هذه فصول من كتاب (الإسلام والغرب .. حوار مطول قام به الفيلسوف الجزائري مصطفي شريف مع جاك دريدا). والكتاب عبارة عن حوار مطول ونقاش جمع المؤلف مع الفيلسوف الفرنسي عاما قبل وفاته في معهد العالم العربي بباريس في ربيع 2003 علي هامش اختتام سنة الجزائر في فرنسا خلال ملتقي خصص لتكريم كبار الوجوه التي كان لها دور في الحوار الحضاري، وهو عبارة عن شهادة عصرية تتناول العديد من المسائل ذات العلاقة بمشاكل العصر مثل الحوار بين الحضارات، العولمة، أسباب العنف والتطرف في العالم.
في الكتاب، تحدث الفيلسوف الفرنسي الراحل كجزائري مازال يحتفظ بفضل اللغة العربية التي طبعت طفولته عندما كان يستمع لتراتيل الصلاة الإسلامية التي تشبه الموسيقي . دريدا أكد تمسكه بجزائريته كواحد جاء قبل الاستعمار بحيث كان من اليهود الذين تجنّسوا بالجنسية الفرنسية طبقا لقانون كريميو عام 1870 ويعترف بالدور الذي قدمته الثقافة الجزائرية لاحتضان هذه الشريحة طيلة عقود من الزمن . ويري جاك دريدا أن من أسباب العداء الأبدي بين المسيحيين والمسلمين، هو تمسك كل طرف بنظرته المسبقة للأشياء . ويري أن الديمقراطية يجب أن تخرج من إطار القطرية والمفاهيم الجاهزة نحو مفهوم «المستقبل» ، كما يري أيضا أن مستقبل الحوار بين الطرفين يجب أن يخرج من إطار الثنائيات الاقصائية نحو فضاءات أرحب تبحث في المساحات المشتركة والأطر التي يمكنها أن تسع كل الأطراف .
لا أستطيع إلا أن أضيف : نفهم ما يقوله بسهولة . في هذا المعنى وللدخول إلى نقاشنا، إلى ما يلمس انشغالاتنا المشتركة، إلى الموضوع الذي يجمعنا، حاولت أن أبين من وجهة نظري أن الحضارة تنتمي إلى الجميع ولا ترجع إلى فرد بعينه . من اللازم أن تكون كل حضارة حقيقية، وهي متعددة وعالمية، مقبولة للجميع . على أقل تقدير، تمثل الشعوب الإغريقية والعربية واليهودية ثلاث لحظات تاريخية عظمي في حضارة البحر المتوسط . في الأمس، ساهم الإسلام في تكوين الحداثة ومقدرتها علي التحرير، فيما وراء انحرافات البعض، واليوم، من الممكن أن يساهم أيضا في البحث عن آفاق جديدة : لماذا لم يزل البعض ينغلق حتى اليوم في بناء صورة اختزالية عن الإسلام وثقافته، ويعارض بمنهجية ثقافة الشرق، التي يعدها نامية بالمقارنة بثقافة الغرب، المتقدمة ، حسبما تقسيماته المتعسفة، ويدعي أنه المتمدن الوحيد، باحثا دوما عن فرض قيمه بالقوة ؟ هل من المنطقي معارضة عالمنا ؟ كيف تتأسس مسؤوليتنا اليوم قبالة ماضينا ومستقبلنا ؟ قاطعني بلطف وقال : بالنسبة إلي هذه الأسئلة، وكما أفترض بالنسبة لمن تتبعها، تمنعني صعوبتها وأهميتها من الاجابة عليها جهويا وباستيعاب كلي. في كل مرة، أحاول، خلال نقاشنا، أن أجد خطا مائلا كي أتبعك أو أن أردد ذهنيا على الأقل الأسئلة التي تطرحها علّي . في بادئ الأمر، أعتقد في الواقع أنه من الظلم معارضة الثقافات، وأكثر من ذلك أيضا، من الظلم ومن غير المقبول، لأي من كان، أن يفرض رؤيته والتقسيمات المشكوك فيها بالعنف، الكولونيالي، الامبريالي أو غيره . أنا متفق معك على ضرورة الإلتزام بتفكيك البناء الأوروبي لموضوع الإسلام . المقابلة المتحصلة اتفاقيا بين الاغريق واليهود والعرب مشكوك فيها . نعرف جيدا أن الفكرين العربي والاغريقي امتزجا، في لحظة تاريخية معينة، بحميمية، ويتمثل أحد أول واجباتنا إزاء ذاكرتنا الثقافية والفلسفية في ايجاد التطعيم (Greffe) وهذا الإخصاب المتبادل، من الوجهة الفلسفية، بين الاغريق والعرب واليهود . أفكر في إسبانيا . أجد أن عائلتي سكنت الجزائر قبل الاستعمار وقدمت على الأرجح من هذه الاسبانيا، التي شهدت الفكر الاغريقي والفكر العربي والفكر اليهودي الذين امتزجوا بحميمية بالغة . وأعتقد أن إحدى مسؤولياتنا نحن كبار المثقفين، اليوم، تتمثل في إيجاد هذه المنابع وهذه اللحظات حيث أن هذه التيارات، بدلا من مقابلة كل واحدة بالأخرى، مخصبة بالتبادل . من جهة أخرى، لا أقابل الشرق بالغرب، على وجه الخصوص لما يتعلق الأمر بالجزائر . في البداية، الثقافة العربية والاسلامية أو العربيةالإسلامية للجزائر والمغرب هي ثقافة غربية . هناك صور عدة للاسلام، وهناك صور عدة للغرب .
