عن صحيفة العرب .. بقلم /محمد الحمامصي …نُشر في 09/09/2014، العدد: 9674،

الخلط الحاصل في ما يتعلّق بمسألة العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدولة وتناقضها مع قيم الإسلام وشرائعه التي تصب في سياق تأسيس الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله، حسب دعاة هذا التيار وذاك، ما فتئ يثير جدلا واسعا بين الفريقين. وهو ما دفع ببعض المفكرين إلى التطرّق إلى هذه المسألة من داخل المنظور الإسلامي ذاته الوقوف على مقولاته والاستنتاجات التي يمكن أن يفضي إليها هذا المسار البحثي، الذي انتهجه المفكر السوداني عبدالله أحمد النعيم، الأستاذ بجامعة إيموري الأميركية، في كتابه “الإسلام وعلمانية الدولة” الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب.
يدعو كتاب “الإسلام وعلمانية الدولة” إلى موازنة الدين والعلمانية عن طريق فصل الإسلام عن الدولة مع تنظيم دور الدين في السياسية، بدل التضاد الحاد بين الدين والعلمانية الذي يعزل الإسلام ويحصره في المجال الفردي الخاص. ويرى الباحث أن هذه النظرة تجمع بين تتابع التسلسل المادي التنظيمي في المجتمعات الإسلامية وإصلاح هذه التقاليد وأقلمتها حتى تمثل الاحتمالات المعاصرة والمستقبلية لهذه المجتمعات، مؤكدا أن جدليته تحديدا تكمن في أنه ليس هناك شيء “غير إسلامي” في ما يتعلق بمفهوم الدولة المدنية كإطار ضروري لمفاوضة الدور الطبيعي والشرعي للإسلام في الحياة العامة، فالقرآن يخاطب المسلمين كأفراد وكمجتمع، دون حتى ذكر فكرة الدولة ومن دون وصف شكل معين لها.

في سياق متّصل، يضيف أحمد النعيم “أنّه من الواضح أنّ القرآن لا يقدم وصفة محددة لشكل الحكومة، لكن وكما أدركت القيادة المسلمة منذ البداية، فإن هناك ضرورة واضحة لشكل من أشكال التنظيم السياسي لحفظ الأمن وتنظيم العلاقات الاجتماعية

وهذه الفكرة يمكن دعمها وتأسيس مشروعيتها من وجهة نظر إسلامية، حيث أنها ضرورية للحياة الاجتماعية في أيّ مكان”.

وأيّا كان شكل الدولة الذي يأخذ به المسلمون من أجل خدمة تلك الأغراض الحيوية فسيكون مفهوما بشريا بالضرورة، سيكون بدوره علمانيا، “أي ماديا بشريا”، وليس إسلاميا مقدسا. ونفس المقولة صحيحة في حق نظام الحكومة الذي سيحكم عبر مؤسسات الدولة.

من جهة أخرى، يتساءل الباحث في كتابه عن كيفية ابتداع دولة ونظام حكم علمانيين بالطبيعة، يمكنهما خدمة أغراض الشريعة الإسلامية كأفراد وكجماعات بأفضل صورة؟ و يمضي في تساؤله طارحا مسألة تعايش المسلمين وتعاونهم مع المجتمعات الأخرى، على النطاقات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية، وعلاقتها بقلق غير المسلمين بشأن الدول والحكومات التي سيعيشون في ظلّها معهم؟.. ومن هنا فإن الكتاب يشكل محاولة لتوضيح منهج عملي لما يبدو من تناقض في الدعوة للفصل المؤسسي بين الإسلام والدولة، رغم الصلة اللازمة والدائمة بين الإسلام والسياسة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، حسب وجهة نظر أصحاب هذا التيار.

فكرة الدولة الإسلامية باطلة

أمّا في ما يتعلّق بفكرة الدولة الإسلامية، فيوضّح الباحث أنها فكرة باطلة من مرجعية المنظور الديني الإسلامي، ليس فقط بسبب فشل المحاولات المختلفة لإقامة هذه الدولة الوهمية عبر التاريخ، بل لأن هذا النموذج لا يستقيم عقلا ولا يصح دينا بحكم الخلل في جوهر الفكرة وليس فقط في عيوب الممارسة. ورفض وهم الدولة الإسلامية لا يعني إقصاء الإسلام بعيدا عن الحياة العامة للمجتمعات الإسلامية. حيث يضيف أنه “ومن أجل مستقبل الشريعة ذاتها لابد من الفصل بين الإسلام والدولة، مع تنظيم ورعاية العلاقة الطبيعية بين الإسلام والسياسة، فليس من الممكن أو المرغوب أن يحتفظ الناس في أي مجتمع بعقائدهم والتزاماتهم وهمومهم الدينية بعيدا عن خياراتهم وقراراتهم السياسية، لأن الاعتراف بدور الدين وتنظيمه كمصدر شرعي لتوجيه القرارات السياسية أكثر صحية وعملية من إجبار المنطق الديني على الانحصار في مجال السياسات الهروبية، لذلك أنا أؤمن أنه من الضروري أيضا أن نتحدى فوقية الشعار التجريدي للمنطق العلماني الخالص على المنطق الديني، حيث يصور الأخير كشكل جدلي أقل تماسكا وسلامة”.

