تفسير التاريخ الإسلامي بين الموضوعية والذاتية
مصطفى محمد طه
عن مجلة التسامح
7 شتنبر 2014
يجد الباحث التاريخي والحضاري نفسه ملزماً بتناول مثل هذه الإشكالية البحثية برؤية علمية مجردة، ذات طابع تنظيري؛ وذلك لأن التنظير هو أساس التطبيق، ولعل أبرز نموذج صارخ لمحاولة تزييف التاريخ -عبر تفسيره برؤية ذاتوية محضة- ما فعله اليهود ولا يزالون يفعلون مع كل الوقائع التاريخية والمعطيات الحضارية التي تخدم وجودهم في التاريخ، وهنا يَصدق فيهم المقولة السائدة: [إنهم قد حولوا أساطيرهم إلى حقائق، ونحن – بتخاذلنا وعدم وعينا بالتاريخ – كمن حوّل حقائقه إلى أساطير]، ويضاف إلى ذلك أن اليهود -في عملية تزييف التاريخ الممنهجة هذه، والبعد به عن الحقيقة- هم في ذلك شأنهم شأن معظم -إن لم يكن كل- الفرق الضالّة والمذاهب الباطلة في تاريخ المسلمين، التي طمست معالم الحقيقة البلجاء والحق البواح وذلك من أجل إثبات أحقيتهم في ريادة الأمة زوراً وبهتاناً.
ونظراً لضيق المساحة المتاحة للبحث رأينا أن تكون رؤيتنا عن تفسير التاريخ الإسلامي بين الموضوعية والذاتية؛ وهذا لأننا لا ولن نستطيع التمييز بين الحقيقة والتزييف إلا في ضوء معطيات التفسير العلمي للواقعة التاريخية والمسألة الحضارية وسقوط وانهيار الحضارات بموضوعية حقة.
وتأتي هذه الأهمية القصوى للتاريخ في حياة الإنسان من منطلق أنه يمثل -في بداية التحليل ونهايته- حلقاتٍ متتاليةً في سلسلة واحدة، يكمل كلّ منها الآخر، هي سلسلة الوجود البشري على ظهر هذا الكوكب الأرضي منذ أن وطأته لأول مرة قدم سيدنا آدم أبي البشر عليه السلام، وإلى آخر رجل من سلالته، وذلك وفق نسق حضاري فريد يدل على مدى دينامية الإبداع الإنساني في كل زمان ومكان، طالما توفرت له الشروط اللازمة لتفجير طاقات هذا الإبداع الذي نسميه حضارة. ولدراسة هذه القضية دراسة علمية، رأينا أن نقسّم البحث إلى محورَين أساسيّين على النحو التالي:
المحور الأول: الجانب التنظيري
1- ماهية التاريخ:
أ- التاريخ لغة:
يقول الرازي: “التاريخ والتوريخ، هو تعريف الوقت. تقول: أَرِّخ الكتاب بيوم كذا، وورّخه بمعنى واحد”. ولا يعدو هذا الفرق الإملائي بين الكلمتين -تاريخ وتوريخ- أكثر من كونهما نطقاً لمعنى واحد للهجتين عربيّتين: لهجة بني تميم ولهجة قيس، فبنو تميم يقولون: “ورخت الكتاب توريخاً”، أما قيس فتقول: “أرّخته تأريخاً”(1).
ب- التاريخ اصطلاحاًً:
يرى أغلب المؤرخين أن التاريخ هو بحث ودراسة واستقصاء لأخبار الناس وحركتهم، والنظر في أحوالهم الماضية، أما موضوعه فهو الحياة الإنسانية في امتدادها الزمني على الأرض منذ بدء الخلق إلى اليوم وفي المستقبل المنظور واللامنظور وما يحكم هذه الحياة من عوامل وأسباب(2).
2- التاريخ للشخصيات أم للحضارات:
بداية، نرى أن ثمة عدة تساؤلات حيوية تطرح نفسها على بساط البحث من قبيل: من الذي يصنع أحداث التاريخ ويؤثر في مساره: الأفراد أم الجماعات؟ الحكام أم الشعوب؟ هل الأحداث التي تصل إلى درجة من التأثير والفاعلية هي من صنع ساسة وقواد بلغوا مرتبة البطولة؟ أم أن هذه الأحداث حصيلة حضارة أسهم فيها شعب بجميع أوجه نشاطه: اقتصادية واجتماعية وعلمية وفكرية وفنية وأدبية فضلاً عن أنظمته من دين ولغة وعادات؟ لمن يؤرّخ المؤرخ: لشخصيات يراها صنعت التاريخ وأثرت فيه؟ أم يؤرّخ لحضارات؟ ما هو محور التاريخ؟ الأفراد أم الحضارات؟(3).