أجبته : في الواقع، هناك مظاهر مشتركة يريد البعض أن ينكرها أو يمحوها، ولكن هناك أيضا اختلافات بين الثقافة العربية الاسلامية والثقافات اليهوديةالمسيحية والاغريقية الرومانية، أو كافة ثقافات العالم الأخرى، أنه ليس نفس المسار، نفس التجربة، أيا كانت الروابط والتشابهات على أكثر من مستوى . اسمح لي أن أسطر بأننا، على المستوي الداخلي، رغم المظاهر وانحرافاتنا المقلقة المعاصرة والأثقال المعوقة، لا نمتلك نفس المشاكل مع الغير، العالم، الدنيوة ” Secularisation ” والعلمانية علي سبيل المثال . نظرا إلى مرجعياتنا، هذا يجب أن يتأتى من الداخل، أو على أي حال، طرح مشكلات أقل عن نطاقات ثقافية أخرى وعن أديان أخرى . تناقضات وتفككات بعض الأنظمة العربية القديمة، من جهة أولى، وتناقضات وتفككات الحركات المتطرفة السياسية الدينية، من جهة ثانية ، كما تعرف، ليست من الإسلام، ونحن راضون بموضوعيتك النموذجية . فيما وراء المظاهر المشتركة للديانات التوحيدية و، في الأمس، الاسهامات المتبادلة لصالح الحضارة العالمية، بحيث يجب تقويم وحفظ وإحياء، من وجهة نظري، الإسلام الفريد بعمق. تبعا لذلك، ما يثير دهشتنا في ضفة الجنوب، يتمثل في أن الخطابات العقلانية المسيطرة المضادة للأديان، الخطابات الإلحادية، تسلط على الإسلام نقداً غير ملائم ونماذج غير وافية، مثل المطبقة على المسيحية والأساطير والمعتقدات الأخرى . الغرب، وإن ساهم في أشكال التحرر، يطالبنا أن نصطف أمام نموذج منزوع عنه صفة الإنسانية، يتبدي مزدوجاً، مثل صورة يانوس (3)، وغير متوازن، محرر إلى حد ضعيف، بالنسبة لنا ، مؤسس علي بديهية غريبة . للايجاز، سوف يكون العالم الوحيد الذي اختار الوظيفة المنطقية ضد البعد الأسطوري . وألصقه، هذا الأخير، إلى كل ما لا ينتمى إلى نظام العقلانية الضيقة . وكذا مقابلة أشكال الحياة وقيم الشرق، مثل ثقافة الإسلام التي، على الرغم من أن شطط بعض المسلمين أو المنتسبين إلى الاسلام، أثبت بلا تحفظ توجهها نحو الحق . ليس فقط كون عدم الفهم يتجاوز الحد، يتبدى الإسلام كأنه غريب، ولكن أيضاً، لم يزل للعقل الحديث صعوبات عظمي لتوضيح وحل أسئلة اختبار الحياة، من نحن ؟ لم نحن مقدرون ومحل اختبار ؟ كيف نتعلم الحياة، على وجه التحديد في إطار الخروج من دين الحياة ؟ بحيث تتحدث الحداثة، مثلا، عن الطبيعة، عن المعطيات الموضوعية، عن الكون بدون ذريعة وبدون هدف، بدلا عن الكلام عن العالم المخلوق، المنظم، العلامات المرئية وغير المرئية، لا تقلقنا بأي صورة من الصور . اليوم، نحن، بالأخص، متمردون، مصدومون، محبطون بعمق، من رؤية الثورة، الثورات، وعود التقدم، تحولت إلى تهديدات، إلى صورة منزوع عنها طابع الإنسانية، وفي نفس الوقت نرفض الاستماع إلى ترجمتنا عن الإنساني . إذا انتقدنا، الأكثر سلمية في العالم، الأكثر طبيعية في العالم، ثانية واحدة، الانحرافات، الأكاذيب، الرياء ، الصور الهجينة، القانون الأكثر قوة، سوف تنغلق الأبواب ونصبح متهمين بكل الشرور . ومع ذلك، في نفس اللحظة، ننتقد، أيضا، تناقضاتنا، تناقضاتنا التي تتفاعل بطريقة لا عقلانية، غامضة وعبثية بالنسبة لصعوبات الحياة، بالنسبة للسياسات ذات الثقلين، ذات المكيالين، بالنسبة لرفض الحوار والتفاوض . الاستغلال الوقح لهذه التفاعلات العمياء، لكي تخزي الآخر وتستمر في رفض الحوار والعدالة، لا نطالب بعالمية الديموقراطية، الحوار والتفاوضات، في المصلحة المتبادلة، لأننا نعرف أننا مبحرون، مأخوذون في نفس التيار . الديموقراطية، على مستوى العلاقات الدولية، وهي أملنا، تحدد بطريقة حاسمة الأوضاع الداخلية والعلاقات بين الشعوب، فيما وراء النوعيات . بالتالي، أين هي الديموقراطية العالمية والحوار، حيث أن كثيرا من الدعوات تردد حتى الشبع الكلمات ؟