وفي ذات السياق، يوضح أحمد النعيم أنه “من وجهة نظر تاريخية كانت حكومة المدينة المنورة في زمن النبي محمد (ص)، بطبيعة الحال نموذجا ملهما للقيم التي كان المسلمون يسعون لأجلها، مثل الحكم الذاتي والشفافية والمحاسبة العامة، لكن تلك التجربة لا يجب نقاشها كنموذج للدولة الإسلامية التي يستطيع المسلمون استنساخها بعد فترة حياة النبي، إذا لا يوجد نبي آخر بين ظهرانينا اليوم، والمسلمون لا يقبلون بهذا الاحتمال، لذلك فإن حكومة المدينة المنورة تلك لا يمكن تأسيسها في أي مكان أو زمان آخر، فعلى مدى التاريخ الإسلامي كانت الدولة دوما مؤسسة سياسية وليست دينية، رغم أنها لم تستوف ـ طبعا ـ نموذج الدولة المدنية. ولذلك فإنّ التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية عموما كانت واحدة من عمليات التمايز بين السلطتين الدينية والسياسية، حيث سعى الحكام إلى دعم الفقهاء والقيادات الدينية ليضفوا شرعية على سلطتهم السياسية، لكن السلطات الدينية ما كان بإمكانها أن تضفي تلك الشرعية لو نظر الشعب لها كظلال للدولة. بعبارة أخرى كان التمييز بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية ضروريا كما كان صعب الحفاظ عليه من ناحية الممارسة لكلا الطرفين.

هذا التنازع كان معناه أن أغلب نظم الحكم في التاريخ الإسلامي وقعت في تصنيف يقع في المنطقة الوسطى بين نموذجي الدولة “المدني والديني”، ولم يستطع أي من تلك النظم أن يحقق النموذج الكامل لالتحام السلطتين الدينية والسياسية أو انسجامهما مع بعضهما البعض، وفقا للمثل الأعلى الذي قدّمه النبي في عهده.

الدين لا يتناقض مع العلمانية

يلفت الباحث عبدالله أحمد النعيم إلى أن التحول الداخلي للأديان مهم جدا لبقاء التقاليد الدينية وشرعية تجربتها، ويرى أن كل رؤية أصولية يعتقد بها الناس اعتقادا جازما اليوم بدأت كبدعة أو هرطقة من وجهة نظر مذهب أصولي آخر، وربما استمرت هكذا إلى اليوم في نظر بعض أهل العقائد، حيث يقول ” الفصل بين الدين والدولة ضروري لحماية الميدان القانوني والسياسي من أجل أن يجري هذا التحول كلما دعت الحاجة إليه. فدون الدولة المدنية التي تسمح بحرية الاعتقاد والتعبير لن تكون هناك إمكانية للتنمية، وبمعنى آخر للحياة ضمن أي مذهب ديني، ولن تكون هناك إمكانية للسلام ضمن المجتمعات الدينية، لأنّ الدولة المدنية تقوم بحماية الإمكانيات الفعالة لمنع أيّة مجموعة دينية إقصائية ومتسلطة من تهديد المصالح الأساسية لأيّة شريحة من الشعب”.

وحول العلاقة التكافلية بين الدين وعلمانية الدولة، يقول الباحث أن “علمانية الدولة بحاجة إلى الدين الذي يوفر المصدر المقبول شعبيا للتوجيه الأخلاقي للمجتمع السياسي، إضافة إلى المساعدة في إشباع حاجات أهل الدين في ذلك المجتمع وتهذيبها، وهي من ناحية أخرى، بحاجة إلى علمانية الدولة لموازنة العلاقات بين المجتمعات المتباينة في معتقداتها وعقائدها، والتي تتقاسم نفس الرقعة السياسية. بعبارة أخرى، فإن الوظيفة الحيوية للدولة المدنية في تنظيم الدور الاجتماعي للدين نفسه يتطلب شرعية دينية عند أهل الأديان، وهو غير ممكن إلّا إذا انفتحت الأفهام الدينية التقليدية لعملية التطور وإعادة التفسير، فنحن بحاجة ـ من أجل أن يحصل ذلك ـ إلى ضمانات علمانية الدولة والحكم الدستوري وحقوق الإنسان والمواطنة.

