الاثنين 25 مارس 2013
 عن  موقع جريدة لكم
عبد الجليل طليمات

مقدمة

عبد الجليل طليمات

ظلت مسألة وحدة اليسار المغربي تشكل ,على مدى أزيد من ثلاثة عقود , مطلبا ملازما لخطاب مختلف أحزابه وفصائله , من بينها من جعل من شعار الوحدة مكونا جوهريا من مكونات هويته اليسارية (منظمة العمل الديمقراطي الشعبي قبل انشقاق 1996 ) وحلقة مركزية في استراتيجية النضال الديمقراطي , فمطلب الوحدة من هذا المنظور ليس مجرد قضية ثانوية ملحقة بما هو أكبر منها في اجندة اليسار يمكن تأجيل انجازها والخوض في تعقيداتها ومواجهة عوائقها ، بل شرطا حاسما في تحقيق أي تقدم في اتجاه ربح رهانات الديمقراطية وبناء وترسيخ أسس الحداثة الفكرية و السياسية في تربة مجتمع عاش لقرون تحت هيمنة الاستبداد السياسي وثقافته المكرسة للخضوع والولاء الأعمى “لأولي الأمر “, وبكلمة : لقد اصبحت وحدة اليسار “شرط وجود ” وعنصرا مقررا وحاسما في تحديد أفق وطبيعة المستقبل السياسي للبلاد…ولامراء في أن وضعية اليسار المغربي اليوم – ومنذ أمد طويل – تطرح على الفاعلين السياسيين عموما، واليساريين منهم خصوصا , أسئلة مقلقة ومشروعة حول تجربته التاريخية ذاتها و هويته ومرجعيته , ومدى وضوح مشروعه المجتمعي ومطابقته للتحولات العميقة التي عرفها العالم والمجتمع المغربي على جميع الصعد وأيضا حول خطه السياسي المرحلي ومدى تمثله فكريا وسياسيا لمعطيات المرحلة الراهنة، وقدرته – بالتالي – على اجتراح واقتراح حلول ناجعة للمشكلات الكبرى التي يطرحها الانتقال نحو الديمقراطية ودولة المؤسسات بما يستجيب لمطالب المجتمع في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

ويبقى السؤال الجوهري _ المفتاح والذي يفرض نفسه اليوم في ظل التحولات الجارية تحت عنوان ‘الربيع العربي” هو : كيف يتجاوز اليسار , بمختلف أطيافه حالة التشتت والتعددية العقيمة التي يتخبط فيها منذ أمد طويل ، ليتحول إلى رقم وازن في معادلات تلك التحولات المتسارعة دوليا وإقليميا ووطنيا؟ وبصيغة أخرى كيف يعيد اليسار المغربي بناء جسور جديدة بينه وبين المجتمع ,وخاصة طبقاته ذات المصلحة في التغيير وأجياله الحالية (60% من المغاربة ازدادوا بعد المسيرة الخضراء) التي لم يعد يعنيها أو يجذبها تضخم الخطاب عن ماضي اليسار بتضحياته وانتكاساته وخلافات مكوناته .. الخ , بقدر ما يهمها جوابه الفكري والسياسي والعملي على أسئلة الحاضر واستشرافه لأفق التغيير في ظرفية تاريخية تدافع فيها قوى الفساد والاستبداد عن مواقعها وامتيازاتها بكل الوسائل الناعمة منها والدموية، وتطرح فيها النزعات المحافظة نفسها كبديل..؟

في النشأة والمسار : اليسار المغربي هو سليل الحركة الوطنية فكرة ومشروعا سياسيا، اذ ترتبط نشأته الجنينية بالنضال من أجل بناء الدولة الوطنية المغربية المستقلة و ما طرحه من إشكاليات تتعلق بالاقتصاد المستقل والدستور وبناء المؤسسات وبنموذج التنمية الكفيل بتحقيق انتظارات المغاربة من الاستقلال..

