حقوق الملكية الفكرية في العالم العربي تواجه مشكلات معقدة نتيجة الاستثمارات الخارجية، ووصول العلامات التجارية العالمية إلى المنطقة.

عن صحيفة العرب  [نُشر في 12/09/2014، العدد: 9677

 

القاهرة- العقل البشري أضحى واعيا في ظل التقدم الذي أحرزته البشرية أنه لا مناص من أن يستثمر في نفسه ليضمن الديمومة للتنمية الفكرية التي تعدّ بوابة التنمية الاقتصادية والتطور العلمي. وعي يبدو أنه مازال عصيا على العقل العربي الذي لم يتملك بعد إدراكا كاملا لقيمة الاستثمار الفكري، رغم توفر الحلول المتاحة.

لطالما اعتبرت الفكرة أساسا لأيّ تطور إنساني، وكان العقل البشري أداة لا غنى عنها في ذلك التطور، فكل ما وصلت إليه البشريةُ من إنجازات وقدرات يرجعُ إلى استثمار المجتمعات والدول في التنمية الفكرية، وحماية الحقوق الفكرية لأصحابها ومؤسساتها، لضمان وجود دافعٍ للتفكير والتطوير يحقق التنمية الاقتصادية والتطور العلمي.

لذا فالاستثمارُ الفكري عامل مهم لدفع عجلة الإنتاج الاقتصادي المتمثل في تكنولوجيات الإنتاج، وصقل مهارات العمالة، وتحسين جودة التعليم. وعدم الالتفات إلى هذا النوع من الاستثمار -خاصة في دول المنطقة العربية – هو سبب رئيسي في تدهور عجلة الإنتاج المحلي، وعدم اتزان إدارة الاستثمارات، وتردي جودة التعليم، وسرقة الأفكار، وهو كذلك سبب رئيسي في هجرة العقول والإمكانات عن المنطقة، الأمر الذي يزيد الوضع تعقيدًا.

رأس المال الفكري، ماهو؟

يتطرق الباحث رياض بن صوشة في دراسة تحمل عنوان “الموارد الإستراتجية الرهان الأقوى لتميز المؤسسات الاقتصادية في ظل الاقتصاد اللامادي”،(صادرة ضمن منشورات المنتدى العربي لإدارة الموارد البشرية)، إلى تعريف نظرية “رأس المال الفكري” انطلاقا من نشأتها ووصولا حدّ تجليها النهائي، من خلال الوقوف على المراحل الثلاث الأساسية الثلاث التي مرت بها لتُكمل ملامحها.

هذه المراحل، حسب بن صوشة هي:

* مرحلة بدايات اهتمام الاقتصاديين بالقابليات البشرية (ق 17- 1964)

* مرحلة الوعي بالموجودات غير الملموسة (1986- 1991)

* مرحلة ميلاد نظرية رأس المال الفكري (1995- 2003) التي حددت ملامح هذه النظرية، حيث اعتمد مصطلح “رأس المال الفكري”، الذي يقصد به المعرفة التي يمكن تحويلها إلى ربح، وصيغت فرضيات النظرية ومبادئها.

من ثمّة، وبعد تكامل ملامح هذه النظرية أصبح بالإمكان تعريف رأس المال الفكري بأنه : “مجموعة من العاملين يمتلكون قدرات عقلية، عناصرها (معرفة، مهارة، خبرة، قيم) يمكن توظيفها واستثمارها في زيادة المساهمات الفكرية، لتحسن أداء العمليات المنظمة، وتطوير مساحة الإبداع، بشكل يحقق علاقات فاعلة مع جميع الأطراف المتعاملة مع بعضها البعض، و يجعل فرق القيم السوقية عن القيم الدفترية كبيرا.”

