التوفيق بين رأيي الألمانيين : كارل ماركس وكارل يونغ في مسألة الدين
عن موقع مجلة التسامح
شتنبر 2014
أسامة شماشان(*يحلو للسلطات القمعية في أي بلد أن تضع معظم التيارات -الدينية وبخاصة الإسلامية المطالبة بالإصلاح- بين خيارين مجانبين للصواب: أولهما: الصدام والعنف وهو أمر غير محمود العواقب، ظاهر الخطأ، مرفوض المنطلقات، والخيار الثاني: هو الذوبان والامتصاص، والقبول بكل الأحوال، مهما كانت مزرية، وخصوصاً إن كان هناك (فوبيا) العدو الخارجي الذي يقتضي منّا رصّ الصفوف دائماً لعدم تعريض العباد والبلاد للخطر، ومن نواتج ذلك العيش على فتات ما يتكرم به الحكام. وعدم المطالبة (كافة وليس فقط بضعة أفراد شجعان) بالحقوق المشروعة.
من أخطر الأدوات التي تستخدم من قبل السلطات القمعية: الدّين، فهو محرك شديد الاستنفار، وعالي الحساسية عند احتمال الضغط الخارجي، كما أنه دواء شديد التسكين في شعوب متدينة، بعدت عنها أجزاء عديدة في دينها فارتضت بالقليل منه، مع الفرح الشديد بالحصول على تلك الأقسام البسيطة، رغم عدم الانتباه للفاقد العظيم فيما هو أهم منه أحياناً بكثير.
يظن كثير من أهل العلم فضلاً عن الملتزمين العفوين أن المطالبة بالحريات أمر مرادف لقلة الدين وتفكك الأخلاق، وربما يصل إلى حد الزندقة والكفر؛ بل العمالة للغرب، وساعد على ذلك متسلطون شديدو الدهاء، يقايضون الحريات بمغانم ضحلة لشبكة من أصحاب العمائم السذج، شربوا الخنوع ثم أعادوا تربية الأمة عليه تارة أخرى، وفي حين أنهم ينادون دوماً بأنه لا إله إلا الله؛ فإنهم قد ينسون مقتضياتها ومنها: أن العبودية لله وحده، وأن إقامة التوحيد لله لا يمكن أن تتم ما دامت هناك عبودية لفرعون وقومه.
هذا ما حذا بالصحفي الرديكالي الألماني كارل ماركس 1818-1883 الذي عاش فترة نادرة في تاريخ الإنسانية من القمع والاستبداد ومصادرة الحريات، فسجن وطرد من بلد لآخر حتى وافته المنية في بلد الاغتراب، لذلك بقي مصطلح الاغتراب أينما ورد يذّكر د كارل ماركس…
(وليس ثمة وصف للدّين أكثر شهرة ورواجاً من ذلك الذي استلهمه ماركس من كانط أو سواه، ومن ثم ألحقت باسمه ليقدّم بوصفه من أكبر الساخطين أو الناقمين على الدين خاصة، والمقدس كبعد حاسم فيه..)(1).
ولمزيد من الإيضاح. فإن هذه العبارة التي وردت في سياقها كالتالي:
«إن الشقاء الديني هو -من جهة تعبير- عن الشقاء الواقعي، ومن جهة أخرى احتجاج على الشقاء الواقعي. الدين هو تنهيدة الكائن المقهور قلب العالم العديم القلب، كما هو روح الأوضاع العديمة الروح…إنه أفيون الشعب»(2).
هذه العبارة غالباً ما اقتلعت من نصها الحقيقي، وقد لوي عنق هذا المقتطف وأخذ بدلالة غريبة عما قاله ماركس في هذا المضمار؛ ليعني ضمناً أنَ الدين أفيون للشعوب، وبصيغة الجمع والإطلاق؛ أي أنه مخدر فحسب، يعطى للبشر بشكل خارجي؛ بينما تم تجاهل السياق التاريخي واللغوي اللذيْن وردت فيهما العبارة، ومن هنا فإن شيوعها المبالغ فيه يخفي في حده الأدنى مدى تعقد المسألة التي نحن في صددها. وأهميتها.
تجب الإشارة بداية إلى أن تأكيد ماركس على معنى الأفيون واستخدامه لهذا الوصف ينبغي ألا يثير دهشتنا؛ فهذا الاستخدام كان شائعاً من قبل، وقد عنى الكثيرون بإطلاق صفة الأفيون أو ما يشبه ذلك على الدين والممارسات الدينية، فقد سبق كانط أحد إنساني النهضة ويدعى إرآسموس Erasmus الذي كتب إلى نظيره مالدوناتوه Maldonato يصف أثر الطقوس الدينية في العصور الوسطى بالقول: «كانت تفرق العالم في سبات عميق دون فعل المخدرات، والرهبان أو بالأحرى أشباه الرهبان كانوا يسيطرون على ضمائر الناس؛ لأنهم أوثقوهم بعقد لا يحل»(3) ، مثل تلك الاستعارات والإشارات عديدة تحتشد بها نصوص ماركس، ومع ذلك قلّ ما تحمل الباحثون عناء التحقيق فيها والبحث بصورة جديدة وجديَّة.