فمن داخل هذه القضايا ” قضايا الجهاد الأكبر ” تشكل اتجاه سياسي متميز داخل النخبة السياسية الحزبية التي رافقت مسيرة النضال من أجل الاستقلال الوطني , اتجاه مشبع بثقافة سياسة عصرية ومنفتحة ذات منحى يساري، تجسدت في حزبي التحرر والاشتراكية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( 1959) اللذين خرج منهما اليسار السبعيني الماركسي اللينيني فيما بعد ,ممثلا في منظمتي “الى الامام و23 مارس ”

وبين النشأة، واليوم مر اليسار المغربي من محطات عرفت قمعا شديدا من طرف النظام لاجثتات تنظيماته وتصفية أطره ، وعرف انقسامات مؤلمة , ومراجعات كثيرة لمشروعه وإستراتيجيته وتكتيكاته ولمرجعيته الاديولوجية كذلك . ولأن الغاية هنا ليست التأريخ والتفصيل في سرد وقائع محطات التجربة التاريخية الغنية لليسار المغربي ,سأكتفي هنا بالوقوف عند أهم الخلافات التي وسمت هذه التجربة، وجعلت الكثيرين يصدرون حكما متداولا عنها يعتبر ان “تاريخ اليسار السبعيني هو في الواقع ليس سوى تاريخ خلافاته ” وبالتالي تاريخ انقساماته.. ولعل هذا الحكم لا يشكل في الواقع سوى نصف الحقيقة أما نصفها الثاني فهو ان تاريخ اليسار هو أيضا تاريخ التضحيات الجسيمة التي قدمها مؤسسوه وأطره وقواعده في أشرس حملة قمعية عرفها سجل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا .

ان ما يشكل الأساس المرجعي لهوية اليسار المغربي هو تاريخه بالذات ، وتجاربه النضالية بأخطائها ومكتسباتها كذلك,خاصة على مستوى تطور الوعي السياسي اليساري وعلى مستوى النضج الإيديولوجي ,حيث من داخل هذه التجربة بكل ما رافق محطاتها من قمع وسجون ومنافي وتشريد للمنتمين والمنخرطين فيها , قيادات وقواعد ,استطاع اليسار الجديد (السبعيني) _ وبالأصح قسم واسع منه _ تجاوز والقطع مع ما اتسمت به مرحلة النشأة من دوغمائية نظرية ومذهبية ,وراديكالية سياسية رافضة جذريا للنظام السائد ولكل نزعة اصلاحية .

لقد كانت الخلافات داخل اليسار المغربي، خلافات سياسية وإيديولوجية، لا خلافات ذاتية، طالت قضايا وموضوعات إستراتيجية : العنف الثوري كطريق للسلطة , مفهوم الحزب الثوري ، التحالفات والعلاقة مع القوى الديمقراطية ,اضافة الى الاختلاف حول إستراتيجية النضال الديمقراطي والعمل العلني,وكانت قضية مغربية الصحراء القضية الخلافية القوية التي قسمت صف اليسار السبعيني حيث خاضت “منظمة 23 مارس” صراعا قويا في السرية وفي السجون وفي المنفى ضد العدمية في المسألة الوطنية كما عكسها موقف منظمة “إلى الأمام”

في غمرة كل هذه الخلافات الإستراتيجية منها والتكتيكية والتنظيمية , أغنى اليسار السبعيني الفكر السياسي اليساري، اذ حرره من “الرومانسية الثورية ” ” واليسارية الطفولية.”. ومن مفهوم الحزب الثوري”المهدوي” ذو الرسالة الخلاصية الذي سينبثق وبعفوية من تحت “نيران العدو” …