إن الإجابة الموضوعية عن هذه التساؤلات هي التي من شأنها أن تجعل الواقعة التاريخية على قدر كبير من المصداقية، وبالتالي تكون أقرب ما تكون للحقيقة منها إلى التزييف؛ وذلك لأن الأهواء والنزاعات المذهبية وأحياناً الذاتية، هي التي عكرت – ولا تزال – صفو وجلاء الواقعة التاريخية، وذلك عبر محاولة بعض رجال التاريخ لوي عنق الحقيقة، لجعل حقائق التاريخ – أحياناً – تكون لصالحهم من أجل تحقيق مكاسب دنيوية. ولذا فإننا نميل إلى أن يؤرخ المؤرخون لحضارات بدلاً من التأريخ لشخصيات، فهذا أجدى وأنفع من المنظور الديني والحضاري. ولذا لا بد أن يصبح التاريخ في تقديرهم غير تابع للسياسة، فالسياسة ليست أهم أو حتى أبرز مظاهر الحضارة… أو أكثر فعالية في توجيه مسار التاريخ؛ بل إن مظهراً آخر من مظاهر الحضارة قد يمثل الصدارة في هذا المضمار مثل الدين أو العلم بكل مناحيه… وحينئذ يجد المؤرخون أنفسهم يؤرخون لهذه المظاهر ممثلة في رجالها(4). ولعل الذي ساعد على تبني مثل هذه الوجهة إنما هو على الحقيقة تقدم الدراسات التاريخية في واقعنا المعاصر؛ وذلك لأن دور الفرد – البطل – قد تضاءل رويداً رويداً لصالح المؤسسات الحضارية… وليس هذا الأمر وليد اليوم، بل إنه إحدى إفرازات الإسلام الفريدة، ولهذا أصبح التاريخ الإسلامي – كما يذهب إلى ذلك الدكتور أحمد محمود صبحي – أول تاريخ حضارات؛ لأنه قد تحكمت في الفكر الإسلامي -عبر أطواره التاريخية- عدة عوامل جعلت المؤرخين فيه يؤرخون للحضارات لا للحكام.
3- التاريخ بين الموضوعية والذاتية:
بداية، نرى أنه لابدّ للباحث المنصف الذي يريد دراسة وتحليل آفاق وملامح هذه الإشكالية الحضارية بكل الموضوعية العلمية المجردة، من أن يؤكد على أن أخطر أمر يواجه الكتابة التاريخية – ولاسيما في عصرنا هذا، الذي يُعرف بأنه عصر الانفجار المعرفي – هو التحيز في البحث عن وثائق – تاريخية – لتؤكد حكماً مسبقاً على الأحداث، وفي الغالب فإن مثل هذا النهج لا يهدف إلى الوصول للحقيقة التاريخية بقدر ما يعمل على تزييف التاريخ، لذا فإننا نسمع بين الفينة والأخرى مقولة إعادة كتابة التاريخ لهذه الأمة أو تلك، ومثل هذه المقولة هي في حقيقة الأمر إعادة قراءة وثائق هذه الأمة أو تلك، والبحث عن المسكوت عنه في تاريخها(5).
إن طرح قضية التاريخ والمؤرخين في لحظتنا الراهنة – بعيداً عن التصور الإسلامي – يجعلنا لا نتفق مع من يتكلم عن الثقل الخانق للتاريخ في حضارة الإسلام إلى حدّ عدم السماح بالتنفس في هذا العصر، فلا يُرى المسلمون إلا من خلال تاريخهم، أما الحاضر والمستقبل فقضية فيها نظر، وهناك من يرى أن التاريخ ليس بهذا الثقل ولا هذا الاختناق، بل يكاد أن يكون هو هذا التاريخ، لا نقول الضائع في مجمله، ولكن في العديد من منحنياته أو من مناحيه، فهناك ما افتُقد من التاريخ، وهناك ما صودر ومُنع من العبور عبر الأزمنة، وهناك ما شُوّه وزُيّف وصُنع في عقول المؤرخين وفي لحظات انسجامهم ورضائهم عن العطاء أو في لحظات تأزمهم نتيجة لبخل من مدحوه وكرّموه، فهو تاريخ مُقاس حسب المقاس، وباسم المردودية وما يُجنى من ورائها، أما قضية تاريخ المؤرخين فإنها كبرى القضايا(6)… وذلك لأنها قضية فكرية محورية، ويمكننا عن طريقها تنقية الواقعة التاريخية من شوائب وأدران التزييف التي شابتها، وبالتالي نجعلها قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة، ولو بمعاييرنا الدنيوية حيث لا حقيقة مطلقة إلا حقيقة الذات الإلهية الحقة وكل ما سواها نسبي، إلا ما ارتبط بالخالق -عزَّ وجلَّ- ارتباطاً عضوياً حياً من أنبياء ورسل ورسالات سماوية خالدة، أراد لها الله البقاء والديمومة عبر الدينامية المتفجرة للمدّ الإيماني والإشعاع الحضاري لعطاءاتها الثرية الجيّاشة، ويأتي في مقدمتها الإسلام، ألم يقل عزّ من قائل: ﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون﴾ [البقرة: 138].
﴿إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب﴾ [آل عمران: 19].
﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ [آل عمران: 85].
﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ [المائدة: 3].
ولعل المعيار الموضوعي الوحيد، الذي يساعد المؤرخون على فرز التاريخ الحق من الزائف، إنما هو مدى سعة أفقهم في مضمار الثقافة التاريخية، التي من شأنها – ككل جهد ثقافي وباعتبارها حصيلة للثقافة الإنسانية بمجموعها – أن تُنمّي لديهم (الحكمة)، التي يولّدها عمق الاختبار وسعته، فضلاً عن أنها تلحّ في التساؤل حتى تصل إلى الأعماق والجذور. فإذا انتقلنا من مجال الفكر إلى العمل، وجدنا أن العمل التاريخي المبدع كما يتطلب صحة الإحساس بالحاضر والتطلع إلى المستقبل والإقدام عليه، فإنه لا يمكن أن يكون مبتوت الصلة بالماضي، ذلك أن الإنسان الحيّ الفاعل صانع التاريخ ليس (مستقبلياً) مطلقاً سابحاً في الرؤى والأحلام، ولا (حاضرياً) مطلقاً غارقاً كل الغرق فيما حوله من إشكاليات، ولا (تاريخياً) مطلقاً يحنّ إلى الماضي ويبغي أن يُعيده كما كان، بل هو ذلك الإنسان الداخل في صلب الحضارة المسهم فيها المتشوق إلى من يأتي من بعده ويتخطاه في مجالات الصنع والإسهام الحضاري(7).
4- تفسير التاريخ بين الموضوعية والذاتية:
إن أي محاولة علمية جادّة ومجرّدة في آن، لتفسير تاريخ المسلمين تفسيراً حضارياً، إنما تقتضي منّا أن ننظر إلى تاريخنا عبر مستويات ثلاث من التصفية والغربلة، ولا بدّ أن تتدخل على التوالي فرزاً وإصراراً. ولنبدأ بعلمية التاريخ(8)، فإذا كان منهج المؤرخ – المستوى الأول في كتابة وتفسير التاريخ – هو تبني التسلسل، فإن منهج عالم التاريخ هو أن يتبنّى صحة التاريخ، وهو في هذا يرتكز على حيثيات محددة، فعلم التاريخ – إذن – لا يتحرك في غيبة التاريخ وإنما في حضوره، فلا بد من تاريخ حتى يتعلمن(9).
من هنا يمكن القول بأن هذا التاريخ يميز فيه عالِم بين تاريخ الأفكار وتاريخ الأفعال، فعالِم التاريخ يلجأ إلى الحدث أو الواقعة المحدودة والمحددة، بينما المؤرخ يبلور التاريخ المتسلسل. وكذلك يحاول عالِم التاريخ الاحتكام إلى العوامل المهيأة للواقع، أو الحدث التاريخي، سياسية كانت أو اقتصادية أو دينية أو تربوية أو نفسية أو بيئية. ويرتكز في تعامله معها على الاستنطاق والاستجواب، محاولاً بناء تاريخ مواز للفعل، إلى جانب تاريخ المؤرّخ مع ما أرخ له. ولهذا نرى أن تاريخ تراث المسلمين مشيداً في أكمل وأبهى صورة كما قدمه لنا المؤرخون، فتاريخ تراث المسلمين كبناء متكامل لوقائع وأحداث استُنطقت ووُضعت في إطار بعيد عن كل مجازفة أو انتماء، وبصبر ورزانة حتى يومنا هذا، ولذا فإن قضية علمية ما زالت مطروحة، ولكن علينا أن نتحاشى المجازفة وإلا وقعنا فيما حاولنا التنبيه إلى عدم الوقوع فيه(10).
أما المستوى الثالث في كتابة وتفسير التاريخ، فنعني به محاولة تفسير أحداث التاريخ في ضوء فلسفة التاريخ، والفلسفة التي تعنينا هنا سوف نركز في توظيفها على ما هو جدير بالتعليل باعتبارها تخصصاً يعلل التاريخ بعد غربلته وتنقيته مما علق به من أهواء وتذوقا وانتماءات في حدود الإمكانات المتاحة له في الشرح… ففلسفة التاريخ هي باختصار تعليل للتاريخ ارتكازاً على وقائعه وأحداثه، بمعنى مادية التاريخ المجسّدة في الفعل التاريخي لا الفكر التاريخي، وتهدف حينما تتواجه هذا الفكر التاريخي بالفعل أن تعلل لماذا المنعرج أي لماذا الأزمة؟ لا، لماذا الاستقرار؟ ففلسفة التاريخ – في نهاية التحليل – هي في الواقع فلسفة أزمات التاريخ ومنعرجاته الكبرى، فهي حينما تقول لماذا؟ فإنه لا بد من حدث يستحق التساؤل وإلا “فلماذا” لا أساس لها. لماذا قيام هذه الأمة في زمن ما؟ ومكان ما؟ ولماذا سقوط الأخرى؟(11).
وفي ضوء ما تقدّم نرى أن الدراسات التاريخية المقارنة، تشي لنا بأن فهم التاريخ كعلم، إنما هو من اختصاص ثلاثة رجال هم على النحو التالي:
الرجل الأول: هو المؤرخ، الذي يقوم برصد الأحداث كما وقعت في السياق الزماني، دون التدخل منه في تغيير البنية الأساسية لهذه الأحداث ومآلاتها.
الرجل الثاني: هو عالِم التاريخ، الذي يحاول تقديم رؤية علمية تبلور لنا إلى حد ما، لماذا حدث ما حدث من وقائع تاريخية، سواء كان ذلك في الماضي أو الحاضر، هذا فضلاً عن محاولته الجادة لتلمس الأسباب الكامنة وراء كل حدث تاريخي. يضاف إلى ذلك أيضاً تصوره العلمي لملامح التاريخ البشري في المستقبل الآتي من ضمير الغيب، بناءً على المعطيات العلمية المتكوّنة لديه من معرفته للأسباب التي تؤدي في الغالب إلى تكوّن الوحدة العضوية الحيّة للفعل التاريخي.
الرجل الثالث: هو فيلسوف التاريخ، وقد ارتقت مكانة هذا الرجل في الفضاء البحثي والعلمي نظراً لتقدم فلسفة التاريخ، التي هي على الحقيقة – وفقاً لقناعتنا – بمثابة التخصص الذي يحاول بثّ الروح في التاريخ وذلك لأن فلسفة التاريخ تحاول أن تبحث عن أسباب وعلل قريبة أو بعيدة تقف وراء هذه الأحداث، وهي تحاول أيضاً أن تبرهن حدوث الأشياء، على هذا النحو أو ذاك. فأحياناً تكون العناية الإلهية وراء الأحداث لدى البعض، وأحياناً تكون الإرادة الإنسانية ونظرية التقدم هي سبب قيام الأحداث.