علاوة على ذلك نلحظ أن إلحاد ماركس الحقيقي وصل منجزه النقدي للواقع بصورة عامة، وللدين بصورة خاصة قياساً إلى كتابات معظم هراطقة التاريخ الإنساني، أمثال (نيتشه) الذي انتقد المسيحية وناهضها بعبارات أقصى وأشد إيلاماً يتضاءل فيقتصر فيقل أثره، على الرغم من أنه أرفع مدلولاً، وأكثر دقة وصرامة من الناحية العلمية. ومع ذلك لا يأبه الكثيرون بتلك النماذج أو الأمثلة؛ ليختزلوا عبقرية ماركس الفلسفية والسياسية والفكرية على نحو تعسفي في موقف الهرطوق. يجدف بحق كل ماله قيمة مقدسة أو إلهية؛ ولعلنا ننطلق من هذا الإشكال موضوع البحث والذي هو تاريخي بالتأكيد ولا يزال قائماً ومحتفظاً بحرارته، لا بين المتشيعين لفكر ماركس وفلسفته فحسب؛ وإنما بين خصوم فكره أيضاً، وينجم عن ذلك أمر يتمثل في أن أي بحث عن موضوع الدين داخل منظومة ماركس المعرفية، واستنباط حقيقة مواقفه ومصادرها ينبغي ألا يستجيب لجملة المصادرات القائمة، الموضوعية التاريخية منها والنظرية، التي ترتبت على القراءات السابقة؛ بل يجب الولوج إلى عمق سيكولوجية ماركس، وما الذي كونها على هذا النحو الذي جعل منه شخصية راديكالية ثائرة على القمع والاستبداد والظلم. لذلك فقد وجدت من المفيد مقارنته بفيلسوف وعالم نفسي ألماني أيضاً؛ ولكنه عاش بعد ماركس مباشرةً وفي الفترة التي قفزت فيها الفيزياء قفزتها المشهورة على يد ماكس بلانك 1900، وتحول العالم من نظام ميكانيكي كلاسيكي حتمي إلى ظاهرة شواشيه Chaus (كايوس) بالتعبير اليوناني أي فوضى وعشوائية، وما انفطر عنها من تطور في التكنولوجيا والمدينة الإلكترونية الجبارة التي تتخلل أدق دقائق حياتنا إلى يومنا هذا.
إذاً سنتناول بالدراسة والمقارنة ما كتبه رائد مدرسة علم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ في المسألة الدينية.
أولاً: الدين والإيديولوجية عند ماركس:
(إن قراءة نصوص ماركس تشير إلى -كما يبدو لنا- أنه استعمل مصطلح الأيديولوجية بمعان عديدة ومختلفة، ينبغي فهمها وتميزها طبقاً لسياق تداولها.
ولا تبدو الرغبة حثيثة لنا ومفيدة في هذا الصدد للشروع معها في إيجاد تعريف جامع مانع لها، ومهما يكن من أمر فإنه ينبغي بداية إعلان المقصود بالأيديولوجية بربطها بالأيديولوجية الدينية بالمعنى الحصري عوضاً عن الانهماك في مناقشة واسعة حول تلك المسألة) (4)، فضلاً عن ذلك فإن القيمة الإجرائية لهذا الموقف تبرز عندما نسلم بأن معظم انتقادات ماركس تنصب على الدين كأيديولوجية بقدر أكبر مما على الدين كدين بالذات.
إذا ًثمة تمييز يفرض نفسه علينا لدى تناول نص ماركس الشهير في وصف الدين حين يقول: «الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، وخلاصته الموسوعية، منطقه في شكل شعبي، روحانيته، حماسته، عقوبته المعنوية، تتمته المهيبة، أساسه الكوني لأجل العزاء والتبرير».
لكن ماركس لا يكتفي بهذا بَعَدِّ الدين مجرد تعبير عن الإذعان والسلوى، أو النظر إليه فقط كعقيدة تفسر العالم وتبرر نظامه القائم؛ إنه بالمقابل يقرر إلى جانب لحظة الانعكاس هذه لحظة أخرى، حيث يضيف: «إن الشقاء الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن الشقاء الواقعي واحتجاج على هذا الشقاء الواقعي»(5).
بهذا التمييز نكتشف إن الدين ليس مجرد عقيدة سلبية يلجأ إلى تبرير علوي ويحث على الخنوع والركون، فلا نستطيع أن نغفل أو نفصل عن البرهة الأخرى. لقد كان أيضاً على الدوام دعامة أساسية (للاحتجاج والرفض) حتى إن العديد من الثورات والتمردات الفلاحية قامت تحت راية الدين في العصور الوسطى، وهذا هو المثال الذي يقدمه لنا الصديق الحميم لماركس (فردريل إنفلز) في كتابه عن حرب الفلاحين في ألمانيا.. لا شك في أن علاقة الوعي الديني بالصراع الاجتماعي هي أكثر تعقيداً أو تركيباً، فالذي يميز الخطاب الديني كونه لا ينحصر في نمط توجيه أحادي؛ بل في مرونة الإرسال وتعدد التلقي وتنوعه. يتضح ذلك أكثر عند إسناد هذا الخطاب إلى تجربة اجتماعية وتاريخية تحفل بالصراعات والنزاعات في المصالح والإرادات، حيث يلاحظ تعدد الرؤى وتنوع الأفهام في تلقيه تبعاً لدور المتلقي في هذا الصراع ومكانته، من هنا ينبغي الحذر لدى إبراز علاقة الخطاب الديني بوصفه تعويضاً ومن جهة أخرى بوصفه احتجاجاً. وهذا ما يفسر تنوع المنظورات التي اعتمدها ماركس وانفلز لدى تقييم الوعي الديني. والقسم الأكبر من تحليلاتهما مخصصة للمسيحية في مراحلها المختلفة وخصوصاً على صعيد تاريخ ألمانيا.
(وعلى صعيد الذات يقر ماركس بأن الدين هو شكل مغترب لوعي الذات – الدين هو وعي الذات، أو الشعور بالذات، عند الإنسان الذي لم يجد نفسه بعد، أو أضاع نفسه ثانية) (6).
في الواقع ينطوي الاغتراب الديني على بُعد نظري أساساً، بالمعنى الذي يفيد في اعتبار الدين شكلاً مستلباً لوعي الذات حيث يفقد الإنسان إنسانيته عندما يعي العالم على نحو مقلوب وزائف.. إنه اغتراب على صعيد الفكر يخضع فيه لسيرورات متخيلة وملغزة، غامضة، مجردة من كل صفة واقعية أو علمية..