في المراجعة:في مراجعة نقدية سياسية و إيديولوجية ، للتجربة التاريخية لليسار السبعيني والتي اجتثت , وهي لم تزل يافعة من طرف النظام في حملتي قمع شاملتين (1972 و 1974 و ما بعدهما) استلهمت بقايا أطر منظمة 23 مارس (قيادة الخارج + أطر الداخل الناجية من القمع) متغيرات المرحلة السياسية الجديدة ومعطياتها الموضوعية المغايرة لمعطيات وتأثيرات النشأة والتأسيس , من بينها :

._ مناخ التعبئة الوطنية من أجل قطع الطريق على مخطط إقامة دويلة في الصحراء المغربية خاصة بعد دخول الجزائر بقوة وعدوانية كطرف مناهض لاسترجاع المغرب لصحرائه ,ومساند مباشر لمشروع الدويلة الانفصالية .

._ إقرار المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي لإستراتيجية النضال الديمقراطي سنة 1975، ومشاركته سنة 1976 في الانتخابات الجماعية والبرلمانية انسجاما مع هذا الاختيار الذي حسم مع ازدواجية ثورة _إصلاح…

._ تصدر المسالة الاجتماعية مكانة الصدارة في النضال الديمقراطي , خاصة بعد تأسيس الكنفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978.

._ صعود الحزب الاشتراكي الفرنسي الى السلطة، ومراجعة عدد من الأحزاب الشيوعية (خاصة في اسبانيا والبرتغال) لكثير من المقولات المؤطرة لفكر اليسار (كديكتاتورية البروليتاريا) .

كل هذه المتغيرات وغيرها ,فرضت ضرورة المراجعة ,وحددت وجهتها ، أي استقرارها على اختيار استراتيجية النضال الديمقراطي الجماهيري العلني كطريق نحو التغيير وبناء أداته الحزبية من داخل السيرورة الواقعية العينية للنضال الجماهيري الشعبي.

لقد قادت هذه المراجعة النقدية لتجربة اليسار السبعيني إلى الانخراط في المعركة الوطنية من أجل تكريس استرجاع المغرب لصحرائه، تمثل بشكل واضح في مراجعة منظمة 23 مارس لموقفها من اتفاقية مدريد الثلاثية لسنة 1978, حيث اعتبرت أن الرفض لها خطأ سياسي فادح , يصب في خدمة إستراتيجية إقامة الدويلة المصطنعة…كما تمثل كذلك في جعل الاختيار الوحدوي بين قوى اليسار الجديد والقوى الوطنية الديمقراطية وفي مقدمتها الاتحاد الاشتراكي ثابتا من الثوابت الذي يرتهن به تقدم النضال الديمقراطي الشعبي , وتفعيلا لهذا الاختيار أقرت هذه المراجعة الشاملة الشرعية القانونية خيارا تنظيميا ناجعا من أجل مد الجسور بين الحزب السياسي وبين أوسع القوى الاجتماعية . إ ن “وثيقة الشرعية “التي تعد وثيقة مفصلية في تجربة اليسار السبعيني، ثم اصدار جريدة “أنوال” هما ثمرتا مراجعة نقدية، سياسية إيديولوجية نضجت في مقرين رئيسين : السجون، والمنفى ,إضافة الى ما تبقى من خلايا أطر “23 مارس” خارج المقرين المشار اليهما .وقد توجت هذه المراجعة في الأخير بتأسيس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي ستبوئ المسألة الايديولوجية والثقافة الديمقراطية والخيار الوحدوي للصف الوطني الديمقراطي والبعد القومي في النضال الوطني مكانة مركزية قوية في إعلامها (أنوال) ومختلف أدبياتها ووثائقها ومواقفها.