يجيبني ديريدا بلطف، ولكن بصرامة أقل : كل ما أسميته عالمية الديموقراطية، مفهوم صعب جدا الاحاطة به، يفترض أن نفكر في الديموقراطية بطريقة مغايرة كما نموذج نظام سياسي محدد . أعتقد أن هذا يميز فكرة الديموقراطية عن جميع أفكار النظام السياسي، الملكي، الأرستقراطي، الأوليغارشي، الخ، بمعني أن الديموقراطية هي النظام السياسي الوحيد، نموذج بدون نموذج، يوافق علي تاريخيته، أي سيرورته، يوافق على نقده الذاتي، يوافق على اكتماليته . لديك كل الحق، هذا حقك الديموقراطي في نقد صور نقص، تناقضات، عدم اكتمالية نظمنا . أن تحيا في ديموقراطية، أي أن توافق على الاعتراض، وأن تكون محل اعتراض، أن تعترض على حالة الفعل، المسمى ديموقراطي، باسم ديموقراطية مستقبلية . ولهذا أتحدث دوما عن ديموقراطية مستقبلية . الديموقراطية، دوما، مستقبلية، أنها وعد وباسم هذا الوعد من الممكن دوما أن تنتقد، وتبحث عن ما هو معطي من الديموقراطية كفعل . تبعا لذلك، أعتقد أنه لا توجد ديموقراطية مطابقة لمفهوم هذه الديموقراطية المستقبلية . ولذا، من الواجب أن يتوفر الحوار فيها، بما أنك تتكلم عن غياب الحوار، لا يمكن أن يكون له مكان إلا في انفراجة هذه الديموقراطية المستقبلية، حيث يظل الحدث والوعد أمامنا . في كل لحظة، من النقد . الديموقراطية نظام اجتماعي، لكل مواطن يعيش فيه الحق في نقد، باسم الديموقراطية، حالة الأشياء المسماة ديموقراطية . وفي هذا الشكل نتعرف على الديموقراطية . الحق في قول كل شئ، الحق في نقد الزيف أو الديموقراطية المزعومة، باسم الديموقراطية المستقبلية . مفهوم الديموقراطية، واسمها، يتأتيان بداية من الثقافة الاغريقية، ولا أحد يستطيع إنكاره، وهذا ليس من قبيل النزعة الاغريقية المركزية، أو من النزعة الأوروبية المركزية سوى القول أن الديموقراطية تتأتي من الثقافة الاغريقية . ولكن الثقافة الاغريقية ضمت، منذ البداية، مفهوم الديموقراطية إلى مفاهيم أخرى تعمل الديموقراطية المستقبلية علي التحرر منها : مفهوم الموطن الأصيل، أي الميلاد على الأرض، أي الإنتماء عبر الأرض، مفهوم الأرض، مفهوم الدولة نفسه . ليس لدي شيء ضد الدولة، ليس لدي أي شيء ضد المواطنة، بيد أنني أتجاسر على الحلم بديموقراطية غير مرتبطة ببساطة إلى الدولة الأمة وإلى المواطنة . وبهذا الشرط سوف نتحدث عن ديموقراطية عالمية، عن ديموقراطية ليست فقط كوزموبوليتانية، وإنما عالمية . بالتأكيد، الكوزموبوليتانية تصور جدير بالاحترام للغاية، غير أنها تستدعي مع ذلك مفهوم الأمة والسياسة المرتبط بدوره بمفهوم المدينة Polis ، مثل دولة أمة وأقليمية Territorialite . فيما وراء النزعة الكوزموبوليتانية، هناك ديموقراطية عالمية، تمضي جيدا إلى ما وراء المواطنة والدولة الأمة . بالتالي، أعتقد أن حوارا سينفتح بين ما تطلق عليه غربا وشرقا، بين مختلف النطاقات الثقافية ومختلف النطاقات الدينية في العالم، إذا كان هناك تبادل، عبر الكلام، عبر الفكر، وليس عبر القوة، إذا كان التبادل، بدون اللجوء إلى القوة، ممكن، من اللازم أن يتحقق في أفق هذه الديموقراطية المستقبلية، غير المرتبطة بدولة -أمة، غير المرتبطة بالمواطنة، بالاقليمية . هو ذا شرط الكلام الحر، للتبادل، الذي أطلقت عليه حوارا . أستعمل قليلا كلمة حوار، حيث أن الدلالات الاضافية التعسفية أحيانا تكون معروفة . أقول الكلام الموجه للآخر المعروف كآخر، المعروف في غيريته Alterite . هذا الكلام الموجه للآخر يفترض حرية قول كل شيء، في أفق ديموقراطية مستقبلية غير مرتبطة بالأمة والدولة والدين، غير المرتبط بدوره باللغة . بالطبع، من اللازم معرفة واحترام ديانة الآخر، وكذا الاصطلاح التعبيري اللغوي للآخر . غير أنه من اللازم أيضا ترجمة، أي احترام الاصطلاح التعبيري للآخر و – عبر هذا الإحترام المرور إلى المعني، وهذا يفترض ما أسميته الديموقراطية العالمية . عبر هذا الاحترام، نمضي إلى المعنى، مما يفترض بالتالي ديموقراطية عالمية، أي ديموقراطية فيما وراء سيادة الدولة الأمة، الإقليمية، فيما وراء الاقليمية، وفيما وراء كافة التقنيات الحديثة التي تسمح بالضبط بتجاوز الحدود الاقليمية للتواصل، التي تنفتح علي قانون دولي جديد . لهذا، أنظر ملياً إلى حاجتنا إلى قانون دولي جديد . وحتى يكون الحوار الذي دعيت إليه ممكنا، بدون قيود، بدون استعمال القوة، نحن في حاجة إلى قانون دولي حقيقي، وكذا إلى مؤسسات دولية متجددة، محترمة، قادرة على فرض قراراتها، تعرف أن الأزمات التي نمر بها، قبل أي شئ، هي أزمات قانون دولي، أزمات سيادة مرتبطة بفقدان سيادة الدول الصغيرة وتعسف سيادة القوة الكبرى في آن معا . أضع سؤال سيادة الدولالأمة في قلب نقاشنا وأعتقد أن ما أسميته عالمية الديموقراطية من الممكن أن تجعل ما أسميته حوارا ممكنا، الذي ينقصنا اليوم، وهذا يمضي عبر قانون دولي جديد .