وهناك من يفسّر أحداث التاريخ في إطار نظرية عامة وشاملة كالتطورية مثلاً، وبعض النظريات الحيوية، ونظريات مثل التحدّي والاستجابة… الخ. فالمهم في كل ذلك أن لا نتوقف عند التاريخ كأحداث متراصّة، وإنما نبحث عن خيط، أو بمعنى أدق شريان يبث فيها الروح، فتبدو لنا وقد دبّت فيها الحياة كشريط سينمائي.
إن تفسير التاريخ ومعرفة أسباب الحوادث قد تطوّر مع الزمن متأثراً بالموضوع وبالمفسر. فقد تطور الموضوع مع الزمن كمّاً، بزيادة مادته بفعل التراكم الزمني واتساع رقعة مساحة الجغرافية حتى شملت العالم، واتساع آفاقه من حديث عن حرب أو حاكم إلى تصوير ما كانت عليه الحياة في زمن ما بكل جوانبها، كما تطوّر كيفاً بتقدم تقنية جمع معلوماته، وتنويع مصادره وموضوعية نقدها، وصولاً لمعرفة ما حدث على الحقيقة – لا التزييف والظن والكذب – مما ساعد على إيجاد تفسير للتاريخ أكثر صحة(12).
وإذا كانت السطور السابقة قد بلورت إلى حدّ ما أبعاد الدور الحيوي لتفسير التاريخ كعلم، فيا تُرى ما هي ملامح رسالة مفسر التاريخ ونتائجها على واقع التاريخ كعلم ومنهج؟!. وللإجابة عن مثل هذا التساؤل الحيوي نقول، أما المفسر فقد زاد مع الزمن علماً بالأحداث، وكلما اقترب من أيامنا هذه ازداد المرصد الحضاري، الذي يرصد منه – حركة التاريخ – علواً، وتأثر ببيئته الثقافية قيماً وتنوعاً وغنى؛ فالموضوعية أصبحت من أخلاق العالِم والباحث، وعلى الرغم من صعوبتها في التاريخ عموماً، وفي تفسيره خصوصاً، نظراً لصعوبة الفصل بين الذات والموضوع، إلا أن السير نحوها قدماً وجد ما ييسره لبعد أكثر ما يعالجه المفسر في ميدان التاريخ المتسع عنه، إذ لم يعد اهتمامه قاصراً على أحداث قبيلته أو موطنه، بل حمله الطموح أحياناً للتطلع لتفسير أحداث العالم كله، كما تنوع المفسرون للتاريخ فلم يعودوا يقتصرون على المؤرخ فحسب، بكل ما أغنته به بيئته من قاعدة ثقافية عريضة، بل تعداه الأمر إلى آخرين ذوي اختصاصات علمية شتى مثل: الجغرافي وعالِم الطبيعة والمحلل النفسي والفيلسوف، وقد طغى هؤلاء على هذا الميدان حتى كادوا يستأثرون به كله، ووصل الأمر بأحدهم إلى حدّ هدم الحاجز بين التاريخ والفلسفة، واعتباره تعليماً للفلسفة بالأمثلة(13).
إن مثل هذا التنوع الذي عرفه مفسّرو التاريخ، قد انتقل بدوره إلى مذاهب تفسير التاريخ، التي تنوعت هي الأخرى، ما بين مذاهب وضعية وأخرى دينية، ولعل أبرز التفاسير الوضعية: التفسير المثالي لدى هيجل [1770-1831م]. والتفسير المادي لدى كارل ماركس [1818-1883م] وانجلز [1820-1895م] والتفسير البيولوجي لدى أوزفلد شبنجلر [1880-1936م] والتفسير الحضاري لدى أرنولد توينبي [1889-1975م]. أما أبرز التفاسير الدينية للتاريخ فهو التفسير الإسلامي.
المحور الثاني: الجانب التطبيقي
لا ريب عندنا في أن أهم مظهر لتطبيق المنهجية الموضوعية في تفسير التاريخ، إنما هو اعتماد التفسير الإسلامي للتاريخ، وذلك لأنه يعتمد اعتماداً أساسياً على تبني مقوّمات التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، كما أراد ذلك الخالق الأعلى “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ [المُلك، آية74]، ومن ثم فإنه لا تاريخ حقيقي إلا بتكامل مثل هذه المنظومة الإيمانية والحضارية في آصرة ودية تربو على آصرة الدم واللحم.
1- ملامح التفسير الإسلامي للتاريخ:
ولهذا رأينا أنه قد جرى الاهتمام بالتعليل أو التأويل أو التفسير في مجال العلوم الإنسانية – وفي مقدمتها التاريخ – إلى حدّ ظهور علم لهذا الغرض هو علم (الهرمينيطيقا). وقد تعاظم دور هذا العلم من درجة الطموح إلى التنظير باعتباره أقصى درجات العلم وأسماها. ومعلوم أن نشأة علم التاريخ عند المسلمين كانت نشأة عملاقة، بشهادة جمهرة الدارسين والباحثين، لذلك اهتم المؤرخون الروّاد بالتعليل والتفسير باعتباره مطلباً أساسياً لاكتمال عملية كتابة التاريخ، وقد تطورت جهود الأجيال التالية من مؤرخي الإسلام لتصل إلى درجة مرموقة في هذا المجال الحيوي بولوج باب فلسفة التاريخ(14). حتى أنه يمكننا القول بأن نشوء وتطور التفسير التاريخي كان مرتبطاً بتاريخ العلم والثقافة في الإسلام، وكلاهما كانا بالمثل نتيجة معطيات سوسيو-تاريخية، اقتصادية وسياسية(15).