غير أنّ هذا لا يعني أنّ المعتقدات الدينية للأغلبية يجب إلزامها على الأقلية أو على أصحاب الرؤى أو المواقف المختلفة في الأغلبية نفسها، إلاّ عن طريق قناعتهم وقبولهم الطوعيين عبر المنطق المدني. هذه المحدودية في قوة وحقوق الأغلبية، من ثمّة، هي ما أعنيه بضمانات علمانية الدولة والحكم الدستوري وحقوق الإنسان والمواطنة”.
في قسم آخر من أقسام الكتاب، يتساءل الباحث عن مآل الاختيار الحر والقناعة الدينية للمسلمين الذين يؤمنون بفكرة الدولة الإسلامية لفرض الشريعة عبر مؤسسات الدولة؟ هل يحرمهم تنظيم العلاقة بين الإسلام والسياسة، وفصل الإسلام عن الدولة، من حقهم في أن يعيشوا وفقا لالتزاماتهم الدينية؟ هل هؤلاء المسلمون مطالبون بالتنازل عن ـ أو على الأقل تأجيل ـ هذا الإيمان عندما يدخلون ساحة المنطق المدني؟ من ثمّة يسعى إلى تقديم إجابات عن هذه الاستفهامات السابقة، فيقول “طبعا من حق هؤلاء المسلمين تماما أن يعيشوا وفق الشريعة في حياتهم الخاصة، شريطة ألاّ ينتهكوا حقوق الآخرين.
ما يهمنا هنا هو زعم الحق في انتهاك حقوق الآخر”، وهذا الزعم الأخير سعى الباحث بقوة إلى تحديه من وجهة نظر إسلامية أصلية، من خلال الكثير من أقسام الكتاب.

الدور الاجتماعي للدين

كأمثلة على ما سبق، يتعرض الباحث لحالات الهند وتركيا وإندونيسيا والسودان، مؤكدا أنّ التأملات تكشف “أنّ الدور الاجتماعي للدين تتم مفاوضته وإعادة مفاوضته بصورة متواصلة بين المشاركين المختلفين، بما أن هذه العملية عميقة في سياقيها، ولكن على الرغم من ذلك، فإن الدور المعقد للدين في الحياة السياسية لأيّ مجتمع يجب فهمه في أطره المعرفية والسياسية والثقافية الخاصة. لذلك فإنّ استعمال مصطلحات كـ “علمانية الدولة” و”علمنة المجتمع″، قد يكون محبذا في تمييز المناهج المختلفة للدور الاجتماعي للدين، لكن مثل هذه المصطلحات لا يمكن أن تمثل بديلا عن التحليل السياقي العميق لكل ظرف بمصطلحاته الخاصة. إذ أنّه ليس هناك ببساطة تعريف عالمي للعلمانية على أنها فصل الدين عن الدولة، أو للعلمنة على أنها تقليص دور الدين في الحياة العامة.

فتجربة كل مجتمع على حدة مع أيّ من المصطلحين أو مع كليهما، منوطة بذلك المجتمع ودينه أو “أديانه”، ولا يمكن زرع تلك الوصفة أو تطبيقها في مجتمع آخر، لذلك نقول إنّ فصل الإسلام عن الدولة مطلوب من أجل المفاوضة النشطة والشرعية للدور الاجتماعي للإسلام وفقا لسياقه الخاص.

وعليه فإن نموذج الدولة الذي أدعو إليه في الحقيقة، يتطلّب خطاب تهيئة لترويج دور الإسلام في الحياة العامة.

لكن هذه العملية التفاوضية مرتبطة بضمانات الحكم الدستوري وحقوق الإنسان من أجل دور المنطق المدني في إعداد السياسة العامة والتشريع وترسيخهما.

فالحد الأدنى من العلمانية في فصل الدين عن الدولة هو الشرط الأول لأجل دولة أكثر ازدهارا وعمقا وقبولا للمفاوضة، والتي تتضمن أجهزتها الخطاب الدينية وتصبح بالضرورة معنيّة بكل مجتمع على حدة في سياقه التاريخي”.

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …