5شتنبر 2014

بقلم محمد قواص

مهما كان حجمُ هذا الخلاف، فإنه لا يبرر استمرار إغلاق الحدود . هكذا اختصر العاهل المغربي محمد السادس مأساة إغلاق الحدود البرية بين بلاده والجزائر. لا يفصحُ الجزائريون حكومة ونخبا واعلاماً عن سرّ التمسك باغلاق الحدود. مرّ عشرون عاماً على الحدث ولم تنفع الوساطات أو نداءات العاهل المغربي في تبديل مزاج الجزائر في هذا الصدد. الأمرُ خسارة اقتصادية للبلدين، يعطلُ سهولة انسياب الافراد والبضائع، ويعرقلُ طبيعية التواصل بين المغاربة والجزائريين، لا سيما سكان البلدين المنتشرين على طول تلك الحدود (1959 كلم).

منذ عقدين، وبالتحديد في شهر آب/أغسطس من عام 1994، أغلقت الجزائر حدودها البرية مع المغرب، بعد أن اتهمت الرباط المخابرات الجزائرية بالوقوف وراء هجوم إرهابي على فندق أطلس أسني بمراكش. الهجوم أسفر حينها عن مقتل سائحيّن إسبانيين، وجرح سائحة فرنسية. فيما تبيّن أن من قام بالاعتداء هم ثلاثة فرنسيِين من أصول جزائرية.

عقب هذا الهجوم فرضت المغرب تأشيرةً على الجزائريِّين. ردت الجزائر بالمثل، وذهبت أكثر من ذلك بإغلاق الحدود البرية، وهو إجراء ما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وعلى الرغم من أن العالم تغيّر خلال هذين العقدين، وأن عالمنا العربي يمر بأنواء تتجاوزُ علل عام 1994، فإن الخطابَ الجزائري ما زال متعنتاً في شأن إغلاق ملفٍ أصبح، واضحاً، أنه بات من الكلاسيكيات البليدة لآليات العلاقة بين البلدين.

تحدثت الصحافة المغربية مؤخراً عن تعاونٍ أمني يجري بين أجهزة البلدين لرصد حركة القاعدة في المنطقة ومراقبة حركة المغاربة والجزائريين الذين ينضمون لداعش. قبل ذلك دفع الجزائر ثمناً قاسياً (هجوم عين امناس) جراء حالة العبث التي خلّفتها سيطرة الجهاديين على شمال مالي، قبل أن تتدخل فرنسا في ذلك البلد. ظهر جلياً أن الجزائر كما المغرب يتعرضان لنفس الأخطار الأمنية، وأن مصلحة البلدين المنطقية تكمنُ في المزيد من التعاون، في مجالات الأمن على الأقل.

تدافعُ الجزائر عن موقفها من مسألة إغلاق الحدود بأن الأسباب أمنية لرد تسلل الإرهاب إلى أراضيها، فيما الارهاب يأتيها من أصقاع ونواح أخرى. وعلى الرغم من هذا التدبير الأمني، ربما لا مثيل له في العالم، تتهمُ الجزائر الرباط بالعمل على إغراق الجزائر بالمخدرات، ما يعني اعترافا جزائرياً أن اغلاق الحدود البرية لم يحلْ دون رواج التهريب، بما في ذلك تهريب المخدرات جدلاً. بالمقابل يتهمُ المغرب الجزائر بالعمل على ادخال حبوب الهلوسة إلى أراضيه، كما إغراق البلد بالمهاجرين الأفارقة عبر تلك الحدود، بما يعكس وصول الجدل بين البلدين إلى درك سفلي مقلق.

تقتضي المقاربةُ الأمنية منطقياً فتحَ الحدود لوقف استحداث معابر غير شرعية يستخدمها المهربون، كما تقتضي الإشراف المشترك المتعاون بين البلدين على تلك الحدود المشتركة المفتوحة. لكن طالما أن اغلاق الحدود أضحى مسلّمة جزائرية، فإن أمر ذلك لا يدخل في تصنيفات المنطق والعقل.

يستنتجُ المراقب أن الجزائر، بنظام حكمها الراهن، غير راغبة، وربما غير قادرة، عن انجاز أي تطوّر يطالُ ملف الحدود البرية مع المغرب، ذلك أن البلدَ عاجزٌ عن تجاوز عقدة العلاقات الشاملة التي تتجاوز تفصيل الجانب الحدودي مع المغرب. يستنتجُ المراقب أن الجزائر تجرُّ منذ الاستقلال (عام 1962) نفس النظام السياسي الذي قاده حزب جبهة التحرير الوطني، وإن تغيرت أسماء وأستحدثت الأحزاب، وتجرّ نفس العقلية في مقاربة الشأن المغربي منذ حرب الرمال (عام 1963) وحتى الآن. ويستنتجُ المراقب أن توازن النظام الجزائري يقوم على ثابتة التوتر مع المغرب لدواعي ومبررات ملتصقة بالتركيبة العضوية للنظام وأركانه. ويستنتجُ المراقب أن عجز النظام الجزائري عن تجديد الطبقة الحاكمة وتخلّفه عن تحقيق تناوب حقيقي على السلطة، يفسَر هذا العقم المقلق في إجتراح سياسات خلاقة جديدة تحاكي شروط الراهن، بالتالي الإخفاق في الخروج بخلاصات تتجاوز تلك التقليدية البليدة في مقاربة العلاقة مع الجار المغربي.

من جهته، يستمرُ المغرب في ابراز اختلاف نظامه عن نظام الجار الجزائري. انتقل البلدُ من ملكية جامدة مطلقة إلى مسار باتجاه الملكية الدستورية الكاملة. فتح الملك الحسن الثاني الفضاء السياسي في تسعينيات القرن الماضي، ما أتاح تناوبا حكومياً أتى بخصوم الملك التاريخيين إلى السلطة. انطلق الملك محمد السادس أبعد من ذلك منتهجاً درب المراجعة التاريخية والأخلاقية للنظام السياسي في بلاده، وصولاً إلى دفعِهِ باصلاحات دستورية أتت بحكومة منتخبة لادارة البلاد. في ذلك أن المغرب الملكي يمارسُ مزاجاً جمهورياً، فيما الجمهورية في الجزائر تنحرف باتجاه ملكية تمارس حكم الرجل الواحد الذي لا بديل له

قيل الكثير عن الأسباب الجذرية لهذا الخلاف. قيل أن دولة الاستقلال في الجزائر أنتجت نظاماً انتهج خيارات يسارية اشتراكية اقتربت من المعسكر الاشتراكي والناصرية والعالمثالثية، فيما الخيارات المغربية الملكية انتهجت مسالك ليبرالية متحالفة مع الغرب ودول الخليج. وقيل أن لبّ الخلاف يعودُ إلى العبث الذي إرتكبه الفرنسيون أيام الاحتلال لجهة اقتطاع منطقة تندوف المغربية وضمها للجزائر، ما أوجد لغماً فجّر حربا في الستينات وقاد إلى ما يشبه القطيعة حتى يومنا هذا. ثم قيل ما قيل عن استفادة الدول المعنية بالمغرب العربي، فرنسا، اسبانيا، الولايات المتحدة وغيرها، من تلك العّلة المغاربية التي تمنعُ اتحاداً وتبعد قوة تخشاها تلك الدول.

انتهت الحربُ الباردة واندثر المعسكر الاشتراكي وذابت العالمثالثية. غاب ناصر والناصرية، وسقطت الايديولوجيات العروبية وتفتت الأنظمة العربية المبشّرة بذلك. بات البلدان، المغرب والجزائر، يتمتعان بعلاقات حيوية مع أوروبا والولايات المتحدة، كما مع روسيا والصين. ومرّٓ الجزائر بعشريته السوداء على نحو يفترض أنه بدّل الخصوم والأعداء، فيما حدّثت العلاقات الدولية المعاصرة وسائل وأد المشاكل الحدودية، كما إدارة العلاقات الثنائية بنجاعة عالية حتى في ظل بقاء الاشكاليات العتيقة

وبغضّ النظر عن التخمينات التي قد يرتكبُها المراقب في محاولة فهم الموقف الجزائري، فبالامكان الاعتماد على شروط رسمية عبّر عنها، العام الماضي، المتحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية الجزائري عمار بلاني، لتطبيع العلاقات الثنائية وإعادة فتح الحدود: فتح الحدود البرية بين البلدين يستدعي الوقف الفوري لحملة التشويه التي تقودها الدوائر المغربية الرسمية وغير الرسمية ضد الجزائر ثم التعاون الصادق والفعال والمثمر من قبل السلطات المغربية لوقف تدفق وتهريب المخدرات الى الجزائر ثم احترام موقف الحكومة الجزائرية فيما يتعلق بمسألة الصحراء الغربية .

واضح أن المطلبيّن الأوليّن إجرائيان لا اشكالية فيهما وأنهما زيادة عدد للوصول إلى لبّ المشكلة المتعلقة بالصحراء. وواضح أن الشرط الجزائري الثالث تعجيزيٌ يطالب المغرب بالاعتراف والتسليم بما هو أساساً أصل المشكلة بين البلديّن. في هذا، أن الجزائر ما زالت تستخدمُ مقارباتٍ مستحيلة هدفها البقاء على ملفات التأزيم.

تتشاركُ اسبانيا وبريطانيا في الاتحاد الاوروبي رغم الخلاف المتعلق بمضيق جبل طارق، كما تتنامى العلاقة بين اليابان وروسيا رغم أن طوكيو ما برحت تطالب موسكو بالانسحاب من جزر الكوريل المحتلة، وطالما أننا نتحدث عن المغرب، فإن الرباط مرتبطة بعلاقات سياسية واقتصادية متقدمة مع مدريد، على الرغم من مطالبة المغرب بتحرير مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين من الاحتلال الاسباني.

نستطيعُ أن نورد عشرات الأمثلة في العالم التي تسلّط المجهر على كمّ النزاعات الثنائية في العالم ووسائل التعامل معها. تعرفُ الجزائر ذلك وتدركه جيداً، بيد أن الأمر ليس خلافاً حدوديا أو اشكالاً اجرائياً أو أزمة دبلوماسية، بل قرار استراتيجي بإبقاء التوتر مع المغرب مستعراً كقاعدة من قواعد النظام السياسي الجزائري التي لن تتبدل إلا بتبدل النظام برمته. فقد وجدت الجزائر في قضية الصحراء ذريعة لفتح جرح دائم مع المغرب، ذلك أنها (أي الصحراء) ليست مصدر الأزمة الحقيقي، فالتوتر (منذ حرب الرمال) سابق على مسألة الصحراء، وهو الذي جعل من الصحراء قضية تناكفُ بها المغرب.

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…