هذا بالأساس ما يجعل رأس المال الفكري لا يمثل عبئا على تكاليف أية منظمة ما بل يمثل استثماراً حقيقيا لها يدفع بها إلى الاستمرارية في النشاط و يمنحها مزايا تنافسية في السوق في ظل اقتصاد المعرفة القائم على أساس إنتاج واستخدام وتوزيع المعرفة والإفادة منها في الحصول على خدمات ومنتجات وطرق عمل جديدة توسع أسواقها الحالية بل وتفتح لها أسواق جديدة.

أما من الناحية النظرية، فيخلص الباحث كريم صالح، بدوره، في دراسة صادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، إلى أنّ الأصول الفكرية هي عبارة عن معرفة مجمعة (سواء كانت موثقة أو لم يتم توثيقها) من الأفراد سواء أكانوا منظمين أم غير منظمين في جماعات داخل المجتمع.

هذه المعرفة يمكن استخدامها لإنتاج الثروة، ومضاعفة الناتج من الأصول المادية، واكتساب ميزة تنافسية، ولتعزيز قيمة أنواع أخرى من رؤوس الأموال. ومن هنا،أصبح رأس المال الفكري يصنف على أنه رأس المال الحقيقي؛ لأن الاستثمارَ واستبدال الأفراد يرقى إلى الاستثمار في الآلات والمصانع، كما أن النفقات التي تتكبدها الدول في التعليم والتدريب (للحفاظ على صلاحية الأصول الفكرية) تعادل تكاليف استهلاك الأصول المادية.

ماهي محاور الاستثمار الفكري؟

يتلخّص استثماررأس المال الفكري، حسب دراسة كريم صالح، في خمسة محاور رئيسية هي:

* براءات الاختراع التي تتمثل في منح المخترع الحق في استبعاد الآخرين من صنع أو استخدام أو بيع أو عرض بيع واستيراد الاختراع لفترة محدودة من الزمن، في مقابل الكشف العلني عنه.

* حقوق الملكية الفكرية التي تُعطي حقَّ الطبع والنشر لمنفذ العمل الأصلي، وعادةً لفترة زمنية محدودة. وقد تنطبقُ حقوقُ التأليف والنشر على مجموعةٍ واسعةٍ من النماذج الفكرية، والفنية، والإبداعية، أو “الأعمال”.

* حقوق التصميم الصناعي، حيث تقع حماية التصميم المرئي، أو الرسم، أو النموذج الصناعي الذي يتكون من إنشاء الشكل والتكوين، أو تكوين نمط، أو اللون، أو مزيج من النمط واللون في شكل ثلاثي الأبعاد، يحتوي على القيمة الجمالية. كأن يتم رسم نموذج صناعي لإنتاج منتج أو سلعة، أو حرف يدوية صناعية.

* العلامات التجارية؛ وهي علامة التعريف أو التصميم أو التعبير الذي يميز المنتجات أو الخدمات.

* الأسرار التجارية: وهي الصيغة والممارسة والعملية والتصميم والنمط، أو تجميع معلومات لا يمكن التحقق منها بشكل معروف، والتي يمكن لأصحاب الأعمال الحصول على ميزة اقتصادية على المنافسين أو العملاء عند معرفتها أو استعمالها.

تُمثل هذه المحاور النقاط الأساسية في حماية الصناعات التي يترتب عليها النهوض الاقتصادي للدول؛ حيث توفر حماية براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية وحقوق التصميم الصناعي، الحمايةَ اللازمة للمصنعين والمبدعين والمخترعين من سرقة أعمالهم، وضمان التنافسية العادلة التي توفر بيئة خصبة للعمل.

مايمكن أن يعيق الاستثمار الفكري العربي؟

تواجه حقوق الملكية الفكرية في العالم العربي مشكلات معقدة لم يتم تداركها إلا منذ بضع سنوات نتيجة الاستثمارات القادمة من الخارج، ووصول العلامات التجارية العالمية إلى المنطقة، والتي تنص عقودها مع الوكلاء على حماية حقوق الملكية الفكرية لتلك المنتجات والصناعات، ومحاربة عمليات التقليد.