في حين أن الإيديولوجية تشير على نحو مباشر إلى البعد العملي في الدين على نحو بارز وبنوع من التشديد، نخلص مما سبق أن للأيديولوجية الدينية عند ماركس محتوى مزدوج، فهي من ناحية أولى نظرية عامة مجردة، وهي بهذا الحسبان تشترك مع الأسطورة والفن والشعر…إلخ؛ إذ إنها تنطوي على مستبقيات قبل علمية ورواسب لا عقلانية، كالمفاهيم المشوهة والتصورات البتراء والمتخيلات والأوهام المترعة بالرغبات والأحلام، كزيارة القبور مثلاً، وطلب المدد منها، والتبرك بها، وغيرها كثير مما دخل على الدين من بدع لا أصل لها ولا فائدة، وهي منبثقة من واقع جزئي محدد تندرج كمبادئ موجهة في الحركة الحيوية للتاريخ البشري، وتشق طريقها إلى الفاعلين فيها من خلال الإيعازات والأوامر والنواهي الكلية التي تفرضها من علٍ، تسند إليه شريعتها ومصداقيتها. وبقدر ما يكون هذا السند مصعداً، منزهاً عن الواقع الذي انبثق عنه أصلاً، تكون تلك المبادئ الصادرة عنه ثابتة ومطلقة وكلية مجردة لا تكترث بالحدث الجزئي العابر والمحدود؛ بل تجهله بالنتيجة؛ لأنها تجهل التاريخ أصلاً.
ونظراً لهذه العلاقة التي تصل الإيديولوجية بالواقع؛ فإن الثنائية المتحولة للوهم والواقع التي تدخل في تركيبتها -والمتغيرة حسب الأوضاع والظروف الإنسانية- تومئ بصورة غير مباشرة، وتعكس درجة الإذعان والاحتجاج على نحو طردي، ولهذا نجد أنه كلما ازدادت درجة الوهم في الخطاب الإيديولوجي الديني كان ذلك انعكاساً لشدة درجة الإذعان لدى المتلقين ولدور الميزة الاستلابية له، والعكس يبدو صحيحاً كلما كان الناس أكثر خضوعاً واستسلاماً لأقدارهم وبؤسهم كانت عملية الخداع الإيديولوجي للدين كوهم وأفيون أشد تأثيراً وأقوى.
وبالمقابل كلما عمد الأفراد الفاعلون إلى الاحتجاج على ظروفهم وواقعهم قلت حاجتهم إلى الدين كوهم بديل عن الواقع يبرر تعاستهم وعجزهم، وشرعوا باستدعاء القاع الإنساني العميق في الدين وتمثيله نظرياً وفعلياً، ذلك القاع الذي يسوغ رفضهم، ويتفق مع ممارستهم المعلنة والواقعية.
إن إحدى المعضلات الأكثر تحدياً للذوات الفاعلة -على صعيد الإيديولوجية الدينية- هي النزول من عالم النص إلى العالم الواقعي والتوفيق بينهما، وفي قول آخر هي التوفيق بين المحتوى المطلق والثابت للخطاب الديني وبين حركة الواقع النسبية.
وبعد هذا العرض الموجز لرؤية ماركس لمفهوم الإيديولوجية الدينية نتحول إلى عالم النفس الألماني كارل يونغ لنرى منهجه في تناول مفهوم الإيديولوجية الدينية، وكيف نظر إليه، ومن أي زاوية، وماذا يعني عنده هذا المصطلح؟!
يذهب إمام علم النفس التحليلي كارل يونغ إلى رفض مصطلح الإيديولوجية الدينية رفضاً تاماً؛ وذلك لأن الدين -في المنظور اليونغي- ليس كسباً حصله الإنسان في مجرى تطوره الاجتماعي؛ بل غريزة متأصلة –يسميها أحياناً السعي نحو الكلية- لا يسع الإنسان قهرها، كما لا يسعه قهر الغريزة الجنسية دون أن يترتب على ذلك أمراض نفسية قد تودي أحياناً بعقله. من هنا نلحظ بوضوح الاختلاف في تناول المسألة الدينية لدى كل من الفيلسوفين ماركس ويونغ حيث إن ماركس قد درس الإنسان من الخارج، وصنفه في جماعات دائماً، وهو بذلك يقع في الخطأ نفسه، الذي وقع فيه أستاذ يونغ ألا وهو فرويد الذي أخضع الإنسان إلى قانون كلي يجمع البشرية تحته وهو قانون الجنس الذي يحكم الإنسان، وملخص الصراع بين مراحل ثلاث (الهو- الأنا- الأنا العليا) الذي يعاني منه كل واحد منا نتيجة الكبت مما يؤدي إلى العصاب، وذلك حسب فرويد.
أما ماركس فقد أسماه صراع بين الطبقات الاجتماعية، وهو بذلك يضع قانوناً كلياً حتميا يحكم الإنسان أيضاً.
وفي هذا يختلف يونغ مع فرويد وماركس اختلافاً جذرياً، وهو الذي يقول بصدد الغريزة الدينية: (فإن كان سعي الإنسان نحو هدف روحي ليس فطرة أصلية؛ بل نتيجة لتطور اجتماعي خاص؛ فعندئذ يكون التفسير وفقاً لمبادئ الجنس أنسب التفسيرات وأكثرها قبولاً؛ لكن حتى لو كان سعي الإنسان نحو الكلية والوحدة غريزة متأصلة، وأقمنا تفسيرنا على هذا المبدأ بصفة رئيسية تظل الحقيقة ماثلة، وهي وجود صلة وثيقة بين الغريزة الجنسية والسعي نحو الكلية، إذا استثنينا التوق الديني لم نجد شيئاً يتحدى الإنسان كما يتحداه الجنس. كذلك نستطيع القول -ونحن مطمئنون-: إن خضوع الإنسان لسلطان الغريزة الجنسية أكبر من خضوعه لغريزة الكلية.