أخبرته بشئ عن قلقي. على اعتبار أننا مثقفون، ببساطة كائنات انسانية، نحن قلقون، نلاحظ أن العالم الحديث، الذي نصبو إليه، موسوم بعدد من الانحرافات . نعرف من جهتنا أن في ضفة الجنوب مقاومات للتغيرات، رفض لدفع الفواتير، وانحرافات تحت أشكال أخرى، انحرافات الإنغلاق، سواء كان سياسيا، اجتماعياً أو ثقافيا . أحيانا، يتعلق الأمر بمعارك المؤخرةArriere-garde . من الضروري أن نرتضي التطور، غير أننا نمتلك، كما أعتقد، حق الوقوف ضد تسلط نموذج ظالم . كونيا، لا خيار لدينا، الحداثة لا يمكن تجنبها، إلا أن لدينا الحق في نقد والسعي إلى تصويب، وتقويم وتعديل ما يتبدى لنا مخالفا لمصالحنا وقيمنا . من الواجب أن نضطلع بمتطلبات العالمي، بدون أن نفقد فجأة معالمنا . الرهان ضروري .
كيف نكون حديثيين بدون أن نفقد جذورنا؟ . كيف نرتضي بالتقدم تحت النموذج العالمي ونكون يقظين قبالة بعض انحرفات اللا عقلانية ، الناجمة عما أسميناه، اقتصاديا، الليبرالية الجديدة أو سيطرة الربح لأجل الربح التي تضر بمفهوم العدالة، ومن ثم، على سطح المعنى، خروج الدين من الحياة ، أو نهاية الأخلاق الموروثة من قبل التوحيد، وضعية تضر بالأخلاق والهوية ؟
تعمم الحداثة هيمنة العقل، الدنيوية وتحرر الطاقات : أمر ايجابي . ولكن ثلاثة انحرافات من جملة هذه الانحرافات يتبدى لي أنها تستلزم اجابات، ملطفات وبدائل، إذ أنها موسومة باختلالات وتناقضات المستويات، أخلاقية لأجل التوازن الانساني، في حين أن الاسلام يبحث عن التمفصلات، التماسك والتوازنات، لئلا يتم الخلط إطلاقا بين مختلف المستويات ودائرة الحياة . على سطح المعنى، النقطة المثيرة للقلق هي الأخلاق . هناك روابط بين مفهوم المواطن الحديث والمعنى الذي يجمع بين شعوب الديانات الثلاث، والمسلمين على وجه الخصوص . ليست نهاية العالم، وإنما نهاية عالم .
كيف نبتكر حداثة تتخلص من كل انغلاق وعبادة أوثان، بالربط بين الزمني والروحي؟إذ أن، اليوم، ظاهريا، الحداثة ليست ببساطة الدنيوة، العلمانية التي يحثنا دريدا عليها، وإنما نزع طابع الانسانية، محو الروحانية، إلغاء الدلالة . على السطح السياسي، الجسد الاجتماعي، تحت نير الرأسمالية، محمل بمستوى القتل . هذا النزع للتسييس، من وجهة نظري، لا مثيل له : يعيد اتهام إمكانية صنع التاريخ، أن نكون شعبا مسؤولا . في العالم المتقدم، رغما عن النقاشات، عن شرعية المؤسسات، عن هيمنة حقوق الانسان، إمكانية العيش كمواطن مسؤول، مشارك في البحث الجمعي والعام عن العدل والجمال والحق، يتبدى أكثر فأكثر إشكاليا . لا نمتلك وجودا سياسيا بالمعني الحديث ولا بالمعني الابراهيمي . إنها وضعية متفاقمة من خلال ممارسات الأقوياء الشرسة وردود الأفعال الاستشهادية للضعفاء . على سطح المعرفة، من وجهة نظري، ننضم إلى اتهام إمكانية التفكير، والتفكير بصورة مغايرة . تهدف العولمة إلى السيطرة على كل شيء بواسطة الاستغلال الجيد للعلوم الرياضية، المدركة بكونها العلوم الملائمة للتطور، وذي شكل من أشكال النزعة العلمية . ويعتبر اختزال قابلية الارتضاء بالتفاعل الثقافي وتفاعل الأنظمة والانحرافات المادية في استغلال الطبيعة من آثارها .
وتبعاً لذلك، أسألك بصيغة جوهرية، تعد ثلاثية النزعة العلمانية، النزعة العلمية، الرأسمالية ، صور الغرب الحديث، وتتبدى لنا كمصادر عدم التوازن، والمشاكل العميقة، كيف السبيل إلى مواجهتها ؟
سوف أمنح وضعاً مميزاً، كما قال، لسؤالك عن هذه الكلمات الثلاث التي جمعتها تحت مسمى الثلاثية الغربية، لا أعرف إن كانت هذه هي الثلاثية الغربية، ولكن علي أي حال سأحفظ هذه الكلمات الثلاث، سوف أقرأ هذه الكلمات الثلاث : النزعة العلمية، النزعة العلمانية، الرأسمالية . في بادئ الأمر، النزعة العلمية، شيء بغيض، ليست العلم، العلماء، أناس العلم . الممارسة العلمية مسلوخة من العلم . النزعة العلمية، تأكيد وضعي للسلطة العلمية، وليست المعرفة ولا العلم . بالتالي، النزعة العلمية أمر سئ . بالمقابل، النزعة العلمانية، أعتقد أنها تستدعي تغيراتها، وأعتقد أن هذا الشأن يجري في فرنسا اليوم . أري إلى أن الديموقراطية، التي تكلمت عنها قبل قليل، تفترض العلمانية، أي تحرير السياسة من الثيوقراطية والتيولوجيا في آن معا، وبالتالي شيء من دنيوية السياسة، وفي نفس الوقت، بطبيعة الحال، وبطريقة متماسكة، ناتجة عن حرية العبادة، الحرية الدينية المطلقة، التي تضمنها الدولة . بالطبع وعلى شرط أن الفضاء العلماني للسياسة والفضاء الديني غير ممتزجين . أرى إلى أنه من اللازم اليوم ألا تمتلك العلمانية هذا النوع من الاكراه الحاد مع نفسها وأن تكون أكثر تسامحا مع الثقافات الدينية ومع إمكانية أن تكون الممارسات الدينية مؤكدة بحرية ، بدون غموض وبدون لبس . بطبيعة الحال، الفرد مستقل في مجتمع ما، ولست متأكدا من معرفة ماهيته بصورة جيدة . الفرد المستقل، ذات تمنح قانونها بنفسها، ذات مطلقة، وهنا أيضا سأعمل على أن أوضح كون الحرية، حرية الفرد تفترض أيضا نوعا من التبعية، أي تفترض نوعا من قبول قانون الآخر . القانون، دوما، قانون الآخر، بطريقة ما . غير أن هذه التبعية لا تفترض أي استعباد، والطائفة الدينية من الممكن أن تنظم صفوفها، كطائفة دينية، في الفضاء العلماني، بدون أن تجتاحه، باحترام حرية الفرد . بقول آخر، شخصيا، ولكن ربما أكون بصدد ترجمة رد فعل فطري شخصي، إذ أنني دوما قاومت نزعة الطائفة الدينية، أي شكل الطائفة القطيعية، التي تضطهد الفرد، وتمنعه من التصرف كمواطن . من الممكن أن يكون المرء دينيا، أليس كذلك، ومن ناحية أخرى، أتفاعل كمواطن علماني، وبدون الشعور بكوني فردا من قطيع الطائفة الدينية . تتحدث، إذا، عن الروابط بين المستويين . يتمثل ما هو صعب فصله في إشكالية ما هي عليه فرنسا اليوم، ولكن ليست فرنسا بمفردها . أنها مشكلة الفصل السلمي والممكن بين حرية الفرد أو المواطن، وانتمائه إلى طائفة دينية، بدون أن يكون الانتماء إلى الطائفة الدينية تعسفيا، مكتسحا أو قمعيا . وأعتقد بمسؤولية الدولة، لأن كل ما قلته لتوي حول موضوع أفول أو أزمة الدولة الأمة المطلقة لا يمنعني من التفكير في احتياجها إلى الدولة، ولست مناهضا للدولة . أطرح على نفسي أسئلة حول موضوع سيادة الدولة وأصلها، زد على ذلك أنها نفسها تيولوجية . أرى إلى أن مفاهيم السياسة التي نحيا عليها هي مفاهيم تيولوجية ذات طابع دنيوي، وبالتالي أطرح على نفسي أسئلة حول الأصل الديني لفكرة السيادة وحتى فكرة الدولة، ولكن بطرح هذه الأسئلة، لا أقف قبالة وفي مواجهة ضرورة الدولة . الدولة، في بعض الظروف وهي هذه الظروف الواجب تقويمها في كل مرة، هي هذه الظروف الواجب أن تأخذها بجدية – ، الدولة من الممكن أن تكون ضامن العلمانية، أو ضامن حياة الطوائف الدينية، الدولة من الممكن أن تقف قبالة القوى الاقتصادية، قبالة التكتلات الاقتصادية الطاغية، قبالة القوى الدولية المرتكنة على قوى اقتصادية . تبعا لذلك، لا أعتقد أن الدولة شريرة بذاتها، وإن تابعنا بلا توقف طرح أسئلة سيادتها، أصولها النظرية الجوهرية، وهي ذو صعوبة، ما أطلقت عليه التفكيك، أي إجراء هذين الفعلين في آن واحد : طرح الأسئلة، على سبيل المثال حول الجينيالوجيا التيولوجية لمفاهيم السياسة التي تنظم الفكر الغربي، الفكر الأوروبي علي وجه التحديد، من جهة أولي، وحفظ بقاء هذه المفاهيم التي نحن بصدد طرحها أسئلتها وتفكيكها، في سياق محدد، قابل