ولأن المجال يضيق هنا عن الحديث مفصلا عن تجربة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي, يمكن القول، وكما جاء ذلك في وثيقة المؤتمر الوطني الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي المنشق عن المنظمة بسبب الخلاف حول الموقف من دستور 1996:

” لقد تركت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي في رصيدها التاريخي حصيلة ايجابية في كل المهمات التي خطتها لنفسها (..) من خلال تجربة فكرية نقدية فريدة لكل مظاهر الشعبوية والدوغمائية واللاعقلانية في السياسة، وليس أقل ما في هذه الحصيلة، أنها فتحت آفاقا سياسية وإيديولوجية ديمقراطية عمت كل مناضلي وجماهير اليسار السبعيني، حتى وان لم تصر المنظمة بعد الجسم الحزبي الوحيد المستقطب له (..) ولقد غطت تلك الحصيلة الايجابية كل الميادين التي أقرتها لنفسها في الثقافة والايدولوجيا وفي إعادة التفكير ايجابيا في المسألة الدينية وفي قضايا المجتمع المدني …(..) لقد كان بإمكان هذه التجربة ان تعطي أكثر مما أعطته لولا الفرامل الداخلية التي كانت تحبس اندفاعتها , وتقلص إبداعاتها ,ثم لولا أخيرا النكسة التي تعرضت لها في منعطف تاريخي حاسم”

وفي هذا المنعطف أيضا كان الخلاف سياسيا تكتيكيا ( تم تضخيمه وخلطه بما هو استراتيجي) أثمر أرضيتين سياسيتين تعكسان انقسام المنظمة الى اتجاهين متمايزين ,هما ما يطبعا يسار اليوم :اتجاه شعبوي راديكالي يستمد تأثيره وجاذبيته من رفضه المشاركة في المؤسسات والانتخابات الى حين توفر كل ضمانات النزاهة , واتجاه واقعي عقلاني اصلاحي تحديثي ,وهو المنخرط في العملية السياسية الجارية بكل نقائصها وتراكماتها وتوافقاتها منذ التصويت على دستور 1996 بما فتحه من دينامكية سياسية جديدة توجت بحكومة التناوب التوافقي بقيادة الاتحاد الاشتراكي . وقد أدت هذه التجربة الحكومية التوافقية الى خلق شروخ جديدة في الصف اليساري بلغت الى حديث البعض عن وجود يسارين : واحد ديمقراطي راديكالي ,وآخر “حكومي” في أخف نعث له ,و”مخزني” في أشد وصف “بوليميكي “. وعلى الرغم من كل هذا التمايز والاختلاف في تقدير طبيعة المرحلة السياسية التي أعقبت التصويت على دستور 1996 ,بقي شعار أومطلب وحدة اليسار حاضرا بقوة في خطاب وأولويات فصائله على اختلاف مواقفها ومواقعها في المشهد السياسي والحقل الحزبي, وتم عقد تحالفات (التحالف الاشتراكي _ اندماج تيارات وفصائل في حزب جديد هو الحزب الاشتراكي الموحد _ تحالف اليسار الديمقراطي _ثم اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاتحاد الاشتراكي ) .ان هذه الدينامية الوحدوية , على محدودية تأثيرها وضعف مردوديتها ,تعكس الوعي اليساري الحاد بضرورة تهيكل قوى اليسار كقوة سياسية وتنظيمية موحدة لتجاوز حالة التشتت غير المبررة موضوعيا والتي لم تساهم إلا في توسيع دائرة اللاتسيس وتعميق الشعور باليأس والإحباط.

وحتى لا تستغرقنا تفاصيل التجربة السياسية والتنظيمية اليسارية , يمكن القول بأن اليسار المغربي هو اليوم أوسع في تمثيليته المجتمعية من أحزابه وفصائله المأزومة عموما، فهو يتشكل من جميع القوى الهيئات والجمعيات الحقوقية والثقافية، ومن الحركات الاجتماعية الاحتجاجية المتعددة المطالب وبكلمة : من كل القوى التي تناضل من أجل مشروع مجتمعي ديمقراطي يحقق الحرية والمواطنة والعدالة والمساواة بالوسائل الديمقراطية.

إن التحدي الذي يواجه قوى اليسار اليوم هو تنظيم وتأطير ما يسمى ب”شعب اليسار ” على قاعدة رؤية جديدة للمستقبل ,بما ينمي تأثيره وقدراته في ترجيح ميزان القوى السياسي والثقافي لصالح المشروع الديمقراطي الحداثي ذي الافق الاشتراكي .