وهذه المسألة يبتّ بها وفقاً لمزاج الإنسان وميوله الذاتية؛ لكن الشيء الوحيد الذي لا نشك فيه أن الغريزة الدينية المتمثلة في السعي نحو الكلية -وهي أهم الغرائز الأساسية- تلعب أقل الأدوار في الواعية المعاصرة؛ لأنها لا تستطيع أن تتحرر إلا بأعظم جهد، تصحبه سقطات مستمرة إلى الخلف، منشؤها التلوث الآتي من قبل الغريزتين الأخريين (الجنس والسيطرة) فهاتان الغريزتان تلقيان استجابة من عامة الناس؛ إذ هما من الحقائق اليومية التي يعرفها الناس جميعاً، بخلاف غريزة الكلية التي تتطلب -للتدليل عليها- واعية متميزة إلى درجة عالية، وفكراً وتأملا ومسؤولية، وعدداً من الفضائل الأخرى. لذلك هي لا تمنح نفسها لإنسان غير واع نسبياً، فتساق وراء غرائزه الطبيعية؛ لأنه وهو المحبوس في عالمه المألوف، لاصق بالشائع والممكن والصالح في نظر المجموع وشعاره: «التفكير أمر صعب! ألا فلينطق الجمهور بالحكم!»، ومثل هذا الإنسان لا يريحه شيء كما يريحه ذاك الذي يتضح له أنه عادي مبتذل، بعد أن كان يبدو معقداً، غير عادي، محيراً إشكالياً، خصوصاً إذا بدا الحل بسيطاً إلى حد يثير العجب، تافهاً إلى حد يبعث على الضحك(7).
إن درس النماذج البشرية وتصنيفها -بحسب رجحان وظيفة أو أخرى من وظائف النفس الأساسية الأربع (الفكر – الشعور- الإحساس – الحدس)- ملمح رئيس من الملامح التي تميزت بها المدرسة اليونغية.
فالإنسان ميال بطبعه إلى تسخير الوظيفة التي برع بها أكثر من غيرها، وهو في هذا يقوي هذه الوظيفة ويضعف غيرها. فيما تعمل هذه الوظيفة في الوقت نفسه على طبعه بطابعها، وذلك بحسب حاجاته ومآزقه التي تواجهه أو يقع بها، وهو في هذا يشبه التمساح الذي يضرب بذيله (أداته الأقوى) لا بيده (أداته الأضعف)، والأسد الذي يضرب بيده لا بذيله، وعند يونغ أن هذا يفسر لنا لماذا يفكر الإنسان على هذا النحو أو ذاك.
هنا نلحظ كيف يلتقي يونغ مع ماركس في استدعاء الإيديولوجية الدينية العملانية، وفي تقوية أو تفعيل الغريزة الدينية عند يونغ، وكلاهما عند الحاجة التي تواجه الإنسان؛ ولكن مع فارق مهم نذكر به أيضاً وهو أن ماركس ينظر إلى الإنسان كجماعات، ويونغ ينظر إليه كفرد، ماركس ينظر إلى الإنسان من الخارج، ويونغ ينظر إليه من الداخل.
ولعل أهم ما كشفت عنه المدرسة اليونغية الوراثة النفسية المتمثلة بـ(الخافية الجامعة) وما احتوت عليه من نماذج بدئية Archetypes في مقابل الوراثة الجسمانية، أو مقابل الطقوس والشعارات الدينية التي لا طائل منها عند ماركس؛ حيث يصفها ماركس قائلا: «إن المبادئ الاجتماعية للمسيحية تبشر بضرورة وجود طبقة مهيمنة وأخرى مقموعة، وبالنسبة للأخيرة ليس لديها ما تقدمه سوى التمني الورع أن ترأف بها الأولى وتحسن إليها، إن المبادئ والطقوس الدينية المسيحية تصنع في السماء تعويض الكاهن عن جميع المهانات، وبذلك تبرر استمرار هذه الشرور.. إلخ»(8). في حين أن يونغ يرى في هذه الطقوس نشأة أصيلة ووظيفة نفسية هامة لا يسع شرحها الآن ونكتفي بقوله: «إن الخافية العامة –أو الجمعية- طبقة أعمق من الخافية الخاصة أو الشخصية، وأبعد منها غوراً، وهي المادة المجهولة التي نشأت منها واعيتنا»(9).
حيث يذهب يونغ أيضاً إلى «أن النماذج البدئية قد تشكلت على مدى ألوف السنين، عندما بدأ الدماغ والوعي البشريان ينفصلان عن الحالة الحيوانية؛ لكن طرأت على صورهما تعديلات أو تغييرات كانت متطابقة مع العهد الذي ظهر فيه الدماغ أو الوعي، ولا سيما التي تدل على تغيير هام في الحياة النفسية» والأفكار الميثولوجية، كما يقول يونغ: «هي أفكار حقيقية بصفة جوهرية، وهي أقدم من كل فلسفة، مثل معرفتنا بالطبيعة الفيزيائية. كانت الأساطير في الأصل إدراكات واختبارات، وبمقدار ما تكون هذه الأفكار عالمية تكون أعراضاً أو خواص أو أدلة على الحياة النفسية، وهي ماثلة أمامنا بصورة طبيعية. وليست بحاجة إلى البرهنة على حقيقتها. والسؤال الوحيد الذي يمكننا أن نبحثه في شيء من الجدوى هو عالميتها أو عدمها، فإن كانت عالمية علمنا أنها تنتسب إلى المكونات الطبيعية والبنية السليمة التي تنهض عليها النفس، وإن لم نجدها بأي نوع من الصدفة في واعية إنسان ما، فهي عندئذ موجودة في خافيته (لاشعوره)، وحالته -عندئذ- من الحالات الشاذة، وكلما قَلّت هذه الأفكار العالمية في الواعية كانت أكثر في الخافية، وكان تأثيرها أكبر على العقل الواعي، هذه الحالة من الأشياء تشبه الاضطراب العصابي بعض الشيء»(10).
ومن هذه الرؤية الجمعية لدى كل من ماركس ويونغ للدين عند الإنسان حيث اعتبر ماركس مسألة الدين قضية إيديولوجية انتربولوجية، واعتبر يونغ الدين غريزة لدى بني البشر لا يستطيعون الاستغناء عنها أبداً.
وفي هذه العجالة لا بد لنا من إلقاء نظرة على مصطلح الاغتراب لدى ماركس، وما الذي عنى به، وما علاقة الدين بالاغتراب عند ماركس، وكيف لنا أن نقرأ رداً على هذه الجدلية عند يونغ الذي قلنا سالفاً: إنه درس الإنسان من الداخل، وهل من اغتراب ديني لديه عند الإنسان…لنقرأ معاً:
ثانياً: الاغتراب الديني عند ماركس:
«لقد سبق لغوير باخ أنه انطلق في نقده للفلسفة المثالية -وخاصة الهيغلية- من اعتبارات نقده للاغتراب الديني، وبالفعل كان نقده للمثالية -التالي لنقده للدين- يجد تفسيره إلى حد كبير في الصيغة الاغترابية التي تجسدها فلسفة هيغل، وكانت تقوم بدور مماثل لدور الدين أو اللاهوت الديني. وعلى النقيض من هيغل أكد فويرباخ أن لمحتوى الدين وموضوعه طابعاً بشرياً، وأن سر اللاهوت يكمن في الانتربولوجية، وأن سر الكينونة الإلهية يكمن في الكينونة البشرية، وأن لانهائية الفلسفة الهيغلية منسوخة نسخاً عن لانهائية الدين. من هنا افترض بأنه إذا لم ننقد فلسفة هيغل لا نكون قد أنجزنا نقد الدين واللاهوت المسيحي، إنهما النتاج الأسمى والأخير للمسيحية في لغة جدلية، إنها نوع من الدين أو اللاهوت المقنع أفهومياً.
يحدد فوير باخ الاغتراب من خلال إضفاء الإنسان ذاته وجوده النوعي على ما ليس له وجود إلا في فكره، في تصويره ومخيلته، على وجود إلهي مفارق. لقد خلق الإنسان -هذا الكائن الأسمى- الإله وافترضه على صورته، ومن ثم أسقط عليه أسمى صفاته النوعية، وجعل وجوده خارجياً؛ فالكائن الإلهي ما هو إلا الإنسان نفسه، ويكفي -بحسب فويرباخ- أن يسترد مادته التي خلعها عن ذاته وجسدها في المتعالي، حتى تظهر طبيعته الحقة. لقد أصبح الدين حقلاً لقلب العلاقات الحقيقية بين الإنسان والله، بين الذات والموضوع يسقط الإنسان من خلال صفاته خارجاً عنه»(11).
إن نفي الله والماوراء وإنكارهما كانا نتيجة لاعتقاد فوير باخ بأنه السبيل الوحيد لعودة الإنسان إلى كينونته الحقيقية.
لقد حظيت نظرية الاغتراب الديني لدى فوير باخ بعناية ماركس واهتمامه الفائقين، فمثلما سبق يوحنا المعمدان السيد المسيح؛ كذلك سبق فوير باخ ماركس على هذا الصعيد. هنا نلحظ الحضور الكثيف لنصوص جوهر المسيحية وخلاصاتها الموجزة ومأثوراتها لدى ماركس، الذي تعاطى معها في مقالاته حول الدين بنوع من المهارة النقدية الفائقة، التي لا تخلو من الاستباحة أحياناً.
وبالنسبة لوجهة نظر ماركس في الاغتراب يمكننا أن نشير -إضافة لما سبق- إلى مصدرين فلسفيين ألمانيين له ونميزهما: الأول آت من نيتشه، فالاغتراب لديه هو الفعل الذي تطرح به الذات الموضوع وتتخارج. فالموضوع -أي اللا أنا في جملتها- نتاج حركة اغتراب للفكر الذاتي، ويشير إلى الموضوع بعده تعيناً من جانب الذات وإبداع لها؛ أي أن الذات تبدع هذه اللا أنا وتطرحها خارجاً.
أما المصدر الثاني فهو الأكثر تعقيداً واتساعاً والمعني به هو هيغل والمنهج الماثل في كتابه فينومنولوجيا الروح وخاصة في فصول جدلية السيد والعبد.
لقد أعرب إ.فروم تالياً عن تلك الأهمية بالقول: «هناك تصحيح وحيد أجراه التاريخ على مفهوم ماركس للاغتراب. ماركس كان يعتقد بأن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر اغتراباً، من هنا فإن الانعتاق من الاغتراب يفترض بالضرورة الشروع بتمرير الطبقة العاملة؛ بيد أن ماركس لم يستطع أن يتنبأ بالدرجة التي سيصبح فيها مصير الغالبية العظمى للناس، خصوصاً ذلك القسم المتزايد باستمرار من الجمهور الذي يتعامل مع الرموز والبشر بأكثر من تعامله مع الآلات»(12).
ليس في وسعنا أن نمضي في هذا النقاش أكثر؛ لكن يغدو ضرورياً لفت الانتباه إلى مسألة خاصة، وهي أن بعض الباحثين قد جعل في مسألة الاغتراب -كفكرة إنسانية رومانسية أو إيديولوجية طارئة على فكر ماركس الشاب، الذي ما لبث أن تخلى عنها على نحو صريح في كثير أو قليل في إطار تفكيره الناضج، واستعاض عنها بفكرة أخرى- على أنها نتيجة صحية لتطوره الفكري من الأيديولوجي إلى العلمي.
«من أجل توضيح ذلك يشار إلى أن مفهوم الاغتراب كان وما زال حاضراً في معظم كتاباته فماركس الشاب الذي كتب (مخطوطات 1844) وكتب (أسس نقد الاقتصاد السياسي) عام 1857-1858م عندما كان له من العمر أربعون عاماً، وماركس الشيخ صاحب (رأس المال) لم يغفل الإشارة إلى تلك المسألة في نصوصه، فمفهوم الاغتراب حاضر في تلك الأعمال بهذا القدر أو ذاك، بهذه الصيغة أو تلك»(13).
إن نقد الاغتراب الديني لدى ماركس على الرغم من أنه يعتمد على النتائج التي توصل إليها من سبقوه في هذا الشأن، ومارست التأثير المباشر القوي في صوغ نظريته في الاغتراب، إلا أنه في حقيقة الأمر ينفصل عنهم في تأكيده أولا على التضامن العميق بين الاغتراب الديني والاغتراب الاجتماعي، فمن شأن الأخير أن يتعزز ويترسخ عبر أنماط التعويض الوهمية والعزاء التي يقدمها الدين، الذي يعلل القهر والعبودية الناشئيْن عن الاستغلال الاجتماعي بأنه قدر أبدي، يسنده إلى رغبة إلهية سامية، ومن ثم يطرح عوضاً خلاصياً في عالم الماوراء.
الاغتراب الديني لدى ماركس هو اللحظة التي يحقق فيها الانعكاس المقلوب اختلاله الكلي للوعي، فلا تعود علاقة الإنسان مع ذاته أو مع الأشياء المحيطة به في صورتها الصحيحة والمطابقة. إن الاغتراب الديني في أحد أوجهه هو نوع من تقديم الوهم على الواقع بديلاً من الإخفاق المادي، ويستهدف في النهاية إجبار الوعي على القبول والإذعان لهذا الواقع.
إن الإنسان من منظور ماركس لا يغترب في العالم الديني دون أسباب واقعية في العالم الدنيوي،
ربما نكون قد توصلنا إلى خلاصة موجزة ومفهومة عن رأي ماركس في الاغتراب الديني ونحن لا نزال نشتم رائحة الجماعة والتجمعات البشرية فيما يقدمه لنا ماركس من تحليل لاغتراب الإنسان، وكأنه -أي ماركس- إلى الآن لم يستطع أن ينفذ إلى داخل الإنسان، كما فعل ونجح من بعده الفيلسوف وعالم النفس التحليلي كارل يونغ.
ولننتقل الآن لنرى كيف يفهم يونغ ما يسميه ماركس بالاغتراب الديني، حيث يعرّف يونغ الدين بأنه «مراقبة دقيقة صارمة لما اصطلح عليه «دودلف أتو» وأسماه بحق نيومنوزم – أي وجود أثر دينامي غير ناشئ عن فعل إرادي تحكمي؛ بل هو على النقيض من ذلك، يستولي على النفس ويخضعها لسلطانه، فتكون دائماً ضحيته بأكثر مما تكون خالقا له، فالروح من النفس حالة غير إرادية من النفس كائناً ما كان سببها»(14).
فكأن للدين جهازاً يؤدي وظيفة نفسية (طبعاً، بالإضافة إلى وظيفة اجتماعية) تماماً كما يؤدي جهاز الرئتين والقصبة الهوائية وظيفة التنفس التي تنقي الدم من غاز الفحم، وتمده بالأكسجين.
فكما أن الإنسان لم يصنع جهاز التنفس؛ كذلك لم يصنع جهازه الديني؛ إذ ليس الموضوع موضوع اختيار إرادي؛ بل هو أن الدين (من حيث هو جهاز قائم في النفس) يتخذ من الإنسان محلاً لأداء وظيفته في الإنسان.
وفي العودة إلى تعريف يونغ للدين، نشير إلى عبارة (وجود دينامي)، هذه (الدينامية) هي الكلمة التي عليها العمدة في هذا التعريف، وهي دينامية الوظيفة الدينية التي تجعل غير من المجدي -بل من الخطر- محاولة الخلص منها بتفسير ما(15).
أما بالنسبة إلى ما ذهب إليه فوير باخ وماركس بأن (الإنسان يخلق آلهته وهماً ليعوض شقاءه وبؤسه ويستبد الواقع بالوهم؛ فإن يونغ يرد على ذلك أن الآلهة في الداخل أي داخل الإنسان، وليست خارجه، فمعظم الأديان تقول: إن الله في الخارج أو في السماء؛ لكن علم النفس التحليلي يقول غير ذلك.
يقول يونغ في هذا الصدد: «لقد أصبح الناس في عصرنا يعرفون بأن الخبرة الدينية هي خبرة النفس، ولم يعد في مقدورهم أن يتصوروا أسماء عليا تدور حول عرش الله، كذلك لم يعد بمقدورهم أن يحلموا بالبحث عن الله في مكان ما خارج المجرات»(16).
