوة لسكوت الشعب أيضاً على الحاكم الظالم الفاسد.
وأجحفوا بحق الحاكم, من خلال السكوت على ظلمه وهذا ما يشجعه على ممارسة هذا الظلم والإيغال فيه طالما هو يجد من يبرر له ظلمه وفساده وفساد أدواته دينياً.
وأجحفوا بحق الشعب, أن طالبوا الشعب بالتقوى, وضرورة محاسبة المذنب من أبناء الشعب وتكفيره وخروجه عن الملة, في الوقت الذي يؤكدون فيه ضرورة قمع ومحاربة وتبديع من يحاول الخروج عن طاعة حاكمه الفاسد الظالم.
كما أجحفوا بحق أنفسهم كونهم يقولون ما لا يفعلون من خلال سكوتهم على الظلم والتقرب للظالمين من الحكام. والله يقول في كتابه الحكيم : (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون, إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.). الصف- (الآية3- 4).
هكذا نجد في موقفهم من البدعة موقفاً يساهم في إقفال باب الاجتهاد والعقل والنص المقدس إلى حد كبير حتى في جانب المعاملات, واعتبار ما قدمه السلف أو أجمع عليه أهل السنة والجماعة حتى القرن الثالث للهجرة هو الصالح لكل زمان ومكان, وما على الواقع إلا الارتقاء دوماً للنص الديني وتبديع ما خالفه. وبالتالي كل جديد بدعة, وكل بدعة ظلاله, وكل ظلاله في النار. وهذا تقييد لعقل المسلمين ومصالحهم معاً, ثم تركهم يدورون في حلقة مغلة فكراً وممارسة مداها الزمني ثلاثة قرون تجاوزها الزمان بألف ومائة عام, في الوقت الذي فجر غيرهم مكامن الإبداع وحققوا إنجازات علمية تجاوزوا فيها نطاق الزمان والمكان الذي يعيشون فيه.
أما في مسألة السلطة وموقفهم منها الذي جئنا عليه, فهو من حهة موقف معادي للإنسان وحريته ولكل ما يدعو للمشاركة في إدارة أمور البلاد, وحولوا المسلم إلى أداة طيعة بيد الحاكم والفقيه معاً لا حول له ولا قوة أمام ظالميه من الحكام وأئمة الدين الموالين للحاكم, ومن جهة ثانية, هو موقف نفاق وشرعنه للظلم والاستبداد من قبل الحاكم الظالم خارج ما يقره الله في شرعه من عدل ومساواة بين المسلمين وغير المسلمين من مواطني الدولة, وهذا مخالف للدين ولما جاء في كتاب الله ذاته وسنة نبيه, ومخالف لكل ما يقره العقل والمنطق.
كاتب وباحث من سورية
لنشرة المحرر
14 شتنبر 2014