وإذا كان المجتمع العربي قبل الإسلام قد افتقد المفهوم الكوني الواضح للتاريخ الذي يربط بين ماضي الحياة وحاضرها على أساس روحي عميق، أو فلسفي شامل، وذلك نظراً لافتقاد وعيه بذاته الحضارية المستقلة، وبالتالي تشتت هذا الوعي الجاهلي بين تصورات الجاهلية للماضي وما يرتبط بها من قصص الأيام والأنساب(16)… إلا أن فكرة التاريخ في القرآن الكريم تقوم على أن للتاريخ معنى أخلاقياً وروحياً مؤسساً على علاقة الألوهية الحقة بالكون، ودور الإنسان فيه، وذلك بوصفه خليفة الله في أرضه. وكثيراً من النصوص القرآنية تؤكد هذا المعنى في مناسبات مختلفة، فهي تحضّ الإنسان على الإقبال على الحياة والعمل، ولكنها تحذره في الوقت نفسه من غرور يتهدده فيكون مصيره الهلاك كما حدث لكثير من الأمم من قبل(17) – تصديقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿سنّة الله التي خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾ [الفتح: 23]. ﴿فهل ينظرون إلا سنة الأوّلين فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ [فاطر: 43].
إن هناك حقيقة أساسية تبرز واضحة في القرآن الكريم، تلك هي أن مساحة كبيرة من سوره وآياته خُصصت للمسألة التاريخية، التي تأخذ أبعاداً واتجاهات مختلفة، وتتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي لتجارب عدد من الجماعات البشرية، وبين استخلاص يتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات عبر الزمان والمكان، مروراً بمواقف الإنسان المتغيرة من الطبيعة والكون مروراً بمواقف الإنسان المتغيرة من الطبيعة والكون، وبالصيغ الحضارية التي لا حصر لها، فهي تتأرجح بين البساطة والنضج والتركيب… وتبلغ هذه المسألة حداً من الثقل والاتساع في القرآن الكريم، فمعظم سوره لا تكاد تخلو من عرض لواقعة تاريخية، أو إشارة سريعة لحدث ما، أو تأكيد على قانون أو سنة تتشكل بموجبها حركة التاريخ. وهذا أمر منطقي تماماً، لأنه ينسجم مع إعجاز القرآن الفارد وتوزيعه الفذّ لمساحات آياته وسوره لتغطية كافة المسائل الأساسية في حياة البشرية(18). وفي هذا يقول عزّ من قائل: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ [يوسف: 111]. ولعل الذي يضفي طابعاً من التفرد والموضوعية الحضارية على التفسير القرآني للتاريخ، هو أنه ينبثق عن رؤية الله، وهي تختلف عن الرؤية الوضعية، وذلك لأنها تحيط علماً بوقائع التاريخ، بأبعادها الزمنية الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وببعدها الرابع، الذي يغيب كثيراً عن ذهن الإنسان مهما كان على درجة من البصيرة والذكاء، أنه البعد الذي يغور في أعماق النفس البشرية فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي، والحركة الدائمة في كيانه الباطني، ويتسرب بعيداً صوب اهتزازاته العقلية والوجدانية، وإرادته المستقلة، وما تؤول إليه هذه جميعاً من معطيات تمنح حركة التاريخ أبعادها الحقيقية، ويمتد – كذلك – لكي يشتبك في العلاقات الشاملة للمصير، ذلك أنها رؤية الذات الإلهية التي وسعت كل شيء علماً، ولهذا صنعت الواقعة التاريخية ووضعتها في مكانها الطبيعي من خارطة التاريخ البشري والكوني على السواء، ولكن الرؤية الوضعية تمتد إلى الماضي لتقتبس منه وتختار ما يعزز وجهات نظرها المسبقة، والرؤية القرآنية تحيط بالماضي لكي تكثفه في قواعد وسنن تُطرح أمام كل باحث في التاريخ يسعى إلى فهمه، وإلى أن يرسم على ضوء هذا الفهم، طرائق حياته الحاضرة والمستقبلة، باعتبار أن الأزمان الثلاثة إنما هي وحدة حيوية تحكمها قوانين واحدة كتلك التي تحكم الحياة سواء بسواء(19).
وإذا كانت السطور السابقة، قد عكست بعضاً من معالم الرؤية القرآنية للتاريخ، فيا تُرى ما هي ملامح الرؤية النبوية للتاريخ؟ وللإجابة نقول إن الأحاديث النبوية الشريفة، تنطوي على منظومة خصبة من مفردات المعرفة التاريخية وتقدم الإجابة على العديد من التساؤلات التي يثيرها هذا الفرع الهام في دائرة العلوم الإنسانية، وهي بهذا تؤكد معطيات القرآن الكريم في هذا المجال وتوضحها وتضيف عليها. وما من شك في أن الخبرة التاريخية وما تتضمنه بالضرورة من فقه حضاري، تحمل أهميتها البالغة ليس في السياق المعرفي أو الأكاديمي الصرف فحسب، وإنما باتجاه التوظيف الدعوي للخبرة واعتمادها لتعزيز القيم والقناعات الدينية ونشرها(20).
وفي التحليل الأخير تلكم كانت بعض اللمسات التي جاءت بادية عبر السياق الشريف للبلاغ القرآني والبيان النبوي في إطار تفسيرهما للتاريخ، وهي على الحقيقة بمثابة خارطة عمل منهجية لرجال التاريخ، حتى لا تزيغ أبصارهم عن الحقيقة البلجاء ويتبعوا الهوى فيأخذ التزييف منهم كل مأخذ. إن القرآن [كتاب الحضارة الأمثل والرافد الأول للحضارة الإسلامية]، قدّم لنا هاهنا رؤية فريدة في تفسير التاريخ، تعتمد على الصدق والموضوعية، بل إذا شئنا الدقة قلنا إنه الحق البوّاح الصادر عن الإله الحق، الذي اختار الإسلام الدين الحق، فأرسل به النبي الحق – سيدنا محمد بن عبد الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فمكّن له في الأرض التمكين الحق، فأخرج به خير أمة أُخرجت للناس، ومع ذلك فالقرآن الكريم ليس كتاب تاريخ بحت، بل هو كتاب هداية ومنهج رباني لهداية الناس بإذن ربهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها وسعة المعرفة وأفياء الحضارة، حتى يتسنى لهذه الأمة تأدية رسالتها الحضارية على أكمل وجه. ولهذا جاءت السنة متممة لهذا السياق والمطلب، فغدا التاريخ في ظلال الإسلام حقائق، إلا بعض النشاز هنا أو هناك لرجال جانبوا الحقيقة البلجاء فضاعت منهم معالم الطريق، وعلى أية حال فإن التزييف في كتابة التاريخ الذي نراه عند البعض من مؤرّخينا لا يقاس بما لدى الآخرين من تحريف وتزييف، بل وطمس لمعالم الحق الأبلج بشتى الوسائل.
2- نموذج فكري للتفسير الإسلامي للتاريخ:
لعل أبرز نموذج فكري يجسّد مطالب تفسير التاريخ الإسلامي بين الموضوعية والذاتية، إنما هو فيلسوف الحضارة الإسلامية الأول ابن خلدون [732-808هـ/ 1332-1406م] الذي يُعتبر – على حدّ تعبير الدكتور عبد الحليم عويس – “نبتة حضارية… وليس ثمرة عصره فقط!!”. ولهذا فإن ابن خلدون هو علامة فارقة في تاريخ الفكر الحضاري – إسلامياً وكونياً – وذلك لأنه عبقريّ من الطراز الأول. ومن هنا فإن معطياته الفلسفية تعتبر بمثابة التأسيس الفكري لكثير من العلوم، ويأتي في مقدمتها علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، التي ارتبطت بتفسير التاريخ لديه تفسيراً حضارياً وفقاً للتصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان. ولقد أنشأ ابن خلدون في مقدمته علماً جديداً لم يسبقه أحد إليه من قبل لا من مفكري الشرق أو الغرب، وقد أطلق على علمه الجديد هذا اسم العمران(21).
وفي هذا السياق التفسيري، تؤكد الدراسات الحضارية المقارنة بأن مهمة علم العمران كما تصورها ابن خلدون، كانت هي تمحيص الأخبار، على أن الدراسة المتأنية لعلم العمران الخلدوني، تخرج باستنتاجات عديدة عن هوية علم العمران، فهل يمكن أن يُعد هذا العلم هو علم الاجتماع أو فلسفة التاريخ أو علم في المنهج، على غرار المنطق، أو الفلسفة السياسية؟ إن دراسة ابن خلدون للظواهر الاجتماعية يمكن أن ترقى بعلمه الجديد هذا، إلى مصاف الدراسات التي تتصل بصميم فلسفة التاريخ، وبالتالي فإن ابن خلدون هو أول فيلسوف للتاريخ والحضارة – كما سبق أن ألمحنا- على صعيد الفكر الإنساني(22).
إن ما تقدم يجعل من الضروري أن نقف كما وقف ابن خلدون لنعيد قراءة الماضي الحضاري للأمة الإسلامية على ضوء معطيات الحاضر، لنصل ما انقطع من تطور في كتابة التاريخ الإسلامي، ولتجاوز الثغرات والأخطاء والهفوات التي وقع فيها المؤرخون الأقدمون، ربما بسبب ظروف العصر التي أحاطت بهم أو الإمكانيات العلمية والتقنية التي كانت تحكم نشاطهم(23).
– تصورات ختامية:
التصور الختامي الأول: هو أن التاريخ ليس حركة عبثية قائمة على المصادفة والعشوائية، إنما ينتظمه قانون، وتحكم حركته سنن، وهو من أعمال وصناعة البشر، أصحاب القدرات والإرادات والمسؤوليات، ولو لم يكن للتاريخ هذا البعد والقانون الكلي، لما استحق أن يكون علماً، ولما استحق أن يكون مصدراً للعبرة والتجربة للإنسان في كل زمان، ولما أمكن الإفادة منه لغير زمانه، ولما جاز أن يترتب على الفعل التاريخي أية مسؤولية، ولما استطاع أن يضيف عمراً يضاعف أعمارنا، وعبراً تغذي عقولنا، أو بكلمة مختصرة: لم يكن لذكر القصص القرآني أي معنى في صناعة الحاضر ورؤية المستقبل(24). إذن فالتاريخ هو علم الماضي والحاضر والمستقبل في آن، ولذا ينبغي أن تكون الحقيقة وحدها، وليس التزييف، هي لحمة وسداة الكتابة التاريخية في واقعنا الثقافي المعاصر، خصوصاً وأننا الآن بصدد إعادة تشكيل العقل المسلم، الذي عليه أن يتسلح بالحقيقة وهو يلج أبواب المستقبل، ويرنو إلى تكوين حضارة إسلامية معاصرة، حتى يتسنى لأمتنا مبارحة حالة السقوط الحضاري التي طال ليلها البهيم.
التصور الختامي الثاني: هو أن الدخول إلى ساحة التاريخ، ولاسيما في عصر التخصص – الذي نعيشه – لم يعد ممكناً من باب واحد، بعد إذ أصبح علماً أو نشاطاً معرفياً، ذا طبقات شتى، فكان لا بد من الولوج إليه من أبواب متفرقة يُفضي كل واحد منها إلى طبقة أو دور من عمرانه ذي الطبقات والأدوار، وبقدر ما يتعلق الأمر بإسلامية هذا العلم، فإن علينا – أولاً – أن نتبين جيداً مسالكه وأبوابه، وأن نضع نصب أعيننا خرائطه التفصيلية كي لا تتبقى أية مساحة، لا تمتد إليها المحاولة – فنعيد تكييفها إسلامياً – إنْ على مستوى المنهج أو الموضوع، بغضّ النظر عن حجم الجهد والمدى الزمني المطلوب(25).
التصور الختامي الثالث: هو أن الدعوة لإعادة كتابة تاريخنا أو إعادة عرضه وتحليله لا تعني – بالضرورة – البدء من نقطة الصفر، أو الرفض المطلق للصيغ التي قدمه بها مؤرّخونا القدماء، ومحاولة قلب معطياتهم رأساً على عقب، ومن يخطر على باله أمراً كهذا فهو ليس من العلم في شيء، وإنما المطلوب هو منهج عدل، يتوخى الحقيقة في كتابة تاريخنا ويجعله بعيداً عن التزييف، ولتحقيق مثل هذا المنزع الحضاري، فلا بد لهذا المنهج المنشود من أن يتعامل مع معطيات الأجداد بروح علمية مخلصة، فيتقبل ما يمكن تقبله، ويرفض ما لا يحتمل القبول، ويقدّر عطاء الرواد حق قدره، دون أن يصدّه ذلك عن متابعة آخر المعطيات المنهجية والموضوعية التي يطلع علينا بها العصر الحديث، وأشدها صرامة. فالمطلوب إذن هو موقف وسط يرفض الاستسلام للرواية القديمة ويأبى إلغاءها المجاني من الحساب، إنها على الحقيقة وبدون مواربة رؤية موضوعية تستحضر البيئة التي تخلقت في أحضانها وقائع التاريخ الإسلامي، وتعتمد في الوقت نفسه معطيات العلوم المساعدة كافة: إنسانية وصرفة وتطبيقية، من أجل كشف أشد إضاءة لهذه البيئة، وفهم أعمق لوقائعها وأحداثها(26).
التصور الختامي الرابع: هو أن ضرورات الوعي التاريخي والفقه الحضاري في اللحظات الراهنة، إنما تتطلب المزيد من الاهتمام بتصنيف المعطيات القرآنية والنبوية ودراستها بخصوص هاتين المسألتين، والسعي لتوظيفها في إعادة بناء المشروع الحضاري الإسلامي وتأصيله، من أجل أن يكون جديراً بملء الفراغ الذي تركه – ولا يزال – سقوط النظم والمبادئ الوضعية عبر النصف الثاني من القرن العشرين على وجه الخصوص(27).
التصور الختامي الخامس: هو أن ابن خلدون قد استطاع أن يضع فعلاً رؤية تنظيرية لتفسير التاريخ، بعوامل مختلفة سماها طوراً (العصبية الدينية)، وسمّاها طوراً (البيئة)، (أي الأثر الجغرافي)، كما ألمح إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية(28). وبذلك يكون ابن خلدون فيلسوفاً للحضارة الإسلامية، ذا نزعة تقدمية لأنه يعتبر أول من قدم منظوراً علمياً لفكرة التقدم في الفضاء الثقافي الإسلامي، وتأتي فرادة هذا التنظير لأن أمتنا كانت في طور سقوطها حضارياً، وكأني به قد أراد أن ينقذها من براثن السقوط، ولكن الأمة لم تُحسن الإصغاء لنداء هذه اللحظة التاريخية النادرة التي ظهر فيها ابن خلدون، فلم تأخذ بمعطياته العلمية، فسقطت حضارتها سقوطاً مروعاً، ودخلت في دورة الانحطاط. ولعل هذا يحتم علينا ضرورة الاستيعاب الموضوعي للعطاء الخلدوني في هذا المنحى، وذلك حتى يتسنى لأمتنا الإقلاع الحضاري من جديد، كما أقلعت من قبل إبان حقبة مجتمع التوحيد الأول، على يد رائدها الأول، سيدنا محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصحابته الغرّ الميامين… إن هذا أمل وما ذلك على الله بعزيز.