لقد رتبت مدرسة علم النفس التحليلي على كون الخبرة الدينية هي خبرة النفس نتيجة مهمة جداً، وهي أن الله في الداخل؛ من حيث إن صورة الله منقوشة في نفس الإنسان على الرغم من أن كثيراً من الأديان ترفض هذه الفكرة؛ لكن أين نذهب بدليل الخبرة؟
يذهب يونغ إلى القول بأن الآلهة في الخارج هو نوع من العمى المنظم، وأنه غير قاصر على المسيحية وحدهما، إن الآلهة في رحلة من الخارج إلى الداخل، فعندما كانت النفس مضفاة أو مسقطة في أشياء العالم كانت الآلهة في الخارج. لكن ماذا بعد انكفاء هذا الإضفاء أو الإسقاط؟ يقول يونغ: «لقد أدى التطور السيكولوجي الحديث إلى فهم أفضل لطبيعة الإنسان، وعناصر تكوينه. كانت الآلهة في البدء تتمتع بقوة وجمال لا يتمتع بهما البشر، كانت تسكن فوق قمم الجبال المكللة بالثلوج، أو في ظلمات الكهوف والغابات والبحار، ثم تجمعه كلها في إله واحد، ثم أصبح هذا الإله إنساناً»(17).
لكن هل هذا إنقاص وغض من قيمة الألوهة؟
(لا أبداً؛ لأننا -يقول يونغ- عندما نتكلم عن الإنسان فإنما نعني وجوده، وهذا لا يحد، وكليته لا توصف ولا تصاغ إلا رمزاً).
ولكن إلى أي حد يستطيع الإنسان أن يعرف نفسه؟ يجيبنا يونغ قائلاً: «يظن الإنسان أنه يمسك بالنفس في راحة يده اعتقاداً منه بأن نفسه ما هي إلا واعيته!»(18).
والحق أن النفس تعدت حدود الواعية، حتى ليمكننا أن نشبه هذه الأخيرة بجزيرة في عباب بحر محيط، الجزيرة صغيرة وضيقة، والبحر المحيط واسع وعميق جداً، بحيث لو كانت المسألة مسألة مكان. لم يكن ثمة فرق بين أن تكون الآلهة في الداخل أو الخارج.
لكن لو مضى السياق التاريخي في تجريد العالم من الروح -كما سعى فوير باخ وماركس وغيرهما- إذن لعاد كل ما له صفة إلهية أو شيطانية إلى النفس، إلى الإنسان المجهول، وفي معرض رد يونغ على نيتشه الفيلسوف الألماني الذي أعلن موت الإله يقول يونغ: «كلما اعتمدنا صيغة خارجية، طقسية أو روحية، نستطيع التعبير بواسطتها تعبيراً مكافئاً عن جميع تطلعات وآمالها -على نحو ما نجده في بعض الديانات الحية- أمكننا القول: إن النفس الموجودة في الخارج، ولا وجود لمشكلة روحية، بالمعنى الدقيق للكلمة»(19).
يشير يونغ إلى أن الإسقاط عندما يصل إلى نهايته يعود دائماً إلى منشئه، وعندما يضرب امرؤ على الفكرة المفردة بأن الله ميت، أو غير موجود، تنكفئ صورة الله النفسية، التي هي جزء حركي (دينامي) من البنية النفسية راجعة إلى صاحبها، وتنتج أحوالاً من (كلية القدرة الإلهية) أي إلى جميع الصفات التي يتصف بها البله والمجانين، وتؤدي بالتالي بصاحبها إلى الكارثة) (20).
إن كلية القدرة الإلهية لا تجعل الإنسان كائناً إلهياً؛ بل تملؤه بالغطرسة، وتستثير كل ما فيه من ميول إلى الشر، ينتج عنها كاريكاتور إنسان شيطاني، وهذا القناع غير الإنساني لا يطاق ارتداؤه؛ لأنه يعذب صاحبه فيحمله على إنزال العذاب بالآخرين إن كان في موقع السلطة!! هو كائن منقسم على نفسه فريسة لتناقضات لا تفسير لها.
«هذه صورة عن حال العقل الهيستيرية، عن (المجرم الشاحب) كما دعاه نيتشه»(21)؛ لكن ماذا عن نيتشه وإعلان موت الإله؟
يقول يونغ: «لقد كانت نيتشه واعياً تماماً، وبالتالي مسؤولاً عن كسر الألواح القديمة؛ لكنه -كان مع ذلك- يشعر بحاجة غريبة لأن يشد أزر نفسه بالاعتماد على زرادشت يبعث حياً، بما هو نوع من الشخصية الثانوية، نوع من آنية أخرى كثيراً ما كان يواحد نفسه بها في تراجيديته العظيمة (هكذا تكلم زرادشت)، لم يكن نيتشه ملحداً؛ بل كان إلهه ميتاً، وكان من جراء ذلك أن انشطر نيتشه نفسه، واضطر إلى أن يسمي نفسه الآخرى (زرادشت)، أو في أحيان أخرى (يونيسوس)، وكان في مرض موته يوقع رسائله باسم (زغروس)، وهو (يونيسوس) أهل تراقيا المقطع الأوصال.
تقوم تراجيدية زرادشت على أن نيتشه بعد أن مات إلهه قد أصبح هو نفسه إلهاً (ارتداد صورة الله إلى الداخل)، وإنما حدث هذا لأنه لم يكن ملحداً؛ فقد كان ذا طبيعة إيجابية أكبر من أن ترضى بإيمان سلبي. ولعل من الخطر على مثل هذا الإنسان أن يعلن موت إله؛ لأنه سرعان ما يقع فريسة (الانتفاخ) Inflation، وبما أن فكرة الله تمثل قوة نفسية هامة؛ بل قاهرة يكون من الأسلم -من بعض الأوجه- أن نؤمن بأن هذه القوة المستقلة هي (لا – آنية) Non-ego ربما كينونة تختلف اختلافاً كلياً عن البشر وتتفوق عليهم، والإنسان -في مواجهة هذا الإيمان- لابد أن يشعر أنه بات قريباً من حجمه؛ لكن حين يعلن موت (العظيم) يتعين عليه فوراً أن يعرف أين اختفت هذه الطاقة العظيمة التي كانت في وقت ما ممنوحة لوجود عظيم كعظمة وجود الله، فقد يعود إلى الظهور تحت اسم آخر.