في الشرط الموضوعي للوحدة : على الرغم من حالة التشتت والانقسام في المواقف والمواقع التي يعيشها اليسار المغربي اليوم، فإن الأفق الوحدوي ما زال يشكل الحل الامثل والممكن لهذه الحالة، ذلك ان الكثير من الخلافات السياسية التي كانت وراء الانقسامات طوتها التحولات السياسية التي عرفها المغرب في العقدين الأخيرين سواء على مستوى القضية الوطنية الأولى, قضية تعزيز استرجاع الأقاليم الصحراوية خاصة بعد المبادرة المغربية حول الحكم الذاتي, أو على مستوى الموقف من المشاركة في المؤسسات والاستحقاقات الانتخابية بعد أن أبانت التجربة خطأ الموقف المبدئي القطعي الاطلاقي منها كما مورس سابقا وكان عامل تشتيت وانقسامات داخل الحزب اليساري الواحد…

ان معطيات عصرنا الموضوعية، وطبيعة المرحلة السياسية الراهنة وطنيا وإقليميا، تفرض على قوى اليسار المغربي التوجه بجرأة وشجاعة وصدق وإرادة نضالية نحو إعادة تأسيس اليسار على أسس فكرية وسياسية مطابقة لتلك المعطيات ولحاجات التقدم الديمقراطي. لنذكر بعض هذه المعطيات الحافزة على الوحدة بالإيجاز التالي:

_معطى العولمة , التي بغض النظر عن جوانبها الايجابية كظاهرة تاريخية تعكس درجة عليا في تطور التاريخ البشري , فإنها أضحت تهدد بآلياتها ومفاعيلها الكيانات الضعيفة , وتعمق الفوارق الاجتماعية بين الشعوب والطبقات, وتفاقم من جيوش العاطلين والمهمشين لصالح هيمنة الشركات الاحتكارية الكبرى على اقتصاديات العالم في إطار نظام الليبرالية المتوحشة. إن قوى اليسار العالمي المسنودة بمبادرات المجتمع المدني وقواه المتنوعة، هي وحدها المؤهلة اليوم لمواجهة الوجه القبيح اللاإنساني للعولمة ما يفرض بالضرورة حزبا يساريا قويا ومنظما (هنا وهناك ) يتوجه إلى كل الشعب بمختلف فئاته وطبقاته الوطنية دفاعا عن العدالة والمساواة والوحدة الوطنية، وعن الهوية المتعددة المكونات والمنفتحة على المستقبل وعلى قيم العصر الانسانية.

معطى ما يسمى “الربيع العربي”, الذي أبان عن ما تختزنه الشعوب من طاقات هائلة، شبابية ونسائية، قادرة على صنع التغيير، ومن حاجة ملحة إلى تنظيم وتأطير هذه الطاقات وقيادتها نحو أهداف ثوراتها النبيلة : اسقاط الاستبداد والفساد وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، مما يضع قوى اليسار أمام تحدي الحفاظ على الدينامية الثورية “للربيع العربي” وتحصينها من كل أخطار السطو عليها أو احتوائها . ان قطف القوى المحافظة لثمار “ثورات الربيع العربي” ( صعود الإسلاميين في تونس ومصر والمغرب إلى هرم السلطة ) كاف لوحده كمعطى سيسم المرحلة التاريخية القادمة لدفع قوى اليسار المشتتة والمتقوقعة على ذاتها إلى الشروع في إعادة صياغة مشروعها المستقبلي السياسي والثقافي الايديولوجي انطلاقا من مراجعة نقدية للتراث الاشتراكي في ضوء تراكمات المعرفة الإنسانية , وأخذا بعين الاعتبار لأهمية المسألة الدينية في هذا المشروع ,وذلك من أجل بناء ونشر ثقافة عقلانية وتنويرية حول الدين في مواجهة التأويل الرجعي المنغلق له ,والتوظيف المتعسف عليه في العمل السياسي والتدافع الحزبي .