للتحديد، من جهة ثانية . بطبيعة الحال، لن نتجنب هنا الأسئلة التي طرحناها، الأسئلة التي تتموضع بين الغرب، ما أطلق عليه الغرب، وهو تصور من اللازم تقسيمه الغرب الأوروبي ليس هو الغرب الآمريكي – ، والشرق، الواجب أيضا تقسيمه، لأنه ليس ببساطة العالم العربي-الاسلامي فقط . ومع ذلك، في هذه الأسئلة، أفكر في كون شرط ما أسميته حوارا، الكلام الموجه للآخر بدون عنف، يتمثل في القبول المشترك لهذه الديموقراطية المستقبلية التي تكلمت عنها من فوري، التي تفترض التفكيك، السؤال التفكيكي المطروح حول سيادة الدولةالأمة، الدنيوة الأصيلة للسياسة، أي الفصل بين الثيوقراطي والسياسي . أعتقد أننا يجب، وهنا أتكلم باعتباري فرنسيا، غربيا، فيلسوفا رغم كل شيء غربيا، أعتقد أننا من الضروري أن نتأمل أثرنا الأول الذي يرمي إلى أن نرتبط بما هو داخل العالم العربي والاسلامي علي أمل تطوير فكرة دنيوة السياسة، فكرة الفصل بين الثيوقراطي والسياسي . وهذا بالتأكيد من خلال احترام السياسي ولأجل الدمقرطة، كما هو الحال لأجل احترام العقيدة والدين . من الناحيتين، ننجح في التوصل إلى الفصل بين الثيوقراطي والسياسي . وبالطبع، يفترض تغير مفهوم السياسة، وعلى وجه الخصوص التساؤل حول ما أطلقت عليه دنيوة هذا المفهوم، مفهوم السياسة، الذي يظل من بين العديد من المفاهيم، الأكثر جوهريا في الفكر السياسي، الغربي، والذي يعتبر تيولوجيا كليا .
في هذه اللحظة التي أخذ يتكلم فيها عن الرابطة، الموضوع الذي يثير اعجابي، لكي يستطيع أن يحقق الترابط المنطقي بين التقدم والنوعية، قررت أن أبلغ السؤال الجوهري عن العلاقة بين الأصالة والتقدم .
على السطح الثقافي، نعرف أن هوية واحدة غير مجمدة . أنه تعبير العلاقة مع الزمن، مع الفضاء، مع القيم . نحن الآخرين، المسلمين، نحاول أن نربط، أكثر من الآخرين على ما أعتقد، ما نطلق عليه القيم الدائمة التدفق بالقيم المتطورة، بالتالي الأصالة والحداثة، أنه همنا وتحدينا . تسمح القيم الروحية وتجربة العقل النقدي لنا بالحفاظ على إشارات مفتوحة على علاقاتنا مع الآخر، علاقاتنا مع العالم، العلاقة مع الذاكرة، مع التطور، مع الحياة والموت .
ومع ذلك، الجزائر، على سبيل المثال، التي تحتل موقعا جيوسياسيا مميزا كمفترق طرق والتي دفعت دوما ثمنا باهظا لكي تكون حرة، بلد عربي ومسلم ومتوسطي أيضا، وقد فقدت كثيرا من تابوهاتها، جديرة بأن تحقق توليفة مأمولة تجمع بين الحداثة والأصالة . اليوم، نريد أن نضطلع بمتوسطيتنا، عالميتنا، مع اليقظة بأن لا نفقد عددا من معالمنا المرتبطة بالجذور، بإرثنا التاريخي والحضاري . لا حضارة ولا مجتمع يستطيعان العيش في ظل نظام اكتفاء ذاتي، في انغلاق، ومرجعيتنا تتطلب، وليس فقط تسمح، باستقبال واحترام الآخر المختلف . ولهذا السبب نحن مرتبطون بقوة بالضيافة والتبادل والمفاوضة والنقاش المتعارض . وعبر الحوار نكتشف معتقدات الآخرين ونراجع مصداقية مشاريعنا . لا شيء معطي سلفا : لا الحداثة ولا المعاصرة . وهذه العلاقة بين الحداثة والمعاصرة، الوحدة والتعددية، المردودية العلمية الحديثة والقيم الأخلاقية، علاقة تؤسس مجتمعا .
بالتأكيد، من الصعب الربط بين المعني والمنطقي، وربطهما معا . دوما ندوالهما . لا نريد أن نتخلي عن إمكانية الحفاظ على الأخلاق والقيم والواجبات الأدبية . إذ أن الحرية، المعنى والعدالة، بالنسبة لنا، ألفاظ مترابطة . وهذا يعني أننا نعتقد بقوة، كما سطر جاك ديريدا، أن التعددية، اختلاف الثقافات وأنماط الحياة تستحق أن تكون مصونة ومحفوظة حية . نعتقد أن التقدم كلي أو لا تقدم . يرى الاسلام إلى أن الانسان كل، والانسان يرى نفسه كمقاربة كلية ومطلقة لهذه الكلية، وبالمحافظة، نظريا، على هذه الكلية، يجازف أن يغلق عليها كافة الأنساق والأصول .
من الممكن أن يساهم الاسلام في البحث عن عالم متوازن، أي غير منزوع الطابع الانساني عنه، أكثر عدلا وأكثر رشدا . يتموضع أيضا قبالة الالتباس القائم بين السياسة والدين، غير أنه لا يتناولهما من وجهة النظر القائلة بأن الحياة الحديثة لا تتحول إلى شيء لا ديني، شيء لا سياسي، وكل شيء سلعة . الاسلام شريك غير نمطي، فريد وأصيل، من حجرا لصرح عالمي جديد في طور البناء .
