لقد تَتَبَعْتَ الرأي القائل بأن “تنظيم الخلافة الإسلامية في العراق والشام”، إنما تعود فيه المسؤولية إلى عنصرين :
1ــ عنصر الدولة العربية التي حكمت شعوبها كما هو معروف لديك ولدى عامة الناس، بالاستبداد السياسي، والجور الاقتصادي، والتهميش الاجتماعي، وتقوية كل أسباب الهشاشة والفقر، و”التضبيع” الثقافي والإعلامي ـــ على حد تعبير السوسيولوجي الفقيد محمد جسوس ـــ ،وإشاعة “قيم” الانتهازية والفردانية المفرطة.
2ــ عنصر الفهم الظاهري القاصر المنحرف واللاتاريخي للدين والقائم على الرغبة في حكم الحاضر بالماضي، مع الاستخفاف بالمكونات التنويرية التي يتضمنها التراث الاسلاميِ. قاد هذان العاملان : عامل تأثير دولة تغييب الحقوق وعامل التضليل الديني إلى بروز ظاهرة العنف المسلح الاقتتالي ، وهو العنف الذي تنبذه المناقشة الفكرية التي حرصت دولة الاستبداد العربي ليس على محاربتها فقط ، بل على محو كل ما يقيمها ويشجعها. ونحن هنا لا نقصد بالمناقشة الفكرية أن نعلم الناس كل الناس فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن رشد وديكارت ..لا! ليس هذا مقصدنا. إنما المطلوب أن نتسلح بأساليب هؤلاء وغيرهم كثير في المحاورة مع الذات ومع الآخر. تلك المحاورة القائمة على أن كل” فكرة “، هي فكرة قابلة للصواب كما هي قابلة للخطأ. (وأنت تعلم أن المسلمين حتى من ذوي التكوين البسيط ، يرددون دائما بخصوص “الصواب” و “الخطأ” قول الرسول : من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. فهو لم يقل من أخطأ فله ” القتل” مثلما نسمع ونرى اليوم.
وكما ترى فنحن أمام إشكال معقد، فمن جهة هناك الاستراتيجيات الخاطئة للدولة العربية المستبدة والفاسدة والحريصة على ممارسة الفساد بكل أشكاله، مما أعطى ويعطي للضلال التأويلي للدين كل المبررات لممارسة القتل والتقتيل وتقرير تكفير كل مخالف في الرأي. وهي الاستراتيجيات التي تسعى اليوم إلى حل المعضلة بمواجهة السلاح بالسلاح والعنف المضاد بالعنف، وهو توجه لا خيار لها في غيره. ومن جهة ثانية هناك هؤلاء الذين يبدون للناس، وهم حريصون على تصوير الأمر كذلك، يبدون كما لو كانوا خارجين من الماضي السحيق حين كان محمد يحارب من كفروا برسالته؛ وحين كان الخليفة الأول أبو بكر يحارب الممتنعين عن دفع الزكاة فقيل إنهم مرتدون؛ وحين كان عمر بن الخطاب (الخليفة الثاني) يوسع رقعة دولة الخلافة الراشدة؛ وحين كان عثمان بن عفان الذي اشتهر بمصحفه العثماني؛ وحين كان علي بن أبي طالب الذي عمل ما استطاع ليبقي المسلمين في خلافته موحدين لكن دون جدوى. هؤلاء انبعثوا من الحاضر الذي حكم فيه منطق المحو لكل من هو معارض، ونشر البؤس بكل ألوانه وخلق طبقات تعيش الحياة، وطبقات يُحْكَى لها عن الحياة،،،هؤلاء ليسوا غريبين عن الانقلاب الذي وقع في الجزائر في بداية تسعينات القرن الماضي، ولا عن المنطق الذي أقام سجن تازمامارت الرهيب ، ولا عن جبروت حافظ الأسد، ولا جبروت الذين شطبهم إما طغاة المحافظين الجدد بالولايات المتحدة في سخرية لاذعة من التاريخ أو شطبهم الربيع العربي الذي يجري اليوم تبخيسه من قبل أنظمة الخنوع الخليجي، أنظمة يملك الصانعون لمصائر شعوبها من الثروة النائمة في بنوك الغرب الذي يدبر بها شؤون جزء هام من دوراته البنكية، ثروة لو وُظف منها على سبيل الاستثمار النافع الثلث لقضي على البؤس الاجتماعي في كل خرائط العالم العربي بل وحتى الإسلامي. ومثلما تدرك ذلك جيدا، فقد خرجوا أيضا من سلسلة هزائم المسلمين أجمعين أمام إسرائيل التي كلما خرج قرار من قرارات ما يسمى الأمم المتحدة كلما انكفأت على قفاها، لا تملك نفسها من الضحك على مآل تلك القرارات. وبالطبع فأنت تدرك أنهم خرجوا أيضا من سخافة ما يسمى العدالة الدولية التي من أَغرب مساطرها مسطرة الفيتو الذي كلما استقامت قضية عادلة في العالم كلما رُفع ما يسمى هكذا “حق الفيتو”. وفي كلمة، لقد خرجوا من البؤس المعمم…البؤس الشامل. وأخيرا لا بد أنك تلاحظ أنهم يخرجون من الهوامش التي ترعاها دولة الاستبداد، ويكفلها مجتمع الانغلاق…
ويكفي أن تنتبه إلى أن هؤلاء لم يخرجوا من الموصل، بل جاؤوا إليها من الآفاق، كل الآفاق، آفاق البؤس دائما . هكذا كانت الحال على الدوام وعلى مر التاريخ، ينتقم المهمشون فيهجمون على المركز ومنه تنطلق دولتهم. ولا يهمهم شأن القانون الدولي لأنهم يعرفون أن هذا القانون ينتهي بالاعتراف بمن يثبت قوته في الميدان. فلقد عارض القوميون العرب تقسيم معاهدات (سايس بيكو) وهي كما تعلم، المعاهدات التي ثبتت الأنظمة والدول التي عوضت دولة الخلافة العثمانية. وبالطبع لم يعمل البريطانيون والفرنسيون الذين كانوا أصحاب الكلمة العليا في هذه المعاهدات على خط الحدود في معزل عن مصالحهم الاستراتيجية. وأنت تعرف بقية الحكاية التي كان مضمونها الأساسي قيام أنظمة فشلت في الكثير من الأشياء ونجحت في ضمان الاستقرار ليس عن طريق الديمقراطية كما كان يُفْتَرَض، بل عن طريق الاستبداد. أما الدول الغربية فلم يكن يهمها غير ضمان التوازن في المنطقة وذلك حفاظا على مصالحها وتنفيذا لخططها. والآن ها هي” دول جديدة” قيد “النشوء”، ويُخشى ألا تكون دولة في كردستان هي الوحيدة ولا الأخيرة التي ستضمن هذا “النشوء”. غير أن المؤكد هو أن الغرب لم يعد مستعدا اليوم كما كان بالأمس لإنزال جنوده كي يتركوا أرواحهم في ميادين اقتتال ، ميادين لا تُدر تعاطف شعوب هذا الغرب معها. وإذا كان المحافظون الجدد في الولايات المتحدة نجحوا بعد احتلالهم الظالم للعراق، وإشاعتهم الفوضى في المنطقة ، الفوضى التي جاء معارضو الربيع العربي لتغذيتها ظنا منهم أنهم سيوقفون التاريخ هكذا، نجحوا في تفتيت العراق، فإن المسلمين والعرب منهم خاصة ومعهم الإيرانيون ، هم من يحصد نتائج هذه التراجيديا الإنسانية التي قامت على قاعدة واحدة من بين الكَذْبَات الكبرى في التاريخ العالمي (كذبة أسلحة الدمار الشامل وهي الكذبة التي لا تنافسها سوى كذبة الصهيونية على يهوديي أوطان العالم)…
وكما ترى فإن مجمل الأحداث التي عرفتها وتعرفها المنطقة لا تُنْبِئ باستولاد ” دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام” فقط بل بتغير جزئي في موازين القوى الذي لن يدعه الغرب لإيران تصنعه على هواها، أما عرب المنطقة فلن يكون دورهم مختلفا عن الدور الذي يصنعه المحافظون الجدد في تحالف مع الصهيونية العالمية. قد يتغير قليلا هذا التحالف بفعل الوظيفة التي سيسمح بها لإيران، غير أن هذا التغيير لن يمس الثوابت التي تقوم عليها العلاقة بين الطرفين، تلك العلاقة التي من بين ركائزها تأبيد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتقسيم الأقطار العربية إلى دويلات طوائف، وقد هيأ الطرفان لذلك بالتخطيط والتنفيذ لجريمة 11 شتنبر وغزو العراق. والحقيقة التي هي قيد البروز والتي بدأت تظهر بعض معالمها اليوم، حتى وإن كانت غير ناصعة تماما، تفصح عن عودة ما لإيران الشاه رضا بهلوي، بالرغم من أن نظام الإمبراطور ليس هو نظام الجمهورية الإسلامية الخمينية. غير أن نفس القوة التي كان عليها نظام الإمبراطورية هي نفسها تقريبا القوة التي يتمتع بها نظام الملالي الأوتوقراطيين. ولا شيء يسعد الغرب أكثر من استعادة الوظيفة الدركية لإيران في المنطقة. وهي تتوفر بالفعل على كافة الشروط كي تسترجع دور دركي الشرق الأوسط تماما كما الشأن في عهد الشاه…
…والآن دعنا نرى ما هو الفرق الذي قد يدعيه هذا أو ذاك بين نظام تنظيم الخلافة الإسلامية، ودولة المملكة العربية السعودية من حيث تطبيق المساطر. فالمرأة في الجهتين يُنْظَرُ إليها من زاوية التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية، أي أنه يُنْظَرُ إليها كشيء وليس كإنسان، يُنْظر إليها بِدُونِيَة مقرفة ناتجة ليس عن فهم صحيح ومتفتح للدين ، بل ناتجة عن غلو ومحافظة غريبة عن العصر بل غريبة عن كل العصور. والمرأة ليست غير مثال. أما الأمثلة الفادحة فأنت تتبعتها وتتبعها كافة القراء. وكما تعلم فإن الغلو ليس خاصا بالدين الإسلامي. والغلو الذي يعادي منطق المحاورة الفكرية يشمل كافة الديانات. وكي نبقى في مثال المرأة تحديدا فإني أشير إلى مواقف وتصرفات التوجه الأورثوذوكسي اليهودي في إسرائيل تجاه المرأة، ذلك أن أصحاب هذا التوجه حين يصعدون مثلا إلى الباص يحرصون على أن يكون الرجال في مقدمة الباص وأن تكون الراكبات في الخلف، وذلك انطلاقا من المبدأ الديني اليهودي القائل بدونية المرأة. وشهيرة هي قصة الطفلة الصغيرة في إسرائيل ذات الثماني سنوات من عمرها والتي تعرضت للأذى بالبصق على وجهها البريء وهي متوجهة إلى مدرستها. وأما ” جريمة ” هذه الطفلة فهي ارتداؤها على حد زعم الجماعة المذكورة لباسا “غير محتشم” . والنتيجة أن الطفلة ـ مثلها في هذا مثل جميع الأطفال في العالم ـ عجزت عن الفهم، وقرنت ذلك بالذهاب إلى المدرسة فأصبحت كلما توجهت إلى مدرستها تصاب بخوف شديد يمزق أحشاءها كما وصفت هي نفسها الأمر للصحفي الذي جاء يستوجب أمها…
والحق أن هذا الجنس من المواقف الدينية إنما هو مآل لفهم منحرف للدين كما بينا مرارا وتكرارا…ولعلك تقِرُ معنا بأن أخطر ما في الفهم السطحي للدين الجهل به من حيث يظن الظان أنه الأعلم فيه. ومن الظواهر الغريبة في هذا الشأن تحريم أشياء لا تضر بالإنسان بل تنفعه. وحين تبحث في الينابيع العقائدية لا تجد لهذا التحريم نصا ولا حتى توجيها. ومن ذلك تحريمهم للفن. وقد راح ضحية هذا التجهيل بعض ممن اعتنقوا الإسلام مثلا. ولا أظنك إلا تتذكر قصة كات ستيفن الغريبة والطريفة معا. هو من بين أجمل المغنين في السبعينات من القرن الماضي. مؤلف موسيقي