معطى “الانتقال الدستوري”,بغض النظر عن اختلاف قوى اليسار حول الموقف من دستور فاتح يوليو 2011، الذي شكل ثمرة “الربيع المغربي” ومخرجه المتميز بفعل دور حركة 20 فبراير, فإن التفعيل أو التطبيق الديمقراطي لروحه التي تتجه نحو مفهوم جديد للملكية، كملكية مواطنة برلمانية، ونحو فصل أوضح بين السلط ، ونحو تكريس وتحصين الحريات الفردية والجماعية سيظل (التفعيل ) رهينا بالوزن السياسي والتنظيمي والجماهيري لليسار المغربي. إن تفكيرا جماعيا إستراتيجيا يتمثل طبيعة المرحلة القادمة ويبلور خطا سياسيا مستقلا وآليات تنظيمية لتقوية الروابط مع المجتمع هي مهمات راهنة ومستقبلية تقع على عاتق كل أحزاب وفصائل وتيارات وحساسيات اليسار المغربي كيفما كان موقفها من الدستور الجديد ,المفتوح على التطوير والتعميق لروحه الديمقراطية. ولاشك في أن عودة الاتحاد الاشتراكي الى المعارضة بعد 13سنة من التدبير للشأن الحكومي, ستزيل إحدى العقبات في وجه التقدم نحو الافق الوحدوي لليسار المغربي .

هذه بعض المعطيات الموضوعية التي تدين استمرار حالة الانقسام غير المبررة في المرحلة التاريخية الحالية والمقبلة بعد أن طوت السيرورة السياسية الواقعية الكثير من خلافات اليسار سواء في بعدها الاستراتيجي أو التكتيكي .

في القواسم المشتركة : إن ما يجعل من مطلب وحدة اليسار اليوم، مطلبا سياسيا وتنظيميا واقعيا ودعوة مطابقة لحاجات التقدم الديمقراطي للبلاد لا “دعوة رومانسية ” , هو قواسمه المشتركة إيديولوجيا وثقافيا وسياسيا وبرنامجيا , ويمكننا هنا رصد هذه القواسم المشتركة التي تشكل في مجموعها الأسس المتينة للوحدة المنشودة في :

– التاريخ النضالي المشترك : بتضحياته و إخفاقاته وبطولاته في الصمود والثبات في النضال من أجل بناء نظام سياسي ديمقراطي، ودولة الحق والقانون، ومجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة.

– التوجه الإيديولوجي الاشتراكي الديمقراطي : وهو التوجه الذي باتت متغيرات عصرنا، خاصة بعد انهيار التجارب الاشتراكية، تفرض على اليسار المغربي تجاوز الفهم الجامد الدوغمائي للاشتراكية كفكرة ومشروع ، والعمل على إغنائها في ضوء مستجدات العصر المعرفية والاجتماعية،وربطها عضويا بالديمقراطية باعتبارهما معا مشروعا واحدا في مواجهة المشروع الليبرالي السائد والمهيمن في الاقتصاد و الاجتماع وعلى وعي النخب السياسية النافذة اليوم. إن هذا التحدي الثقافي والإيديولوجي يستدعي من قوى اليسار ونخبه السياسية والفكرية مجهودا نظريا كبيرا من أجل إرساء الأرضية الفكرية والإيديولوجية التي تؤطر الممارسة السياسية اليسارية.