قد يسمى (فوطان) Wotan(22) أو (الدولة) أو مذهباً، أو إيديولوجيا، أو حتى إلحاداً، يؤمن به الناس ويعلقون عليه الآمال، ويرجون منه ما كانوا يأملون ويرجون من الله، وهو إن لم يظهر تحت ستار اسم جديد انكفأ إلى عقل الذي صور عنه إعلان الوفاة أو النفي، وبما أن المسألة مسألة طاقة هائلة سوف تكون النتيجة اضطراباً نفسياً هائلاً يتخذ شكل انفصام في الشخصية، وقد ينتج عن هذا التمزق شخصية شفعية (مزدوجة) أو متعددة، ويصبح الأمر كما لو أن شخصاً لم يعد قادراً بمفرده على حمل كل مقدار الطاقة، فتنبري أجزاء الشخصية التي كانت إلى الآن وحدات تعمل متكاملة، فتدعي لنفسها -بعد أن تشتت- ما للشخصية المستقل من منزلة وأهمية)(23).
الخاتِمـة
وجد هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان؛ بينما اعترض فوليتر بالقول: إن الناس لم يكونوا ذئاباً منذ الأزل؛ بل غدو ذئاباً، أما ماركس فقد جعل عمله أن يشرح لماذا؟ وإن كان قد رأى أيضاً من عمله أن يخبر الناس عن الشروط التي يتنزهون عند وجودها عن التصرف كذئاب، ولكنه -أي ماركس- لم يحط بمكونات الإنسان جميعها، فلقد خلق الله الإنسان من تركيبة عجيبة، وهي المادة أو الجسد والنفس والروح عبّر عنها في صيغة أو عبارة ذهبية بقوله: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾(سورة التين الآية 4). لن تقوم شخصية الإنسان سوية كفرد، ولن تقوم هوية الجماعة؛ إلا إذا أعطت كل مكون من مكوناتها الأصلية حقه، فالمادة حقها بالدراسة والتحليل، وللنفس حقها في التعايش مع جسد سليم يحتضن عقلا سليما وتفكيرا سليما، وللروح حق أيضاً بالتغذي من كافة المصادر الروحية في الكون السماوية منها والأرضية كذلك.
فلا ماركس -الذي رأى الإنسان من الخارج، ولم ينفذ إلى داخله- استطاع أن يحلل مأساة البشرية التي تعاني منها، ولا يونغ كذلك استطاع أن يشرح عذاب النفس والشخصية إلا عبر بُعد واحد أو اثنين، وهذا غير كاف لوضع أركان لنهضة الإنسان وعودة إحياء الإنسان في الإنسان. ربما ذلك يتطلب جهداً عظيماً وزمناً طويلاً ليس من السهل اختزال الإشكالية أو مسخها ببساطة في سطور قليلة؛ بل تحتاج إلى شروح مطولة.
ولكن أين تكمن مشروعية استحضار هذه الجدلية بين ماركس ويونغ التي ربما يتهمها البعض بالعقم واللاجدوى؟!
والحق يقال، أن ماركس الصحفي الراديكالي الذي يعتبر الدين أكبر محرض للإنسان وموقظ له من سباته العميق. هو موجود بيننا ومعنا في كل وقت ومجتمع؛ ولكن الذين نصبوا أنفسهم حماة للشرائع السماوية والأديان كانوا وما يزالون مقصلة بيد الحكام المستبدين؛ ليقطعوا بها ألسنة وأيدي كل كاتب وإنسان حر مطالب بالحقوق والكرامة الإنسانية.
*****************
الحواشي:
1- جان ايف كالفيز، تفكير كارل مراسك، نقد الدين والفلسفة، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، دار اليقظة العربية، دمشق 1959.
2- نفس المصدر والسابق.
3- هيرمان راندل، تكوين العقل الحديث، ج1، ترجمة جورج طعمة، مراجعة برهان دجاين، دار الثقافة، بيروت 1965، ص244.
4- نفس المصدر السابق, ص246.
5- جان ايف كالفيز، تفكير كارل ماركس: نقد الدين والفلسفة.., ص127.
6- نفس المصدر السابق, ص120.
7- كارل يونغ، ظاهرة الأطباق الطائرة، دار المنارة، اللاذقية 1989 ترجمة نهاد خياطة.
8- كارل ماركس، فرديك انفلز، رسائل مختارة 1844-1895، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم موسكو، ص186.
9- علم النفس التحليلي، دار الحوار، اللاذقية 1985- إعداد وتقديم كاري. ف. بانيز، ترجمة نهاد خياطة, ص120.
10- نفس المصدر السابق, ص13.
11- نفس المصدر السابق, ص20.
12- هنري وآخرون، فوير باخ، ترجمة إبراهيم العريس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1982، ص15.
13- ايريك فروم، الدين والتحليل النفسي، ترجمة: فؤاد كامل، دار غريب، القاهرة 1986.
14- جان إيف كالفيز، تفكير كارل ماركس، نقد الدين والفلسفة، ص120.
15- الدين في منظور يونغ، دار فصلت للدراسات والنشر، ترجمة نهاد خياطة، 2000م، ص120.
16- نفس المصدر السابق، ص51.
17- نفس المصدر السابق، ص85.
18- نفس المصدر السابق، ص60.
19- نفس المصدر السابق، ص60.
20- نفس المصدر السابق، ص62.
21- النازية في ضوء علم النفس، المؤسسة الجامعية، بيروت 1992، ص63.
22- نفس المصدر السابق، ص65.
23- إله كَانْت تعبده القبائل الجرمانية قبل اعتناق المسيحية.