على المسلمين أن يبدأوا بالقيام بثورتهم الداخلية، على مرأى التغيرات بما أنهم الملاحظون أو على أقل تقدير الممثلون النشطون إلى حد ضعيف، على خلاف أجدادنا وأسلافنا الذين حققوا التاريخ واضطلعوا بمسؤولياتهم الذهنية والطبيعية والدينية، بدون أن يخلطوا أو يعارضوا هذه الأبعاد، أبعاد الحياة المختلفة . اليوم، لا نستطيع أن نستمر في ارتضاء الانهيار الذي خففه الزعم وتكامل التكنولوجيا والرياضيات المنتمي إلى الحداثة، ورنما ليس إلى الحداثة الأصيلة . من الممكن أن تفضي الأصالة إلى العالمية وإلى الثقافة العبرة القومية:أيا كانت الطرق التي نمشيها . من خلال الحوار، نستطيع أن نبلغ كونية جديدة . بمفردنا، أمر مستحيل . في كافة حالات الصورة، يبدأ المسلم المعاصر يتساءل لكي يجدد لأجل، ورغما عن الحداثة، نمطا آخر خاصا نابعا من ذاته . لا نستطيع أن نكتفي بالثرثرة عن الذات أو تقليد الآخر .
وجهت اليه سؤالي : ونحن نعرف أن العالم، إذا كان موحدا، يجب أن يكون متعددا ويحيا حسب الأنماط المتعددة، على خلاف من يخشي حق الاختلاف، ألا تعتقد أن الحضارة المستقبلية ستكون متعددة أو غير متعددة ؟
بدون تردد، قال لي : أعتقد أن التعددية هي جوهر الحضارة نفسها . التعددية، أريد أن أقول الغيرية، مبدأ الاختلافات واحترام الغير هي مبادئ الحضارة . بالتالي، لا أتخيل حضارة عالمية متجانسة، سيكون هذا مضادا للحضارة . نعرف اليوم، على سبيل المثال، أن عددا كبيرا من اللغات يختفي كل يوم، لا أتذكر أية أرقام، غير أنني أعرف أن مئات اللغات والاصطلاحات التعبيرية على وشك التلاشي، وأن هيمنة لغوية مرعبة علي وشك أن تستحوذ علي الأرض وهي نقيض الحضارة . من اللازم أن تكون الحضارة متعددة، من اللازم أن تضمن احترام وفرة اللغات، الثقافات، المعتقدات، أنماط الحياة . وفي هذه التعددية، في هذه الغيرية، لا أتكلم عن حل، إلا أن فرصة المستقبل ممكنة لنا، في ظل التعددية والوفرة . واحترام هذه الوفرة والتعددية صعب، لأنه علينا تثقيف الاصطلاحات التعبيرية . وما أطلق عليه الاصطلاحات التعبيرية، هو تميز لغة الآخر، أي شعر الآخر . ليس هناك شعر وانفتاح بدون اصطلاحات الآخر التعبيرية . من اللازم احترام كل فرد، وليس فقط الاصطلاحات التعبيرية القومية، ولكن اصطلاحات كل فرد، طريقة الكلام، الوجود والاشارة، وفي نفس الوقت الاتصال، والترجمة . تبعا لذلك، من اللازم الترجمة . أثر الترجمة غير متناقض، على العكس، من الضروري احترام الاصطلاح التعبيري . والاصطلاح التعبيري، أساسا، غير قابل للترجمة . ولكن ما هو غير قابل للترجمة يسمي ترجمة . بالنسبة لهذه الحضارة المتعددة التي تتكلم عنها، من اللازم توفر ثقافة الاصطلاح التعبيري المتميز والقابلية للترجمة، أي التدويل . من اللازم الامساك بهما، أمر صعب، وفي بعض الآحايين مستحيل، بيد أنه شرط هذه الحضارة العالمية التي تتكلم عنها . الرهانات، أيضا، حادة في عالم اليوم، رهانات جديدة، تستدعي انعكاسا جديدا علي ما يريد العالمي أن ينطق به . أذكر حق طرح الأسئلة النقدية، ليس فقط علي تاريخ هذا المفهوم أو ذاك، ولكن أيضا على تاريخ تصور النقد، في الشكل الاستفهامي للفكر . لا شيء يجب أن يبقي بعيدا عن المساءلة، وحتي الفكرة التقليدية عن النقد . من الواضح أن النقد، التفكيكية، عمل الفكر تنادي بالجمعي وتعددية اللغات، الثقافات والخصوصيات .
جوهر فلسفته، فيما يتعلق بانشغالاتي، يتبدي : عمل الفكر، بدءا من مكاني، ممكن . هذه الضرورة، المحملة بكثير من الأمور العدوانية التي نتظاهر بنسيانها، أساسية، بالنسبة لغير المسلمين والمسلمين على حد سواء، من الحيوي أن نتذكر أن أحدا لا يمتلك احتكار العالم . اليوم، يتبقي العمل معا لإيجاد عالم مشترك . مضت أكثر من ساعة ونصف الساعة، منذ بدأ لقاؤنا . لا أريد أبدا أن أسئ إلى كرمه . سأقرر أن ألخص وجهة نظري . أقول : في الواقع، من الملح أن نبحث معا عن حضارة عالمية تغيب عنا . على الرغم من التقدم الخارق، لا توجد حضارة اليوم . القيم الابراهيمية، من ناحية أولي، والديموقراطية، من ناحية أخرى، تتناقص قيمتهما أكثر فأكثر . خطر تفاقم صور عدم المساواة ونزع طابع الانسانية أحد سمات عصرنا . الآداب، الأخلاق والقيم الروحية خرجت من الحياة . مواطن ضفة الجنوب يتمني أن يعرف جاره، مواطن ضفة الشمال، كما درجنا علي تسميته، بمصطلحات النقد الذاتي : أولا أن التطرف السياسيالديني ليس من الاسلام، ?حتي وان تكلم المتطرفون بلاءاتهم . هذا تعد . غالبية ضحايا هذه الوحشية من المسلمين أنفسهم .