– الاختيار الاستراتيجي، لا شك في أن السيرورة السياسية لبلادنا قد جعلت اليسار المغربي، ومنذ منتصف السبعينات، يتحرر – تدريجيا- من ثنائية ثورة _ إصلاح، ويتبنى عن قناعة الديمقراطية “كوسيلة وغاية” مدخلا نحو تخطي البلاد لواقع الاستبداد بالسلطة، وتجاوز حالة التأخر التاريخي المزمنة إن هذه السيرورة، وبعد مخاض طويل ,استقرت اليوم _وبشكل واضح بعد إقرار الدستور الجديد _ على تبني مختلف أحزاب وفصائل اليسار لإستراتيجية الملكية البرلمانية كأفق يرتهن التقدم في ترجمته إلى مؤسسات وممارسات وفصل حقيقي بين السلط بقوة وموقع اليسار في المجتمع وداخل حقل التدافع السياسي والديمقراطي الحالي.

– اختيارات برنامجية متطابقة سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي منها على سبيل المثال : اختيار الاقتصاد المختلط مع الإقرار بضرورة قيام الدولة بالدور الريادي والوازن في قيادة قطار التنمية خاصة على مستوى المشاريع الكبرى المتعلقة بالبنيات التحتية والتجهيزات الأساسية , وعلى مستوى التحكم في التوازنات الاقتصادية، هذا إضافة إلى تطابق برامج اليسار في المجالات الاجتماعية خاصة فيما يتعلق بمحاربة الفساد واقتصاد الريع وإقرار نظام حماية اجتماعية حقيقية, ولاشك في أن استعادة المكانة المركزية للمسألة الاجتماعية في المشروع السياسي اليساري هو المدخل الرئيس لإعادة بناء جسور جديدة ومتينة بينه وبين المجتمع.

إن هذه القواسم المشتركة وغيرها التي تجمع موضوعيا وواقعيا بين قوى اليسار المشتتة، لتشكل قاعدة صلبة لتوحيد الرؤية والممارسة والإطار التنظيمي الواحد والمتعدد في آن واحد : متعدد الحساسيات والاجتهادات والخبرات والتجارب ,انها التعددية المنتجة والمؤثرة والفاعلة عكس التعددية العقيمة القائمة .ان كثيرا من الارادوية مطلوبة من طرف الجميع لبلوغ هذا الهدف , فالتجاوز الواعي والإرادي “للعوائق ألسيكولوجية ” والحساسيات الذاتية والحسابات المصلحية الضيقة الافق , مسؤولية جماعية تتوقف عليها أية خطوة جدية على طريق بناء حزب اشتراكي ديمقراطي جديد يجمع شتات اليسار على أساس مشروع سياسي وإيديولوجي وبرنامجي مطابق للحاجات الموضوعية للتقدم الديمقراطي والتنوير الثقافي .

إن مشروع قطب اليسار الاشتراكي الديمقراطي الموحد، كان وسيظل الجواب الذاتي لضمان نجاح البلاد في إنجاز كل المهمات الإصلاحية السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، لمرحلة الانتقال التي طال أمدها نحو نظام سياسي ديمقراطي وملكية برلمانية، ونحو تحقيق الأهداف الكبرى في مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية في إطار من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

إن طريق توحيد اليسار مفتوحة ومعبدة اليوم أكثر من أي وقت سابق… فهل تستجيب الإرادات؟ خاصة بعد أن أكدت التجربة أن تعدد فصائل اليسار لا يعكس في حد ذاته التنوع والغنى والديمقراطية ,وإنما لا يؤدي سوى إلى الهون والتآكل والعقم – وبالتالي – الى توسيع دائرة اليأس وسط الأجيال الحالية بكل ما يفضي اليه من تنامي مختلف النزعات العدمية والمتطرفة , وتلك اللامبالية بقضايا الوطن ومستقبله .

‫شاهد أيضًا‬

بيـــان المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم (ف.د.ش): يرفض الزيادة الهزيلة في الأجور التي اقترحتها الحكومة على المركزيات النقابية، ويشجب بأقصى عبارات الاستنكار الإجهاز الممنهج على مجانية التعليم العمومي من خلال القانون الإطار

  تدارس المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العضو في الفيدرالية الديمقراطية للشغل في اجت…