ناجح، وملحن موسيقي موفق. لكنه حين اعتنق الإسلام وهو شاب كان من سوء حظه وسوء حظ فنه أن أخذ برأي ممن يحرمون الفن دينيا والذين ينتمون إلى ما قد توافقني على تسمية جماعاته بتيار” الأصولية التمامية “، فانقطع الفنان الكبير عن الموسيقى والفن والغناء طيلة ما يقارب ثلاثة عقود من عمره. وحدثت واقعة غريبة وذلك حين عاد ابنه مرة إلى البيت ومعه آلة قيثار. ضحك ستيفن عاليا وهو يرى ابنه يقدم له الآلة الموسيقية الأخاذة، فما كان منه إلا أن شرع دون أن يعي في العزف والغناء. وهكذا عاد ستيفن مرة أخرى إلى فنه يبدع فيه كما كان دائما وهو في ريعان الشباب. وهو من صرح ردا على سؤال صحفي فرنسي بأنه اكتشف أن روحه مسكونة بحب الفن. والحق أن المغني الإنجليزي هذا إنما اكتشف الإسلام بنفسه في سياق تجربة إنسانية فريدة، تجربة روحانية خاصة. وهي التجربة الروحانية التي كان ينبغي أن تتم فيها المحافظة على علاقته بالفن والجمال، هذان المكونان للعمق الإنساني الرحب واللذين بدونهما كيف يمكن إدراك الحق. كلما سئل ستيفن كات عن سر اعتناقه الإسلام، أجاب بأن أرقى ما جلبه إلى الإسلام هو قيام هذا الأخير على “السلام”. اعتبر ستيفن ولا يزال على هذا الرأي إلى اليوم أن الإسلام هو السلام. ولا يهمه أن يكون هناك أناس ينتمون إلى الإسلام يدعون إلى العنف ويمارسونه غير عابئين بأن سلوكهم يشوه ديانة محمد. وغير خاف عليك مقدار الغباوة التي يقضي بموجبها ?تماميون)) تحريم الفن، وإنها لغباوة أَفْدَح وأَنْكَر أن يُبْعَدَ عن فنه فنان استثنائي محبوب في العالم كله بدأ مشواره الفني وهو في السادسة عشرة وما أن تجاوز العشرين من عمره حتى طفقت شهرته الآفاق وراحت ألبوماته تحقق نجاحا باهرا ، وتصل مبيعاتها إلى الملايين. خلال العقود التي انقطع فيها ستيفن عن ممارسة فنه الذي حقق فيه النجومية بالعمل والمثابرة (وهو القانون الوحيد للنجاح في كل شيء)، عمل على خدمة الأطفال والمسلمين منهم خاصة مقدما أعمالا خيرية فعالة ومفيدة حقا، ولا يزال…لقد أعاد ابن يوسف إسلام (هو ذا الاسم الذي اختاره ستيفن كات بعد اعتناقه الإسلام ، ولقد صرح أنه اختاره لأنه له علاقة بفهمه هو للإسلام على أنه السلام) أعاد أباه إلى فنه وهو ما لم تحصل معه القطيعة مع الإسلام ، بل القطيعة مع التصور التمامي للإسلام، وهو كما بينا لك إسلام تحريفي، يقوم على النبذ والإقصاء والكره والحقد العقائدي واللعنة ،لعنة الآخر. لقد عاد ستيفن كات إلى الغناء فزاده تألقا وازداد به الإسلام المسالم المعتدل ثراء.
وها أنت ذا تكشف معنا من خلال هذا المثال الذي اخترناه لك بعناية وبعد تفكير، دون غيره، كي نبين لك ولمن يغايرونك أن المحاورة الفكرية هي الطريق الأسلم لبناء الأنساق والتصورات والنظم بما في ذلك نظم الحكم…وهو الطريق الذي نقترحه على متطرفي المسلمين ونلح في ذلك إلحاحا. ولقد لجأ المسلمون في العهد الكلاسيكي للإسلام إلى هذا المنهج الذي هو عندنا منهج قويم من شأنه الالتفاف على نزعات العنف والنبذ واللعنة. فما يعوض اللعنة هو الحوار والذي تسبقه في العادة المحاورة مع الذات. ولا نظنك تنكر أن المحاورة مع الذات هي أولا، وبعدها يأتي الباقي الأفيد والأرقى والأهم.
عن ..ا/ش