يتضح الأمر في صناعة البرمجيات والإنترنت في المنطقة، حيث أن عدم إدراك خطورتها والمعرفة الحقيقية بأبعادها دفع كثيرًا من مواقع الإنترنت العربية إلى فتح أبوابها لاستضافة مثلِ هذه المخالفات، والانتهاكات الصارخة والعلنية لحقوق الملكية الفكرية، لا سيما مع عدم وجود رادعٍ حقيقيٍ لأصحاب المواقع من نشر البرمجيات المقرصنة، واقتصار دور المنظمات والجهات الحكومية على ملاحقة متاجر بيع البرمجيات المقرصنة على أرض الواقع، وتجاهل العالم الافتراضي الذي بات يشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان في البلدان العربية.

في هذا الإطار تنعكس أصداء الآثار المرتبطة بهذا الموضوع سلبا على مجالات التوريد والتوزيع، وقياسا على ذلك صناعات أخرى في المنطقة. على سبيل المثال، دولة الإمارات البالغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة أنفقت خلال العام الماضي ما يقارب 2.7 مليار دولار أميركي على تكنولوجيا المعلومات التي تشتمل على أجهزة الكمبيوتر، وملحقاتها، والتجهيزات الشبكية، والبرمجيات، وخدمات تكنولوجيا المعلومات.

وقد شكل هذا الإنفاق 1.5بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، الأمر الذي أسهم في دعم أكثر من 4400 شركة عاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات، تضم ما يقارب من 33400 موظف متخصص في هذا القطاع، وساهم في تحقيق 670 مليون دولار كضرائب متعلقة بتكنولوجيا المعلومات.

ما الحلول المقترحة على مستوى العالم العربي؟

عدم وجود الوعي الكافي بأن الاستثمار الفكري يعد ركيزة من ركائز استقرار الصناعات بشتى أشكالها وسببا رئيسيّا في النهوض بالاقتصادات، وجذب الاستثمارات الخارجية، يعدّ إشكالا حقيقيا.

لذا فالحل يكمن في وجود آلية لتشجيع الملكية الفكرية، وضمان حمايتها ضد الانتهاكات، وتشجيع البحث والتطوير، وخاصة في الصناعات المحورية التي تعتمد بشكل جذري على الدراسة والأبحاث، وآلية أخرى لمراقبة الانتهاكات ومعاقبة أصحابها، لضمان وجود مناخٍ عادلٍ من المنافسة، مع حفظ الحقوق والاستثمارات الخاصة لمن قدموا براءات اختراع وتسجيلات للعلامة التجارية عن طريق وضع قوانين وتشريعات صارمة لهذا الغرض.

من جهة أخرى، فإنّ الجهات الحكومية لها دور مهم أيضًا في دعم الاستثمار الفكري عن طريق التوعية البناءة، وتسهيل إجراءات التسجيل لأصحاب الأفكار والصناعات، ومنح الدعم للشركات والأفراد الذين يتقدمون بطلبات التسجيل. كما يمكن أن يلعب الإعلام دورا في توعية المستهلكين بأهمية شراء المنتجات ذات العلامة التجارية المسجلة عن طريق إطلاع كافة شرائح المجتمع بالآثار الضارة لانتهاك العلامات التجارية، والتركيز أكثر على الوعي بشأن حقوق الملكية الفكرية.

تخلص دراسة الباحث الاقتصادي كريم صالح، الصادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، إلى أنّ الاستثمار الفكري في المنطقة العربية يحتاج إلى تعاون عدة أطراف تتمثّل في: الحكومة ممثلة في التشريعات والجهات الرقابية، وأصحاب الصناعات، والمجتمع نفسه؛ حيث أنّ هذا النوع من الاستثمار يساهم بشكل مباشر في التنمية الاقتصادية والبحثية للدول، لا سيما في مجال الصناعات والخدمات عن طريق عائدات الاستثمارات في التدريب والتطوير والبحث.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…