في بلدي الجزائر، نعرف كل هذا، لأجل القضاء عليه، بفضل أننا لم نخلط بداية بين النزعة الاسلامية والاسلام وأيضا بين الارهاب والاسلام . في الأمس، كما تعرف، معركتنا المضادة للكولونيالية لم تخلط بين الدولة الكولونيالية والمسيحية . ثانيا، الأنظمة العربية، التسلطية ، فيما وراء خواصها المتنافرة، وجهود بعضها للاصلاح، ليست المجتمع الذي، في غالبيته، يصبو إلى القيم الديموقراطية العالمية . يتبقي العمل علي التغيير، بالمفاوضات الداخلية، وليس بالتدخل . لا شيء، بالنسبة إلى مراجعنا، يقابل الحرية كجوهر الوجود. ثالثا، التيار المسمي الحداثي، رغما عن معارضته للقوى المعارضة للتقدم، لا يمثل الشعب الذي يبحث عنه والحداثة والأصالة والتقدم بدون أن يفقد جذوره .
يتعلق الأمر بالنهوض بالتغيرات، بدون المضي غربا، كنموذج في أزمة، لم يتحمل مسئولياته، لا يعرف أن يعلمنا القيام بمواجهة انقباض المعني، الذي يعد إظهارا للمعنى، هروبا للأفق، غياب الالهي أو خروج الدين من الحياة، وهي حركة أنتجها، رسمها ونظمها . بالتفاعل، على السطح الداخلي، نقابل : الايديولوجيا السياسيةالدينية التي تمارس الانغلاق، بذريعة أنها ترد علي الظلم، عنف القادرين، غياب المعنى، الأنظمة القائمة الساعية إلى تخليد ديموقراطية المظهر، خوفا من عدم الاستقرار، أو بشهية نهمة للسلطة، الحداثيين المقطوعين عن الجماهير، الخاضعين إلى نزعة الغربنة الجامحة أو الليبرالية المتوحشة، بدعوى التحرر .
علي السطح الخارجي، بسبب ارادة الهيمنة وأنانية بعض الغربيين، الذين تغذوا على التفوق التكنولوجي، قوانين السوق وتراجع المعارف المتبادلة، كانت صور العجز : تشوه قيمنا، السياسة ذات المكيالين، المعيارين، رفض أو تردد ضفة الجنوب في الالتزام بحوار حقيقي، تخيل مفاوضات حقيقية وتقصير معلوم للمساعدات المتوجهة إلى الجنوب . الفوضي العالمية، الموسومة بتراجع القانون، تتعلق بالعالم بأسره . والأزمة أزمة قانون دولي .
بالحوار مع جيراننا، بدون عداوة، بمساعدة روابط أكيدة، كما معكم، أنتم العابرون بين ضفتين، كما قال هذا الفرنسي جزائري الآخر جاك بيرك، من الممكن بلوغ المشاكل موضوعيا . تبعا لذلك، الذوات العاشقة للحرية والعدالة والمعنى، في أفق العلمنة والديموقراطية المستقبلية، عليهم إعادة التفكير في علاقة جديدة مع العالم، وليس الوقوع في معارك خلفية . فقط ، لا يمكن مواجهة ولا عقلنة اليائسين إذا ظلوا مكتئبين، مغلوبين على أمرهم وغرباء عن حياة المدينة . مستقبلنا مرتبط، وأنتم رابطتنا، رابطتنا الأثيرة . لا يمكن تصويب انحرافات الحداثة وتقاليدنا من طرف واحد، وإنما بفعل مشترك، يتأسس على فهم عادل لتمفصل مبتكر بين النوعي والعالمي . أتطلع إليه بامتنان وأقول له : شكرا ألف مرة، لصبرك، كل ما أردت أن تقوله لنا، تعلمنا وتمنحنا، كل ما رغبت أن توجهه لنا، وإلى غيرنا، بعيدا، لأننا مرتبطون بمعنى ديني للسر الخفي، الحياة، العالم وما وراء العالم، قريبا، لأننا مرتبطون، في نفس الوقت، بالدنيوية، الحرية، استقبال الآخر المعروف كآخر .
وأضفت : اسمح لي، أستاذ، في حضرتك ومتشجعا أقول كلمة النهاية، في ندوتنا، كلمة الخاتمة، باسمنا جميعا .
بتأثر، أجابني : أشكرك . وبدوري أقول أنا ممتن بانضمامي الي أعمالك والي هذه الندوة . أنا متأثر بتواجدي جزائريين ، وكما قلت لك، أحتفظ بقوة بما تبقي لي من كوني جزائريا، سأبقي وسأحتفظ بكوني جزائريا .
> > فصول من كتاب :
Mustafa Cherif , L Islam et l Occident , Rencontre avec Jacques Derrida , Ed. Odile Jacob , Paris , 2006 .
***************************
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي /8شتنبر 2014