وثمة كلمة أخيرة، هي أنه علينا أن ندرك أن التاريخ هو المستقبل، ومن لا ماضي ولا حاضر له، فإنه لا مستقبل له أيضاً. ولهذا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا “إن التاريخ ما هو إلا اللحظة التي نحياها، فموتى الأمس كانوا أحياء، مثلما نعيش نحن اليوم، نحن الذين سنموت غداً لنصبح مثلهم في ذكرى التاريخ”. فهل سنعي مدى فاعلية الخطاب التاريخي في حياتنا الراهنة، ونحاول جاهدين تنقيته من كل الشوائب الضارّة عبر محو التزييف عن قسماته البارزة، ونجعله خطاباً حضارياً يجسد الحقيقة بكل ما لهذه الكلمة من قداسة وأهمية في حياتنا. ويكون رائدنا الأول في ذلك المعطى القرآني، الذي قدّم لنا في هذا المجال عطاءات ثرية جيّاشة، تنحني لها هامات المؤرخين وعلماء التاريخ وفلاسفته تقديراً وإجلالاً، وذلك لأن الحقيقة التاريخية الصادقة قد تألقت وسمقت في ظل ظليل من الهداية القرآنية، أما الواقعة التاريخية المزيفة التي اعتمدت على الذاتية، المنكرة للموضوعية، فقد توارت حياءً وخجلاً في بطون الكتب الصفراء باهتة، وذلك لأنها لا تملك أي ظل من الحق الأبلج، ولهذا بقيت تتلجلج في صدور الغاوين والأفّاكين الجدد، وما برحت تنفث سمّها الزعاف بين الفينة والفينة بغية طمس معالم الحقيقة البلجاء، ولكن هيهات هيهات فدون ذلك أمد بعيد. ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ [النحل: 9]، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
**************************
الإحالات المرجعية:
*) باحث علمي في الحضارة الإسلامية.
(1) د. سالم أحمد محل: المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب، كتابة الأمة، العدد 60، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الدوحة، السنة السابعة عشرة، رجب 1418هـ/ تشرين الثاني (نوفمبر) 1997م، ص77.
(2) خاليد فؤاد طحطح: في فلسفة التاريخ، الدار العربية للعلوم، بيروت 1430هـ/ 2009م، ص17.
(3) د. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، دار النهضة العربية، بيروت 1414هـ/ 1994م، ص63.
(4) د. أحمد محمود صبحي: المرجع نفسه، ص76.
(5) د. عبد المالك التميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة والتاريخ المعاصرة، مجلة عالم الفكر، العدد 4، المجلد 29، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص82.
(6) د. رشدي فكار: المفكر الإسلامي العالمي، في حوار متواصل حول قضايا تراث المسلمين، حوار: خميس البكري، مكتبة وهبة، القاهرة 1408هـ/ 1988م، ص63.
(7) د. محمد فتحي عثمان: المدخل إلى التاريخ الإسلامي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثانية 1412هـ/ 1992م، ص47-48.
(8) د. رشدي فكار: المرجع السابق، ص86.
(9) د. رشدي فكار: المرجع نفسه، ص88.
(10) د. رشدي فكار: المرجع نفسه، نفس الصفحة.
(11) د. رشدي فكار: المرجع نفسه، ص94.
(12) د. أحمد محمود بدر: تفسير التاريخ من الفترة الكلاسيكية إلى الفترة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، العدد 4، المجلد 29، [الفكر التاريخي] المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أبريل – يونيو 2001م، ص7.
(13) د. أحمد محمود بدر: المرجع نفسه، ص8.
(14) د. محمود إسماعيل: إشكالية تفسير التاريخ عند المؤرخين المسلمين الأوائل، مجلة عالم الفكر، العدد 4، المجلد 29، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أبريل – يونيو 2001م، ص42.
(15) د. محمود إسماعيل: المرجع نفسه، ص51.
(16) د. عفت الشرقاوي: في فلسفة الحضارة الإسلامية، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة 1405هـ/ 1985م، ص246.
(17) د. عفت الشرقاوي: المرجع نفسه، ص281.
(18) د. عماد الدين خليل: حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، دار ابن كثير، دمشق 1426هـ/ 2005م، ص59-60.
(19) د. عماد الدين خليل: مقالات إسلامية، دار ابن كثير، دمشق 1426هـ/ 2005م، ص113-114.
(20) د. عماد الدين خليل وآخر: دليل التاريخ والحضارة الإسلامية في الأحاديث النبوية، دار الرازي، عمان 1424هـ/ 2004م، ص5.
(21) خاليد فؤاد طحطح: المرجع السابق، ص40.
(22) د. سالم أحمد محل: المرجع السابق، ص141.
(23) د. هاشم يحيى الملاح: الحضارة الإسلامية وآفاق المستقبل، دار الكتب العلمية، بيروت 1431هـ/ 2010م، ص253.
(24) عمر عبيد حسنة: ضمن مقدمة: المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب، مرجع سابق، ص20.
(25) د. عماد الدين خليل: الوحدة والتنوع في تاريخ المسلمين، دار الفكر، دمشق 1423هـ/ 2002م، ص227.
(26) د. عماد الدين خليل: مدخل إلى التاريخ الإسلامي، الدار العربية للعلوم، بيروت 1426هـ/ 2005م، ص30.
(27) د. عماد الدين خليل وآخر: دليل التاريخ والحضارة الإسلامية في الأحاديث النبوية، (مرجع سابق)، ص8.
(28) د. عبد الحليم عويس: التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، كتاب الأمة، العدد 50، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الدوحة، السنة الخامسة عشرة، ذو القعدة 1416هـ/ آذار (مارس) – نيسان (أبريل) 1996م، ص108.